سحب الأزمة الاقتصادية القادمة من دول الخليج تلقي بالمزيد من الظلال القاتمة علي الأوضاع في مصر, فقد تدهورت أسعار البترول تحت وطأة حرب الأسعار التي أفقدت الدول المنتجة نحو75% من عائداتها, بينما ترتفع فواتير الحروب المستعرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن, والتي تدفعها عدد من دول الخليج المتورطة في معظم هذه الجبهات, وهو ما دفعها لاتخاذ إجراءات تقشفية وفرض ضرائب علي مواطنيها, وبالطبع شعرت مصر بهزات ارتدادية نتيجة هذه الزلازل العسكرية والاقتصادية, لكن اقتصادنا الهش يتأثر بدرجة أكبر, لضعف أساساته, وشدة أمراضه المتوطنة والخطيرة, وهو ما جعل رئيس الوزراء شريف إسماعيل يبشرنا بإجراءات قاسية, تزيد ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية, ليئن المصريون من وطأة شد الأحزمة, وليس هذا أسوأ ما في المشهد الذي يزداد قتامة, فهناك أحزمة الإرهاب التي تقترب منا شيئا فشيئا, غير مكتفية بوجودها المحدود نسبيا في سيناء, بل أخذت تزحف مقتربة من حدودنا, وبات تنظيم القاعدة وجماعة داعش تسيطران علي معظم جنوب اليمن, ويفرضان سطوتهما علي ميناء عدن الإستراتيجي, والمطل علي مدخل البحر الأحمر.
أما في ليبيا فقد جري رصد عمليات شحن أسلحة بواسطة قوارب مطاطية كبيرة, وسبقها وصول القائد الميداني الداعشي أبو عمر الشيشاني, مع أنباء عن تضاعف أعداد مقاتلي داعش في وسط ليبيا, وتحت تهديد تعاظم قوة داعش يحاول المبعوث الأممي مارتن كوبلر فرض حكومة ليبية تدخل في اختيارها دول أوروبية إلي جانب تركيا وقطر, بينما جري تهميش الدور المصري في المباحثات التي جرت في الصخيرات قرب العاصمة المغربية, ولا خيار أمام الشعب الليبي إلا بالموافقة علي الحكومة الجديدة, أو مواجهة مزيد من تمدد داعش, الذي يأتي بالدمار والفوضي والذبح والسبي, وبدأ الناتو يستعد للتدخل في ليبيا, تحت لافتة محاربة داعش, والمرجح أن تكون القوات بقيادة إيطالية, لتستفز مشاعر الشعب الليبي, وتنكأ جراح فترة الاستعمار الدامية.
ترفض كل من مصر والجزائر وتونس تدخل الناتو العسكري في ليبيا, وتطرح مقاومة ليبية لجماعة داعش, عبر جيشها الوطني, الذي ينبغي دعمه بالسلاح, لكن الدول الأعضاء في الناتو تشير إلي أن إعادة تشكيل وتسليح الجيش الليبي قد تستغرق وقتا طويلا, وهو ما يعني الرضوخ للأمر الواقع, الذي يحمل مخاطر كبيرة علي ليبيا, تشبه ما حدث في العراق.
خسارة التحالف الأمريكي في سوريا والعراق قد تجعل من ليبيا ساحة لتعويض جانب من الخسائر, وهو ما يعني أن الأزمة الليبية مرشحة للتعقيد, وأن التدخل الأجنبي في ليبيا سيكون أكثر حضورا, وهو ما يستدعي تبلور رؤية موحدة تجمع دول الجوار الليبي مع مجلس القبائل والمدن الليبية, والذي يمثل قاعدة واسعة من الشعب الليبي, والعمل بروح الفريق, لما لخطر ما يحدث في ليبيا من تداعيات تهدد الجميع.
هذه الأوضاع المعقدة زادت من الوضع الاقتصادي سوءا, خاصة مع انخفاض تحويلات العمالة المصرية في الخارج, والتي تقلص عددها في ليبيا, مثلما حدث من قبل في العراق, وتأثرت العائدات من دول الخليج بفعل التكاليف الهائلة لتورطها في الحروب الدائرة وانخفاض أسعار النفط, وكان من بين نتائجها أن تتراجع الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية, في الوقت الذي تعاني فيه السياحة من كساد ازداد حدة بعد حادث سفوط الطائرة الروسية.
من الصعب تصديق ما يقال حول أن الإجراءات القاسية لن تمس محدودي الدخل, فهم الطرف الأضعف والشريحة الأكبر, وكان يمكن أن يتحملوا المزيد من القسوة بكل جسارة وصبر لو أنهم رأوا ملامح مختلفة عن سياسات مبارك الاقتصادية, التي عانوا منها طويلا, وتوقعوا أن تتحسن أوضاعهم بعد ثورتي25 يناير و30 يونيو, لكنهم وجدوا أن الأوضاع تزداد سوءا, وكل إجراءات قاسية يأتي بعدها الأكثر قسوة, سواء بتقليص الدعم ورفع الأسعار, أو بيع المزيد من الأصول المملوكة للدولة, ثم جاء قانون الخدمة المدنية, ومعه التبشير بطرد ملايين الموظفين من عملهم, دون إدراك لمدي خطورة البطالة, وأنها ليست فقط إجراء اقتصاديا, بل للبطالة مخاطر اجتماعية وأمنية ونفسية خطيرة.
ليست المشكلة في حجم الفاتورة التي يتعين سدادها, والتي تضخمت بفعل التركة الثقيلة لسياسات امتدت نحو40 عاما, دمرت التعليم والصحة والصناعة والزراعة, لكن المشكلة تكمن في أي اتجاه سوف نسير, ومن سيتحمل العبء الأكبر؟ لقد تحمل الشعب المصري بكل رضا وصبر نتائج هزيمة5 يونيو1967, ودفع ثمن إعادة بناء قواتنا المسلحة وحرب الاستنزاف, التي كانت من أنصع صفحات العطاء والتلاحم الشعبي, لكنه كان في ذلك الوقت يجد درجة كبيرة من العدالة في توزيع الأعباء, وابن الوزير يجلس في نفس المدرسة مع ابن الغفير, ويتلقيان العلاج في نفس المستشفي, والكفاءة هي المعيار الرئيسي, والأفق مفتوحة للترقي الاجتماعي من خلال التعليم والإنتاج, أما الآن فالصورة مختلفة, وانقسم المجتمع بشدة إلي أثرياء لهم مدارسهم الأجنبية ومستشفياتهم الاستثمارية ومنتجعات السكن والاستجمام, بينما تتسع العشوائيات والمدارس التي هجرها المعلمون والمستشفيات التي ليس فيها تجهيزات أو دواء أو أطباء, وبدون إصلاح المسار, وتغيير التوجهات الاقتصادية, فمن الصعب أن يتحمل الفقراء المزيد من الإجراءات القاسية. نقلا عن الأهرام