أراد أن يستريح وأن يشغل باله بأي شيء آخر غير الضجة التي وجد نفسه في قلبها بسبب طبيعة عمله. جلس أمام التلفاز واختار قناة تعرض الأفلام المصرية القديمة، فجاء من نصيبه فيلم «خللي بالك من زوزو»، الذي حقق رقماً قياسياً أثناء عرضه في صالات السينما في سبعينات القرن الماضي، لكن سرعان ما تغيرت أحوال صاحبنا، إذ عادت به الذكريات إلى أيام عرض الفيلم للمرة الأولى، فالبطلة أرادت لفت نظر وشد انتباه البطل فغنت له «يا واد يا تقيل» تلك الأغنية التي ذاع صيتها لسنوات وصاغ كلماتها الراحل صلاح جاهين، وكانت سبباً في مأساة الجالس أمام التلفاز! وقتها كان نال لتوه شهادة الثانوية العامة من دون أن يحقق مجموع درجات تؤهله لدخول الجامعة، سمع عن «معهد أمناء الشرطة» الذي أسسه شعراوي جمعة في عهد عبد الناصر بهدف تخريج رجال شرطة متعلمين ومثقفين ليحلوا محل الأفراد الأميين، ففكر في الالتحاق به، وعندما قادته الصدفة للذهاب إلى السينما شاهد وسمع سعاد حسني وهي تستغرب عزوف حبيبها عن الاستجابة لها: «متقولش أمين شرطة ولا ديبلوماسي».. فهم صاحبنا أن وظيفة أمين الشرطة مهمة وأن «الأمين» اسم وصفقة في آن، وأن موقعه يحظى بتقدير المجتمع، فتشجع وصار «أميناً» ليصبح بعدها رقماً في معادلة سعت كل الأطراف إلى استغلالها بما فيها الأطراف المكونة للمعادلة ذاتها!! شرد ذهن صاحبنا «الأمين» وخرج من (مود) فيلم «زوزو» وسرح في شريط ذكرياته وكيف تحول الأمين أحياناً إلى «ظالم» مكروه، وفي أحيان أخرى إلى «مظلوم» وضحية تستحق الشفقة والتعاطف. في دولة ضربها الفساد، كان طبيعياً أن يفسد بعض الأمناء كغيرهم من الفاسدين من أصحاب المهن الأخرى.
وتحول هؤلاء من حماية القانون إلى معتدين عليه، أو قل اعتبروا أنفسهم القانون نفسه!!، ظل الأمر لسنوات لم يكن هناك تمييز في تجاوزات الشرطة ما بين ضابط وأمين، وإن كانت أخطاء «الأمناء» دوماً تحت المجهر لأنهم الأكثر تعاملاً مع المواطنين في الشارع. وتذكر الأمين أن واقعة قتل الشاب خالد سعيد دين فيها «أمينان» بتهمة تعذيبه في قسم شرطة في الإسكندرية، كما تذكر أن الوزير حبيب العادلي فصل مئات من الأمناء لتجاوزات ارتكبوها، وصارح «الأمين» نفسه وهو يراجع تعرض جهاز الشرطة لضربة عنيفة بعد 25 كانون الثاني (يناير)، لكنه أقر بأن «الأمناء» سعوا للإفادة من الانفلات الذي ضرب البلاد، فنظموا تظاهرات احتجاجية واحتشد آلاف منهم أمام مقر مبنى الوزارة، ورددوا خلالها هتافات غاضبة اعتراضاً على فصل العادلي المنحرفين منهم في عهد مبارك!! ابتسم بخبث، وهو يتذكر كيف انحازت قطاعات كبيرة من القوى الثورية، الشبابية منها خصوصاً، في ذلك الوقت إلى الأمناء ودعموا مطالبهم، وفطن إلى أن «الثورجية» استخدموا «الأمناء» أداة للضغط لا أكثر، وأن الأمناء استغلوا الدعم الثوري فنظموا إضرابات في أقسام الشرطة وصلت حد إغلاقهم بعضها حتى استجاب وزير الداخلية لأبرز مطلب للأمناء المتمثل في إلغاء المحاكمات العسكرية للأمناء واستبدالها بمجالس تأديب وإعادة تعيين من فصلهم سلفه. لم ينكر صاحبنا أن إلغاء المحاكم العسكرية كان نقطة فارقة في مسيرة تجاوزات زملائه الأمناء، إذ اقتصرت عقوبات مجالس التأديب في حال المخالفة على جزاءات إدارية.
انتهى الفيلم وأغلق صاحبنا التلفاز وذهب لينام، لكن الأفكار مازالت تراوده وتصارعه وتؤرقه، خصوصاً تلك المتعلقة بالصراع الذي نشأ بين فئات المجتمع، ومن ضمنها أمناء الشرطة، للقفز فوق المنطق والعدل وارتعاش أيادي الدولة في مواجهة الضغوط، وكيف سعت كل فئة إلى نيل المكاسب حتى على حساب الفئات الأخرى. أقر «الأمين» بأن زملاءه أخطأوا حين اعتدوا على طبيبين بالضرب في مستشفى المطرية واقتادوهما إلى قسم الشرطة، لكنه لاحظ أن الأطباء أنفسهم أغلقوا المستشفيات من دون أن يتعرضوا للعقاب، كما أن عشرات منهم يرتكبون أخطاءً تتسبب في وفاة مرضاهم من دون أن تحاسبهم الدولة التي تخشى رد فعل نقابتهم، واسترجع ما يرتكبه الإعلاميون والصحافيون من أخطاء فادحة ثم يجيشون أنفسهم للدفاع عن الباطل إذا ما عوقب واحد منهم بدعوى حماية الحريات وصيانة الإبداع، انتقل إلى قناة تلفزيونية أخرى فاكتشف أن موضوع «الأمناء» صار حاضراً في كل البرامج ومصدراً مهماً للإعلانات. نقلا عن الحياة