المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الانتخابات الإيرانية وخيارات المستقبل

السبت 27/فبراير/2016 - 11:05 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوار
إنها انتخابات تتعلق بالمستقبل وليس بالماضي، انتخابات تجيء وسط نشوة انتصار المعتدلين، أنصار "تيار الدولة" بإنجاز اتفاق نووي مع القوى الكبرى، يحفظ لإيران حقوقها النووية، ويفتح أمامها طريق النمو بإزالة العقوبات الاقتصادية. انتخابات تجري والأمة الفارسة تشعر للمرة الأولى منذ قرون أنها أصبحت على أعتاب الصعود إلى مصاف القوى العالمية. إنها إذن انتخابات يجب أن يتقدم فيها المعتدلون، وأن يحصلوا على المزيد من مقومات القوة والنفوذ في النظام السياسي الإيراني، فإن خذلتهم فارس، فإنه سيكون على إيران أن تنتظر، ربما طويلا، لكي تستطيع أن تجني ثمار السلام مع القوى الكبرى. لكن تقدم، (ولست أقول انتصار)، المعتدلين في إيران ليس بالأمر السهل، فهذه الانتخابات هي أيضا وبنفس القدر انتخابات التحدي التي يريد فيها المتشددون، أنصار "تيار الثورة"، ضمان استمرار سيطرتهم على السلطة العليا في إيران من أجل تحقيق الحلم الفارسي في السيادة على ما يسمونه "إقليم الخليج الفارسي الكبير" وزعامة العالم الإسلامي. المعتدلون قضيتهم واضحة، وهي "تعزيز قوة إيران كدولة مستقلة"، والمتشددون أيضا قضيتهم واضحة وهي "المحافظة على شعلة الثورة وتوسيع نطاقها"، ويلتقيان معا في السعي إلى القوة وتوسيع النفوذ، ولكل طريقه الذي يختلف عن الآخر.
إن هذا المزيج من التطلعات هو الذي يحكم الانتخابات الإيرانية التي جرت جولتها الأولى يوم الخميس (26 فبراير) لاختيار أعضاء مجلس الشورى الإسلامي (285 عضوا) وأعضاء مجلس الخبراء (86 عضوا)، وهي المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات متزامنة لاختيار أعضاء المجلسين. وبسبب هذا المزيج من التطلعات، فإن أيا من الطرفين، المعتدلين أنصار الدولة والمتشددين أنصار الثورة، لن يستطيع إحكام السيطرة على المجلسين. ومن المرجح في أحسن الأحوال أن يتمكن المعتدلون بقيادة روحاني ورفسنجاني من زيادة حصة مؤيديهم في المجلسين، وقد يكون ذلك سهلا بعض الشيء بالنسبة لمجلس الشورى، ولكنه سيكون بالتأكيد أكثر صعوبة بالنسبة لمجلس الخبراء. وفي مجلس الشورى على وجه الخصوص ستكون المعركة حامية بين الفريقين. فمعسكر "إيران الثورة" كان يحكم سيطرته على مجلس 2012-2016 والآن يتطلع معسكر "إيران الدولة" إلى أن يتمكن من السيطرة على المجلس بما يعزز مسيرة البناء والتنمية وجني ثمار السلام مع القوى  العالمية الكبرى.  

أولا: الأهمية التاريخية لهذه الانتخابات
تعتبر الإنتخابات الإيرانية الأخيرة من أهم المحطات السياسية التي تتعلق بمستقبل إيران خلال العقود القادمة. فهي للمرة الأولى تشمل اختيار أعضاء مجلس الشورى (الهيئة التشريعية) و أعضاء  مجلس الخبراء (المجمع الانتخابي الذي يختار المرشد الأعلى للثورة). وكان من المقرر أن تجرى انتخابات مجلس الخبراء في عام 2014 لكن مجلس الشورى أصدر قانونا بتأجيلها لتجري على التوازي مع انتخابات الشورى في عام 2016 وذلك لكي تشهد إيران انتخابات مزدوجة مرة كل سنتين، مرة تشمل اختيار الرئيس واختيار أعضاء المجالس المحلية، ومرة تشمل اختيار النواب (كل 4 سنوات) على التوازي مع اختيار أعضاء مجلس الخبراء (كل 8 سنوات).
ونظرا لخطورة الحالة الصحية للمرشد الأعلى الحالي علي خامنيئ (76 عاما) الذي يعالج من مرض سرطان البروستاتا، فإنه في حال وفاة المرشد أو اعتزاله سيكون منوطا بأعضاء مجلس الخبراء الجديد اختيار المرشد الأعلى المقبل، وذلك على أساس أن دورة مجلس الخبراء الجديد ستمتد حتى العام 2024. ولهذا السبب فإن انتخابات الخبراء تحتل أهمية خاصة. وعلى الرغم من أن كل فريق من الفرقاء السياسيين يريد تعظيم مكاسبه وحظوظه، فإن هناك تيارا عقلانيا يرى ضرورة فرض توازن منضبط بين جميع القوى، حتى لا ينتقل صولجان القوة من يدي خامنئي إلى شخص قد يدفع الأمور إما في اتجاه جمود وإما في اتجاه فوضى. الإيرانيون العقلاء لا يرويدون "تشيرنينكو" يفرض جمودا مميتا على النظام السياسي، كما أنهم لا يريدون "جورباتشوف" إيراني يقود الأمور إلى تفكيك النظام السياسي وتعريضه للخطر، كما أنهم بالقدر نفسه لا يرغبون في الإبقاء على "رجل مريض" على رأس السلطة يحافظ على الأمر الواقع ويكرس حالة من الجمود السياسي والاقتصادي. وأظن أن هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، من هذا التيار العقلاني المعتدل.
وطبقا لهذه الرؤية، فمن المستبعد حدوث تغيير درامي في التوازن داخل مجلس الخبراء. على الأرجح سيقل نفوذ المتشددين من أنصار معسكر "إيران الثورة" قليلا لمصلحة زيادة نفوذ معسكر "إيران الدولة"، مع السعي في الوقت نفسه إلى تقليل نفوذ المتشددين من كل من المعسكرين وزيادة حظوظ العقلاء. فمهمة اختيار المرشد الأعلى ليست لعبة وإنما هي مسئولية تاريخية في نظام سياسي تمثل فيه سلطات المرشد الأعلى للثورة العمود الفقري للنظام كله، فالمرشد هو الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية وهو قائد الجيش وهو الذي يعين رئيس القضاء، الذي بدوره يعين رئيس المحكمة الدستورية العليا والمدعي العام. إن المرشد الأعلى ووكلاءه في كل إيران والعالم هو الذي يدير أخطر وأهم وظائف الدولة في إيران داخليا وخارجيا. انتخابات مجلس الخبراء هذه المرة تاريخية ومصيرية.   
أما في انتخابات مجلس الشورى فإن نتائجها ستحكم المسار السياسي لإيران خلال الفترة المقبلة، وسط تحديات وفرص هائلة أصبحت على المحك بعد توقيع الإتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى في يوليو من العام الماضي. إيران التي أضعفتها العقوبات الإقتصادية والعزلة السياسية عانت في السنوات الأخيرة من ارتفاع هائل في معدلات البطالة والتضخم ونقص السلع وتراجع الإنتاج في عدد مهم من القطاعات الإستراتيجية بما في ذلك الصناعات التحويلية المدنية. لقد انتعشت الصناعات العسكرية ولا يزال أمامها طريق واسع للانتعاش، لكن قسوة العقوبات الاقتصادية أصابت في مقتل فرص العمل التي يمكن إتاحتها للشباب ومستويات الأسعار التي يستطيع التعايش معها الإيرانيون العاديون.
الآن جاء الرئيس حسن روحاني بمعادلة تمنح الإيرانيين فرصا جديدة للاستمتاع بالحياة ولتحقيق التنمية المرجوة. فبعد أن وقعت إيران الإتفاق النووي مع القوى الكبرى أصبحت تلوح أمامها فرص كبيرة لجذب الاستثمارات وإعادة بناء الصناعة وتنويع الاقتصاد وتوفير فرص العمل وتخفيض مستويات الأسعار. هذه هي "ثمار السلام" التي لا يجب أن تتراجع إيران عن قطفها. هنا يتقدم روحاني لإقناع الإيرانيين أن العداء للولايات المتحدة ليس هو الطريق إلى الجنة على الأرض. ويدعو روحاني إلى تقديم أولويات التنمية وإعادة البناء عما عداها. ووراء روحاني فإن عشرات المرشحين يبذلون جهدهم للفوز بثقة الناخبين على حساب ممثلي تيار "إيران الثورة" المدعومين من المرشد الأعلى ومن الحرس الثوري الإيراني ومن رجال الدين. ولا يقدم المعسكر الأخير لمؤيديه غير دعوات التطرف والتشدد والعداء للآخرين ومحاولة طلب النفوذ بالقوة.
وفي اعتقادي إنه إذا ارتفعت نسبة التصويت في الانتخابات على غرار ما كانت عليه في انتخابات الرئاسة الأخيرة (80% تقريبا) فإن تيار "إيران الدولة" سيحصل على أغلبية الأصوات، ومن ثم على أغلبية مقاعد مجلس الشورى الجديد. وطبقا لحسابات مبنية على نتائج الانتخابات التشريعية السابقة في إيران، فإنني أظن أن "المعتدلين" أو تيار "إيران الدولة" سيحصلون هذه المرة بسهولة على أغلبية مريحة في مجلس الشورى، قد تصل إلى السيطرة على ثلاثة أرباع المقاعد في المجلس إذا ارتفعت نسبة التصويت إلى 80% أو أكثر. إن العنصر السلبي الوحيد الذي قد يهدد هذه التوقعات ليس قوة معسكر "إيران الثورة" وإنما مدى إقبال الشباب والمرأة على التصويت. انتصار إيران الدولة متمثل في الاتفاق النووي هو القوة المحركة التي ستقود ممثلي "إيران الدولة" إلى الفوز بأغلبية مجلس الشورى. وإذا أضاع الإيرانيون هذه الفرصة، فكأنهم أضاعوا الجائزة التي تقررت لهم بتوقيع ذلك الاتفاق، فك الحصار وإنهاء العزلة وتدفق الإستثمارات وتوسيع نطاق الشراكة العادلة مع العالم. إيران قطعت نصف الطريق، وأمامها النصف الآخر مفتوح تماما إلى جني "ثمار السلام" مع العالم. إنها فازت قالمباراة، فماذا يمنعها إذن من الصعود لتسلم الكأس!
ثانيا: خريطة القوى السياسية
على الرغم من وجود أحزاب في إيران، فإن الانتخابات تجري على أساس فردي، بصرف النظر عن هوية المرشح. ومن الناحية الفعلية فإن أصوات الأحزاب والجماعات ذات الطابع المدني أو العلماني خافتة جدا ولا تأثير لها تقريبا على التوجهات النهائية للناخبين. وتتوزع القوى السياسية النشطة في إيران  بين تيارين أساسيين يشتركان في المنبع السياسي نفسه ألا وهو مبدأ ولاية الفقيه والدستور الإيراني.
وقد اعتاد المحللون للشؤون الإيرانية على تقسيم القوى السياسية بين قوى محافظة ومعتدلة وإصلاحية. وقد يدخل البعض على ذلك تقسيمات داخلية للتمييز بين شخصيات واتجاهات مختلفة. ومن الصعب في ظل هذا التقسيم وضع خطوط فاصلة بين الشخصيات والتوجهات السياسية العامة في إيران. ففي السنوات القليلة الماضية اعتمد النظام السياسي الإيراني على تحقيق استقرار سياسي دقيق قائم على التفاهم بين المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي وبين رئيس مجلس الشوري علي ولايتي وبين رئيس الجمهورية حسن روحاني. ووقف هذا التحالف بقوة ضد شخصيات وتيارات تسعى لمعارضة السياسة العامة للدولة التي كانت تسير بقوة دفع المفاوضات النووية بين إيران والقوى الكبرى.
وبناء على ذلك فإنني أميل إلى تقسيم وتصنيف القوى السياسية في إيران على أساس موقفها من قضية العلاقة بين الدولة والثورة. الدولة بكل ما تفرضه من اعتبارات البناء والتنمية، والثورة بكل ما تنظوي عليه من اعتبارت القوة وطلب النفوذ الخارجي. وقد حققت المؤسسة الحاكمة في إيران منذ سنواتها الأولى نوعا من الوضوح في التفرقة بين مهمات الاستمرار في الثورة ومهمات بناء الدولة في إيران الداخل. وبناء على هذا الوضوح فقد أصدر الخوميني (مايو 1979) قرار بإنشاء الحرس الثوري الإيراني ليكون القوة المدافعة عن الثورة وعن أبعادها الخارجية إلى جانب الجيش الذي يتكفل بالدفاع عن الدولة وعن حدودها. هناك من الناحية المؤسسة إذن فصل واضح بين مهمة الدفاع عن الثورة الإسلامية، التي يقوم بها الحرس الثوري الإيراني، ومهمات الدفاع عن الوطن وعن الدولة الإيرانية، التي يقوم بها الجيش الإيراني بأفرعه المختلفة.
-    تيار إيران الثورة
وعلى هذا الأساس فإن التجمعات السياسية الرئيسية المتنافسة في الانتخابات الإيرانية تتوزع بين تيارين، التيار الأول يسعى إلى تأكيد "أولوية الثورة" على ما عداها، وفي داخل هذا التيار تجمعات متشددة وأصولية شيعية أهمها الجبهة الأصولية المتحدة (The United Fundamentalist Front) التي كان على رأسها علي لاريجاني رئيس المجلس السابق الذي فاز مع قائمته في انتخابات مارس 2012 بنسبة 63.8% من مقاعد مجلس الشورى الإسلامي. وسمح هذا الإنتصار لعلي لاريجاني أن يعتلي رئاسة مجلس الشورى، وأن يساهم في إسقاط الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. ولم يكن نجاد إصلاحيا ولا معتدلا بأي معنى من المعاني. فالمعركة إذن كانت في واقع الأمر حول سياسات إيران الداخلية، ومحاولة تصويبها بعد اتساع نسب البطالة والتضخم وانتشار الفقر. كما يضم هذا التيار جماعات متشددة مثل "خط الإمام". وتحصل قوى "تيار الثورة" على تأييد المرشد الأعلى للثورة، والحرس الثوري الإيراني والمؤسسات الدينية التي تتمتع بنفوذ سياسي ومالي كبير.
وقد تعرضت قوى "تيار الثورة الإسلامية" لضربة قوية في عملية مراجعة وتنقية قوائم المرشحين للمجلس الجديد، حيث تم استبعاد عدد كبير من المرشحين المحافظين المعروفين بتشددهم ومن بينهم 25 اسما من أسماء المرشحين الذين كانت وزارة الداخلية الإيرانية قد وافقت عليهم. ومن بين هؤلاء كانت هناك أسماء بارزة منهم علي مطهري بن آية الله مرتضى مطهري أحد قادة ثورة الخميني ومفكريها البارزين، وإبراهيم أصغر زاده أحد قيادات تنظيم "خط الإمام" وحامد رسائي أحد رجال الدين المتطرفين.
لكن الخسائر التي تعرضت لها قوى "تيار الثورة" كانت أقل بكثير من تلك التي تعرض لها "تيار الدولة" الذي خسر كثيرا من رموزه حتى بعد استتئناف قرارات اللجنة المعنية بالإشراف على الانتخابات في مجلس "حماية الدستور" والتي نتج عنها إلغاء أحكام الاستبعاد التي كانت قد صدرت بحق بعض من ترشحوا من كل الأطياف.
ويستمد "تيار الثورة" قوته من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية والحرس الثوري الإيراني ورجال الدين في قم والمؤسسات الإقتصادية التابعة لرجال الدين والتي يتم تمويلها من إيرادات "الأخماس" التي يحصل عليها الفقهاء المقلدون ووكلاء السيد الولي الفقيه وكيل الإمام الغائب. وهذه مصادر قوة ضخمة شديدة الأهمية يمتزج فيها الديني بالسياسي وبالاقتصادي. وتشكل القوة الاقتصادية لهذه المؤسسات ما يزيد على نصف قيمة الاقتصاد الإيراني كله. وفي معظم الأحوال فإن المؤسسات الاقتصادية المملوكة لرجال الدين لا تخضع لمحاسبة الدولة كما إنها غالبا تكون معفاة من الضرائب ومن الرسوم الجمركية. وبسبب هذه الموارد المتجددة التي لا تنفذ فإن قوة معسكر "أنصار الثورة الإسلامية" هي في تزايد مستمر، إلا إذا أصبحت سياساتها عبئا على الدولة، وهذا لن يحدث إلا إذا تعرضت هذه السياسات لهزائم متكررة في داخل وخارج إيران، وتكون تكلفتها المادية والمعنوية أكبر من العائد منها. حينئذ فقط سيفيق الإيرانيون ويتساءلون عن مدى رشادة وعقلانية سياسات "الثورة الإسلامية أولا"، وتكون تلك هي "نقطة الانقلاب التاريخية" التي تجعل عجلات معسكر أنصار "الثورة أولا" تدور للوراء وليس إلى الأمام.    
-    تيار إيران الدولة
أما التيار الآخر فهو التيار السياسي الذي يرى أن الأولوية تتركز في  عملية تطوير النظام والدولة في إيران وتوسيع نطاق التنمية وفك العزلة السياسية والاقتصادية والانفتاح على العالم الخارجي خصوصا على أوربا وروسيا والصين والهند والدول الناهضة الحديثة، ولذلك فإننا سنطلق عليه هنا تيار"إيران الدولة". ويقود الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني هذا التيار ومعه كوكبة من السياسيين ورجال الدين المتفتحين مثل الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني.
وقد تعرض مرشحو هذا التيار أيضا لمقصلة "جمعية حماية الدستور" حيث أصدرت اللجنة المختصة بالإشراف على الانتخابات قرارات باستبعاد عدد كبير من رموزه، خصوصا من المرشحين في العاصمة الإيرانية، كبرى المناطق الانتخابية في إيران (38 نائبا). وشملت الأسماء التي تم استبعادها قبل طلبات الاستئناف إثنان من أبناء هاشمي رفسنجاني  هما مهدي وفاطمة رفسنحاني ابنة الرئيس الأسبق والعضو المؤسس لحزب "الحوار والتنمية" الإيراني، ومرتضى إسراغي حفيد الخميني وإبراهيم جهانجيري شقيق نائب الرئيس الحالي إسحاق جهانجيري، ومحسن مهرال زاده أحد القيادات الإصلاحية. كما تم ايضا استبعاد ما يقرب من 12 من أعضاء المجلس السابق المحسوبين على ما يسمى بـ "التيار المعتدل". ومن المعروف أن حملة الشطب والاستبعادات في قوائم المرشحين لعضوية مجلس الخبراء شملت أيضا عددا كبيرا من الشخصيات المعتدلة المعروفة منها حسن الخميني حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران.
وعلى الرغم من أحكام الاستبعاد الأولية بسبب المقصلة السياسية التي نصبتها لجنة جمعية حماية الدستور، فإن عددا من الوجوه المعتدلة المعروفة استطاعت الإفلات وتصدرت قوائم المرشحين المعتدلين، بما في ذلك قائمة طهران المهمة التي تضم محمد رضا عارف وسهيلة جلودار زاده ومصطفى كيفابكيان والرضا محجوب. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني نفسه وهو أحد المرشحين لعضوية مجلس الخبراء، يتصدر قائمة من 14 مرشحا تحت إسم "الإعتدال هو الإسلام". الأمر الذي يؤكد طبيعة التيار السياسي لقوى "الدولة" الذي يسعي لتحقيق صيغة متوازنة بين السعي للقوة عن طريق التوسع الخارجي وبين السعي للبناء عن طريق التنمية المحلية.
وإلى جانب هذين التيارين الكبيرين تضم الخريطة السياسية في إيران القوى الإصلاحية التي ترفع شعارات التعددية والحرية السياسية وحرية التعبير وإخضاع المسؤولين لمبدأ المحاسبة، وهي القوى المحركة لما تم تسميته "الثورة الخضراء" في إيران والتي تكونت واتسع نطاقها خلال حكم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وقادت حملة تظاهرات 2009 وأوائل 2010 . وعلى الرغم من أهمية هذه القوى التي تضم جماعات من المثقفين والفنانيين والطلبة وجماعات ليبرالية صغيرة، فإنها لم تصل بعد إلى مصاف القوة السياسية المؤثرة في النظام السياسي. وتتمثل أهمية القوى الإصلاحية المدنية في إنها تحظى بتأييد قطاعات واسعة من الشباب والمرأة القادرة على قيادة حراك سياسي فعال إذا توفرت لها مقومات القوة المالية والتنظيمية والسياسية.
ثالثا: أين تتجه خيارات الناخبين؟
على ضوء النجاح الذي أحرزه الرئيس الإيراني حسن روحاني في مفاوضاته مع القوى الكبرى بشأن برنامج إيران النووي، فإن القوة التصويتية الضخمة لتيار روحاني تستطيع أن تحقق الكثير في الانتخابات، خصوصا فيما يتعلق باختيار أعضاء مجلس الشورى. وسوف يلعب تصويت المرأة والشباب دورا مهما في هذه الإنتخابات. كما إن المنافسة الشرسة في دوائر العاصمة طهران ستكون محل اهتمام الرأي العام المحلي والعالمي في آن واحد لما تنطوي عليه من دلالات خصوصا في حال فوز المرشحين الإصلاحيين بقيادة محمد رضا عارف.
إن إيران التي تتوق إلى تنمية سريعة تتوق أيضا إلى انفتاح ثقافي على العالم. ولهذا السبب فإن دور القوى الإجتماعية الشابة والمرآة يمكن أن يلعب دورا محفزا للتغيير في اتجاه الحد من سلطة المحافظين والمتشددين الذين يعشقون الحياة في الظلمة وبعيدا عن العالم وفي صراع معه. وباختصار فإنه يمكن القول أن الإيرانيين الطامحين إلى الإصلاحات الإقتصادية والتنمية وتوفير المزيد من فرص العمل للقضاء على البطالة، وأولئك الطامحين إلى توفير المزيد من الحريات في ظل انفتاح أوسع على العالم، ليس عليهم إلا أن يشاركوا بقوة في هذه الانتخابات من أجل تحقيق طموحاتهم.  
رابعاً: النتائج المحتملة للانتخابات
من المرجح في حال تقدم تيار "إيران الدولة" في الإنتخابات التشريعية وانتخابات مجلس الخبراء (المجمع الانتخابي لاختيار المرشد الأعلى) للثورة الإيرانية أن يستمر الخط العام للسياسة التي اتبعها روحاني منذ فوزه بالرئاسة. لكنه سيكون في الوقت نفسه متحررا نسبيا من قيود الصراعات مع المحافظين أنصار معسكر الثورة الإسلامية المستمرة. ومن المتوقع أن يتحقق ذلك في المجالات التالية:
-    السياسة الاقتصادية
تواجه إيران كغيرها من الدول المصدرة للنفط صعوبات اقتصادية شديدة بسبب انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية، وتوقع استمرار هذا الوضع النسبي (وفرة المعروض وانخفاض الطلب) لفترة من الوقت. ورغم أن إيران استطاعت أن تصمد خلال فترة العقوبات الاقتصادية، بل وتمكنت من تحقيق إنجازات كبيرة، أعظمها وأهمها بناء قدرة نووية ضاربة وصلت إلى مرحلة التخصيب الكامل لليورانيوم والقدرة على إنتاج وتخزين الوقود النووي، فإن المرحلة المقبلة ستكون شديدة الصعوبة لسببين، الأول هو ثورة التوقعات أو ارتفاع سقف التوقعات من جانب المواطنين الإيرانيين الذين يطمحون إلى سنين من الرخاء بعد سنوات من التقشف والمعاناة. والسبب الثاني يتمثل في انخفاض حجم الموارد المالية المتاحة للقيام بعمليات تنمية سريعة والحيلولة دون استنزاف عائدات تصدير النفط في بناء قدرات استهلاكية.
ومن أجل مواجهة الصعوبات الراهنة فإن صناع السياسة الاقتصادية في إيران من المرجح أن يلجأوا إلى الموازنة بين اعتبارات جذب الإستثمار الأجنبي، وما يتطلبه ذلك من تحرير الاقتصاد (تحرير التجارة والاستثمار وأسعار الصرف وربما اللجوء إلى خصخصة بعض القطاعات) وبين اعتبارات الحاجة إلى رفع مستوى المعيشة وتوفير درجة أعلى من الرفاهية الاقتصادية للإيرانيين. ويعمل الرئيس الإيراني حسن روحاني بالفعل على تصميم برنامج لجذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة فرص العمل المتاحة وزيادة القدرة المحلية على إنتاج السلع الضرورية والوسيطة لتقليل الحاجة إلى الإستيراد. وسوف يكون نجاح السياسة الاقتصادية هو الاختبار الرئيسي الذي سيواجهه خاتمي مع مجلس الشورى المقبل. الخطر الرئيسي الذي سيحاول روحاني أن يتجنبه هو الانزلاق إلى صراع غير محسوب مع القوى المهيمنة على المؤسسات الاقتصادية الدينية التي تعلب دورا محوريا في السوق المحلية ولا تخضع لسيطرة الدولة. إن أية محاولة لإخضاع مثل هذه المؤسسات لسلطة الدولة أو تنظيم نشاطها بواسطة الدولة ستكون خطأ فادحا يجب على روحاني أن يتجنبه.
-    السياسة الخارجية
سوف تسعى إيران إلى المزيد من الانفتاح أكثر على أوربا والصين وروسيا والهند. لكن علاقات طهران مع واشنطن ستظل مهزوزة وغير مستقرة نظرا لأن العداء للولايات المتحدة الأمريكية يمثل مركز السياسة الخارجية لتيار "إيران الثورة". وسوف يتجنب المعتدلون أنصار "إيران الدولة" الدخول في معارك في الداخل من أجل تصحيح السياسة الخارجية الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية. على العكس من ذلك فإن الرئيس روحاني وحكومته سيحاولون استثمار الضغوط التي قد يمارسها المتشددون ضد الولايات المتحدة في الحصول على تنازلات من واشنطن، خصوصا في مجالات التجارة والاستثمار. إن الزيارة التي قام بها روحاني إلى كل من إيطاليا وفرنسا والفاتيكان بعد قرارات رفع العقوبات عن إيران تمثل عنوان المرحلة المقبلة في الدبلوماسية الإيرانية وسياستها الخارجية في السنوات المقبلة.
ومع أن هناك موضوعات قد تثير الخلاف بين طهران والغرب، خصوصا فيما يتعلق بالبرنامج الصاروخي الذي تمضي فيه طهران بسرعة، إلا أن الطرفين، إيران والدول الغربية، سيكونان حريصين على عدم إشعال أزمة تهدد بنسف الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى.    
-    السياسة الدفاعية
سوف تمضي إيران في سياستها الدفاعية دون تغيير يذكر، مع التركيز على إعادة بناء وتطوير قاعدة الصناعة العسكرية بحيث يزيد الاعتماد على الإنتاج المحلي مقابل الاستيراد من الخارج. وفي الوقت نفسه ستمضي إيران قدما في تطوير قدراتها الصاروخية وتطوير الطيران والقوة البحرية والدفاع الجوي في إطار التحالف مع روسيا و تعميق العلاقات مع الصين وكوريا الشمالية. وسوف نلاحظ أيضا أن طهران ستقدم إمكانات كبيرة لتطوير قوات الحرس الثوري وتحديثها في كل القطاعات العسكرية مع توسيع النشاط البحري في المنطقة الممتدة بين مضيق هرمز وبحر عمان وبحر العرب وباب المندب.
وفي السياق نفسه ستحافظ إيران على وجودها العسكري الفعال في العراق وسورية ولبنان واليمن وفلسطين، والدفاع عن حلفائها ببسالة لضمان استمرار نفوذها في مناطق شرق البحر المتوسط والخليج وباب المندب.
-    شرق المتوسط والخليج وباب المندب
سياسة إيران الخارجية في هذه المناطق تحكمها اعتبارات "الثورة" وليس "الدولة" ويديرها بصورة أساسية مسئولو الحرس الثوري الإيراني في وزارتي الخارجية و"الأمن والمخابرات". ومن المعروف أن وزارة الأمن والمخابرات يديرها بمقتضى القانون رجل دين مقرب من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، ولهذه الوزارة أذرع طويلة في السفارات والقنصليات الإيرانية في الخارج وكذلك في أجهزة الإعلام والمراكز الإسلامية والتنظيمات الشبابية والطلابية. وتعتبر بلدان شرق المتوسط والخليج وباب المندب مراكز النشاط الرئيسية للحرس الثوري الإيراني ولوزارة الأمن والمخابرات. إن عملية "تصدير الثورة" هي علة وجود الحرس الثوري الإيراني الذي يعتبر أحد المكونات العضوية لتيار التطرف في النظام السياسي الإيراني. وليس من المتوقع أيا كانت نتيجة الانتخابات الإيرانية، وسواء فاز المعتدلون أنصار "إيران الدولة" أو المتشددون أنصار "إيران الثورة" أن تتغير السياسة الخارجية الإيرانية تجاه البلدان العربية المجاورة.
ومن الواضح أن السياسة الخارجية الإيرانية تجني الكثير من المكاسب من وراء سياسة التشدد في شرق المتوسط والخليج وباب المندب، فهي إلى جانب تعزيز نفوذها الإقليمي في محيطها الجغرافي، فإنها تحقق أيضا الكثير من المكاسب التجارية والثقافية والعسكرية وتكثف شبكة مصالحها مع دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ويبدو من متابعة سلوك السياسة الخارجية أن هناك ما يشبه "التقسيم الإقليمي للعمل" داخل أجهزة الدولة، فالعلاقات مع أوربا والولايات المتحدة والصين والهند وغيرها يديرها خبراء ودبلوماسيون محترفون، على اساس القواعد المهنية للعمل الدبلوماسي. أما العلاقات مع البلدان العربية فإنها من اختصاص أجهزة الحرس الثوري والأجهزة الأمنية والمكاتب والأجهزة التابعة للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية. ونتيجة لذلك فإن علاقات إيران مع محيطها الإقليمي العربي تخضع لمعادلات ترويج "الثورة الإسلامية" ونشرها، بعيدا عن معادلات إدارة السياسة الخارجية التقليدية بين إيران وغيرها من الدول. وفي هذا السياق فإننا سوف نلاحظ أن موقف إيران من قرار السعودية قطع مساعداتها العسكرية للبنان (4 مليارات دولار) ومواقفها مما يحدث في اليمن وفي سورية ولبنان يتم صياغتها جميعا بتنسيق كامل بين قيادة الحرس الثوري الإيراني وبين قيادات التنظيمات والقوى السياسية المحلية المتحالفة مع إيران (حزب اللـه في لبنان وجماعة عبد الملك الحوثي في اليمن مثلا). ثم تجيء بعد ذلك تصريحات رسمية من وزارة الخارجية الإيرانية للتصديق على مواقف الحرس الثوري وتنظيماته التابعة في الخارج.
-    الخصومة مع السعودية
ستكون الخصومة مع السعودية محور صراعات إيران في المنطقة خلال فترة رئاسة روحاني وعمر مجلس الشورى الجديد. ويتفق أنصار تيار "إيران الدولة" و"إيران الثورة" على أن الأفكار السلفية المتطرفة التي تمتد جذورها إلى فكر السعودي محمد بن عبد الوهاب تمثل العقبة الكبرى في طريق وحدة المسلمين وتقدمهم. وقد أكد هذا المعنى هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني الأسبق ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام حاليا في تصريح أخير أدلى به في عمق حملة الدعاية الانتخابية (22 فبرایر) قال فيه إن "التفرقة" هی ما یسعی "الاستکبار" إلی تحقیقها فی المنطقة مؤکدًا أن الوحدة هی العامل الرئیس فی وجود الثورة الإسلامیة فی إیران ودیمومتها. وأكد أن المخاطر التی تحدق بالمنطقة مصدرها "الأفکار الطالبانیة" والتی تمخضت عنها جماعات القاعدة وبوکو حرام وأخیرًا تنظیم داعش معتبراً إن هذه الجماعات تستخدم الأفکار التکفیریة لعبد الوهاب السلفی من أجل هدر دم المسلمین الشیعة وأعتبارهم کفارًا.
واعتبر هاشمی رفسنجانی أن انتشار الإیديولوجیات الخطرة فی المجتمعات الإسلامیة هو بسبب الفساد الفکری الذی یحمله بعض حکام هذه المنطقة وقال: إننا نری کیف یتم استخدام الإنترنت لنشر الوحشیة والإدعاء بأن ما یتم نشره هو من السلوکیات الإسلامیة معتبرًا إن الإسلام هو دین السلام والنقاء. إن وجهة نظر رفسنجاني هذه هي محل إجماع بين كل القوى السياسية تقريبا في إيران. وليس من المتوقع أن تتراجع إيران عن خصومتها مع السعودية بسهولة، فهذه خصومة في أساس فهم الدين وضرورات السياسة، من الصعب حلها في الأجل القصير.
خامسا: دور إيران الإقليمي على ضوء التطورات الجارية
وعلى ضوء التطورات الجارية في المنطقة، وأخذا في الاعتبار ما ستسفر عنه الانتخابات التشريعية الإيرانية من نتائج، ونظرا إلى ما حققته السياسة الخارجية من نجاح خلال الفترة الماضية، خصوصا بعد توقيع الاتفاق النووي، فإنه من المتوقع أن يزيد ويتسع الدور الإقليمي لإيران ليعكس وزنها الحقيقي وسط منطقة تنهكها النزاعات وتسودها الحروب. الخطورة في الوضع الحالي لا تتمثل في ترجيح تزايد الدور الإقليمي لإيران، ولكنها تتجسد في حقيقة أن الدول العربية بعد انهيار النظام الإقليمي العربي فعليا، تكاد الآن تنزلق إلى مرحلة جديدة أسوأ تتقدم فيها النزاعات والخلافات الثنائية على إمكانات ومقومات التعاون. وهذا أخطر من التهديد الإيراني، وأخطر من التهديد الإسرائيلي، خصوصا وأن عددا مهما من الدول العربية قد خرج عمليا من تصنيف كونه "دولة" مثل سوريا واليمن وليبيا، ومن قبلها الصومال. الانتخابات الإيرانية إنتهت. وسيبدأ فصل جديد من الصراع الإقليمي في المنطقة شئنا أم أبينا.
رئيس الوحدة الاقتصادية بالمركز العربي للبحوث والدراسات

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟