المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

جدلية التوافق والاستقطاب: فرنسا في مواجهة الأزمات

الخميس 03/مارس/2016 - 12:01 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. توفيق إكليمندوس

فرنسا واجهت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ثلاثة تحديات، وجوب تطوير بنية الاقتصاد وعلاقات الإنتاج وسوق العمل ومنظومة التأمينات لمواجهة تحديات العولمة، وزيادة أسعار الطاقة وصعود الصين وتحدي منتجاتها، ومشروع الهيمنة الألمانية على أوربا، وتغيير عميق لمكونات وعناصر البنية السكانية للمجتمع الفرنسي، مع ازدياد نسبة وأهمية الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية، وبروز القضايا المتعلقة بقدرة النموذج التقليدي إلى إدماجهم، وأخيرا وليس آخرا مشروع الوحدة الأوربية - قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي- وتأثيره غلي مستقبل الهوية الفرنسية ومكانة فرنسا.

ويختلف أغلب المراقبين حول تقييم سياسات السبعينيات والثمانينات والرئيسين جيسكار ديستان وميتران، ولكنه لا يوجد من ينكر عمق تأثيرها وإسهامها في تحديث فرنسا، ويجمع المحللون على نظرة بالغة السلبية لأداء التسعينيات والعقد الأول من القرن العشرين، وعلى اعتبار سنوات ميتران الأخيرة ورئاسة شيراك بالكامل سنوات شلل وعجز وإضاعة فرص وتبني خيارات خاطئة – ولا يتحمل الرئيس شيراك المسئولية لوحده، فلقد أسقطت الاحتجاجات الفئوية مشروعا جسورا للإصلاح تبناه رئيس الوزارة جوبيه (١٩٩٥) مما دفع الرئيس شيراك إلى الدعوة إلى انتخابات مبكرة فاز فيها الحزب الاشتراكي الذي تبنى مشروعًا يقلل من ساعات العمل الأسبوعية، كان له شعبية كبيرة رغم أثاره الكارثية على الاقتصاد، ثم فاز شيراك بمدة ثانية بعد انتخابات رئاسية (٢٠٠٢) حيث شاهدت فرنسا صعودًا صادمًا لليمين المتطرف، واعتبر شيراك أن كيفية إعادة انتخابه – بأصوات اليمين واليسار في الجولة الثانية لمواجهة المتطرفين- لا تسمح له باتخاذ مبادرة للإصلاح أيا كانت، واكتفي بسياسة خارجية نشطة، ثم اختار الفرنسيون سنة ٢٠٠٧ رئيسا أكثر نشاطا وحدة وحبا للصدام، رئيس (نيقولا ساركوزي) هو نقيض شيراك وإن كان ينتمي لنفس الحزب، ثم لفظوه وانتخبوا الاشتراكي فرانسوا هولاند، الذي لم ينجح إلى الآن في تحقيق نتائج تذكر في مواجهة البطالة وفي المجال الاقتصادي – القضية الرئيسة في نظر الرأي العام الفرنسي.

 

أولاً- المشروع ألمانيا للهيمنة: الاقتصاد والأمن

 اعتمد النجاح الفرنسي في الستينيات والسبعينيات على نموذج رأسمالي يعترف للدولة الرفاه بدور رائد  وللمواطن بحقوق اجتماعية عديدة وعلي سياسات اقتصادية توسعية وعلى سياسة نقدية تلجأ بصفة دورية إلى تخفيض قيمة الفرنك الفرنسي وعلى طاقة رخيصة وعلى شراكة وثيقة مع ألمانيا (الغربية) التي كانت في أمس الحاجة آنذاك إلى الباب الفرنسي لتبييض سمعتها (بعد الحروب العالمية) ولدخول أسواق عديدة وعلى عمالة وافدة رخيصة- كان عدد الأجانب المقيمين في فرنسا سنة ١٩٥٤ نحو 4.1 مليون وتضاعف ليصل إلى  7.3 مليون سنة 19٧٤، وهي السنة التي سمح فيها للعامل الأجنبي بإحضار عائلته للإقامة الدائمة في فرنسا في مقابل إغلاق باب هجرة العمالة الجديدة، وكان أحد آثار تلك السياسة بداية صعود اليمين المتطرف الرافض لوجود الأجانب ولسياسات التجنس، الذي نجح في إقناع عدد متزايد من الفرنسيين بالمقولة الخاطئة الرابطة بين هذا الوجود الأجنبي وتفاقم مشكلة البطالة.

فرانسوا هولاند، الذي لم ينجح إلى الآن في تحقيق نتائج تذكر في مواجهة البطالة وفي المجال الاقتصادي – القضية الرئيسة في نظر الرأي العام الفرنسي

والواقع أن النموذج واجه تحديات عديدة، فمن ناحية تسبب نجاح الدولة الرفاه في إطالة عمر الفرنسيين، فارتفعت نسبة أصحاب المعاشات إلى العاملين وبلغت حدا مقلقا وتسبب هذا التطور في زيادة نسبة الأموال المستقطعة من الأجور وفي ارتفاع تكلفة العمل وفي تراجع القدرة التنافسية وفي تدهور ميزان المدفوعات وفي ازدياد حجم الدين العام. وتفاقمت المشكلة بسبب رفض الفرنسيين التنازل عن جزء من حقوقهم الاجتماعية (تأخير الخروج إلى المعاش، إعانات للعاطلين، تسهيل إنهاء عقود العمل)، وتطلعهم إلى المزيد منها، ويلاحظ في هذا الصدد أن الانتقال إلى اليورو أفقد فرنسا إحدى أدواتها في مواجهة هذا الوضع، وهي القدرة على تخفيض العملة، فالعملة الأوربية صممت لتلبية حاجات النموذج الألماني المعتمد بصفة رئيسة على عملة مستقرة وعلى قدرة أطراف اللعبة من عمال وإدارة على الاتفاق على قواعدها وعلى مراعاة المصالح العليا للبلاد.

ومن ناحية أخرى اختل ميزان القوى في أوربا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي والوحدة الألمانية وتوسيع عضوية الإتحاد الأوربي (1)، وكانت فرنسا من الخاسرين، فألمانيا أصبحت الدولة الكبرى بلا منازع، وجغرافيا، أدى التمدد شرقا إلى تهميش باريس، التي كانت مركز أوربا الغربية نظرا لموقعها، لصالح برلين الموحدة، ونجحت ألمانيا في بناء علاقات قوية مع دول أوربا الشرقية، علاقات تكامل بين مركز وهامش، ونقلت الشركات الألمانية مصانعها إلى تلك الدول لتقليل تكلفة القوى العاملة، وحثت برلين السلطات الأوربية على تمويل أعمال إقامة البنية التحتية في تلك الدول واستفادت هي من تلك البنية، وسعت  إلى تقليل تدريجي لحجم تعاملاتها مع فرنسا، وقطعت في ذلك شوطا لا بأس منه، مما قلل من قدرة باريس على التأثير على برلين، وضمنت ألمانيا تأييد عدد كبير من الدول الأعضاء لمواقفها وفي التصويت.

ولم ينتبه أصحاب القرار في فرنسا إلى هذه التطورات إلا بعد فوات الأوان، كما لم يدركوا حجم التحدي الأمني المترتب على فتح الحدود وصعوبة ضبطها، فارتفعت معدلات الجرائم (على سبيل المثال، لصوص أجانب قادمون من البلقان يسرقون الشقق في فترة الإجازات) والهجرة غير المشروعة والأنشطة الإرهابية – ومن الواضح أن الجمع بين الحدود المفتوحة ونمو الشبكة العنكبوتية "الإنترنت" أصبح عبئا ومشكلة أمنية كبرى، وعلى العموم يمكن القول أن الأجهزة المختصة نمت قدراتها على المراقبة بفضل تطور التكنولوجيا والتعاون بين الدول، ولكنها ما زالت غير قادرة على التدخل السريع لتحييد الخارجين عن القانون والإرهابيين المحتملين، وعدد هؤلاء يزداد باطراد – أثناء الحرب الأفغانية لم يكونوا إلا أربعين ونيفًا، بينما يقدر عدد الذين ذهبوا إلى سوريا بأكثر من ألف وخمس مائة -لقي ثلثهم حتفه هناك ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فسادت في فرنسا حالة من التسيب وعدم الانضباط ومن تراجع هيبة الدولة، اشتكى منها كل من حاورتهم، ودفعت مصدرا بوزارة الداخلية إلى القول، عندنا حالة الطوارئ لا تعطل القانون، حالة الطوارئ تسمح لنا بتطبيقه وهو معطل في الأحوال العادية - قد يكون في هذا التصريح شيء من المبالغة، ولكنه يعكس إدراك وتصورات قطاعات مهمة من الرأي العام.

 

ثانياً- الاندماج، أزمة نظام التعليم، جدلية الهوية والتهميش، أوضاع المسلمين

يقال دائما إن الفرنسيين يخافون من الاختلاف ولا يعارضون الاختلاط، بمعني أن صدرهم يتسع لكل من يعيش وبتصرف كفرنسي مهما كانت أصوله، ولكنهم يرتابون في كل من يتمسك بخصوصية لا تنتمي إلى تراثهم (وطبعا يختلفون في تحديد هذا التراث) ، وعلي النقيض من ذلك، يخاف الإنجليز من الاختلاط ولا يخشون الاختلاف، وترتفع نسبة الفرنسيين والفرنسيات المتزوجين من أجانب، ولكنهم في الوقت ذاته يمتعضون من مظاهر ثقافية "دخيلة" على مجتمعهم – النقاب والحجاب نموذجا.

صمتت العملة الأوربية لتلبية حاجات النموذج الألماني المعتمد بصفة رئيسة على عملة مستقرة وعلي قدرة أطراف اللعبة من عمال وإدارة على الاتفاق على قواعدها وعلى مراعاة المصالح العليا للبلا

هذا مدخل ضروري لفهم إشكالية الاندماج ودور المدرسة، فرنسا دولة مركزية تؤمن بمركزية ثقافتها، دولة توسعت تدريجيا بضم إمارات ومناطق في عملية تاريخية بطيئة استمرت قرونا (نابليون الثالث ضم محافظة سافوا ومدينة نيس)، دولة تستقبل مهاجرين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واعتمدت على نظام تعليم فريد لدمج الكل وفرنسته، ولإعطاء الجميع فرصة الصعود الاجتماعي، ولبث رواية كبرى يؤمن بها الكل عن الدولة الأمة الفرنسية وخصوصيتها ورسالتها (نشر الحرية، ضرورة العلمانية لتعايش الجميع وللمساواة التامة بين المواطنين)، وهناك إجماع من المؤرخين على النجاح التاريخي لتلك الصيغة، التي بنت مجالا عاما يتعايش فيه ثقافات وخطابات سياسية مختلفة، يمينية ويسارية، سلطوية وليبرالية، متدينة وملحدة، ثورية وإصلاحية، الخ) وهناك إجماع أيضا على أن تلك الصيغة أصابها العطب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وعلي فشلها في التأقلم مع المستجدات، انتقال فرنسا إلى حقبة ما بعد الاستعمار والأهمية المتزايدة للفرنسيين أبناء مهاجرين قادمين من المستعمرات، ومظاهر أزمة هذا النظام لا تحصى ونكتفي هنا بالإشارة إلى التراجع المريع لعملية الصعود الاجتماعي التي تسمح لأبناء الفقراء بالانتماء إلى الطبقات الوسطى أو على الأقل بضمان حياة مستورة، ونضيف أن هذا التراجع لا يعني اختفاء قصص النجاح بل ازدياد حالات الفشل وتركزها الجغرافي في ضواحي المدن.

وتتنوع التفسيرات والاجتهادات، منها ما يرجح تأثير تطورات المنظومة الداخلية، الزيادة الكبيرة في عدد المدارس والجامعات جاءت على حساب الجودة، والتساهل في إنجاح التلاميذ والطلبة مهما ضعف مستواهم أفقد للشهادات قيمتها، التطور في أساليب التدريس وفي محتوى المناهج أتى بنتائج سلبية. وهناك من يشير إلى اعتبارات متعلقة بقصور ذاتي للأيديولوجية الحاكمة، الرافضة للاختلاف، والمترددة بين النموذج الفرنسي التقليدي وتبني مفهوم التعددية الثقافية – لا أريد الخوض في المسألة وأكتفي بالقول إن التعددية الثقافية لن تحل القضية – لأنه سيتم تهميش ثقافات كثيرة.

وهناك من يفسر الأزمة بالتركيز على عوامل ثقافية خاصة بالمتلقي، أي بالمهاجرين، لن نتوقف عند الكلام السخيف الإسلاموفوبي، ونعرض للأطروحات الجادة. ونكرر مرة أخري أن ذكر تفسيرات الفشل لا ينكر أن فرص النجاح الكثيرة تحصن ضد التعميم المطلق، وأن المشكلة تخص بالدرجة الأولى البنين لا البنات من سكان الضواحي ولا تخصهم كلهم. فمن جانبه يقول الدكتور لاكوست (2): أن الذاكرة الجريحة للجزائريين تفسر الكثير، أغلب المهاجرين الجزائريين جاء إلى فرنسا ما بين ١٩٥٠ و١٩٦٥، أي في خضم أو أثناء حرب بشعة، أو بعد الاستقلال بقليل، ولا يفهم أبناؤهم أسباب مجيئهم إلى الدولة العدو ويعتبر نفسه في حالة قطيعة (أو أسوأ) مع هذا المجتمع، ويشير البعض (الهواري عدي(3)، جان لوكا(4)) إلى سوء سمعة مفهوم العلمانية (المحوري في فرنسا) عند جماهير شعوب المغرب العربي، إذ وظف شر توظيف لوصم حركات التحرر الوطني بالتعصب الديني ولتبرير قمع قاس، وهناك من (الهواري عدي) يشدد على الدور السلبي للأمة العربية وللقيم التي تلقنها لابنها الذكر لتحصينه ضد الفرنسة، فالابن هو أهم ذكر في حياتها (الحياة الزوجية غير سعيدة في أغلب الأحوال) وتخشى عليه وتخشى أن يتركها، فتركز على إقناعه بأنه يعيش في مجتمع كافر ومنحل وبأنه مسلم وبالتالي مختلف اختلافا يمنع الانصهار والاندماج، والغريب أن هذا الموقف لا يعبر عن رغبة حقيقية في معاداة المجتمع بقدر ما هو خطاب حسن النية لإبقاء الابن في الفلك العائلي، ولكنه خطاب يدفع بعض الأطفال والأبناء إلى رفض مرعوب لمحتوى المناهج الدراسية وإلي التصرف بتحفظ أو بعدوانية مع غير المسلمين، وأخيرًا هناك من المدرسين والمعلمين من يقول إن للاختلاط بين البنين والبنات نتائج غير متوقعة في بعض الأوساط الفقيرة، من المعلوم أن نتائج البنات الدراسية أحسن من نتائج البنين في المراحل الأولي من التعليم، وأغلب الأسر تعلم ذلك وتتقبله، ولكن الأسر الفقيرة التي تعتقد أن النجاح في المدرسة مفتاح الصعود تهين البنين العاجزين عن منافسة البنات، وتعنفهم لفظيا وبدنيا، فيتولد عند البنين كراهية لأسرته ولنظام التعليم وللمجتمع، وترتب على كل ذلك تزايد عدد الضواحي التي تشهد أعمال شغب وتفشي أشكال من الأجرام وازداد عدد المسئولين المحليين الذين وافقوا على تسهيل مهمة الجماعات الدينية (التبليغ، السلفية، الإخوان وغيرهم) التي عرضت خدماتها لترشيد الشباب وتربيتهم... وتجنيدهم.

وهناك تطور جديد يعقد الأمور. وهو أحدي نتائج انهيار الرواية الكبرى المؤسسة للجامعة الوطنية، وهذا التطور وصفه أوليفيي كاريه قائلا الإسلام لم يتطرف، بل تأسلم التطرف، ويقصد بهذا انتشار ظاهرة الأوربيين الرافضين لمجتمعهم ولانحلاله ولضحالة مشروعه، فيعتنقون الإسلام  وينتهجون منهج السلفية الجهادية لغة وممارسة ومنهجا للتغيير الثوري.

ونختتم هذا بإشارة سريعة إلى مظاهر التفرقة التي يعاني منها العرب، فمن الصعب لمن يحمل اسما عربيا أن يؤجر شقة مملوكة لأفراد، وهناك شركات كثيرة تفضل عدم تعيين مسلمين وعرب. ويميل رجال الشرطة إلى الاشتباه في كل وجه عربي فقير، والمسلم يتحمل غمزا ولمزا يوميين في معتقداته.. إلخ.

 

ثالثاً- جدلية التوافق والاستقطاب السياسيين

هذا العرض المركز لمشكلات وأزمات جسيمة تواجهها فرنسا يجب ألا يمنعنا من الإشارة إلى الإيجابيات والجوانب المضيئة، ففي فرنسا كتلة صلبة كبيرة العدد تضم جماهير من أطياف ثقافية ودينية مختلفة يجمعها حب الوطن والحرص على العيش المشترك والتمسك الأصيل بقيم الجمهورية (حرية، مساواة، أخوية) وبتعددية المجتمع وبالإدارة السلمية للصراع السياسي، ويلاحظ أيضا ارتفاع ملحوظ لطلبات الالتحاق بالجيش يعد هجمات العام الماضي، وننوه إلى قدرة الفرنسيين على الاصطفاف الوطني.

ولا نقول هذا للتقليل من شأن المخاطر، فمن المبكر جدا الحكم على الآثار النفسية والثقافية والسياسية والاجتماعية لهجمات ١٣ نوفمبر، التي شكلت تصعيدا كميا وكيفيا، الهجمات السابقة استهدفت شرائح معينة (صحفيين مثيري للجدل، يهود، مسلمين يعملون بجهاز الدولة) وهجمات ١٣ نوفمبر استهدفت الجميع دون تفرقة، وكرست في الخيال الجمعي فكرة وجود عدو داخلي ينسب نفسه للإسلام، ومن المعلوم أنه تم رصد زيادة كبيرة في الأفعال المعادية للإسلام والمسلمين، ويبدو لي أن انتخابات المجالس الإقليمية أعطت بعض المؤشرات. كانت نسبة التصويت منخفضة في الجولة الأولي، لاستياء الكتلة الصلبة من الحزبين الرئيسين، مما سمح لليمين المتطرف والإسلاموفوبي بتحقيق نتائج غير مسبوقة، وترتب على ذلك احتشاد الكتلة الصلبة في الجولة الثانية لإسقاطه وارتفعت نسبة المشاركة ارتفاعا مذهلا مما منع هذا اليمين من الفوز في أي محافظة.

ونريد الإشارة في عجالة إلى أربعة أنواع هامة من الاستقطاب يميل الخطاب الإعلامي إلى التقليل من شأنها، أولا: تتسع الهوة بين نخب الحكم من ناحية، والطبقات الوسطى من ناحية أخرى، والطبقات

ونريد الإشارة في عجالة إلى أربعة أنواع هامة من الاستقطاب يميل الخطاب الإعلامي إلى التقليل من شأنها، أولا: تتسع الهوة بين نخب الحكم من ناحية، والطبقات الوسطى من ناحية أخرى، والطبقات الفقيرة من ناحية ثالثة، ويركز الخطاب الإعلامي على كل من النخبة والفقراء ويميل إلى إهمال الطبقات الوسطى، وترى في نفسها الكتلة الصلبة وفي النخبة بؤرة الفساد والغباء وانعدام الكفاءة والمسئول الأول عن تراجع مكانة فرنسا، وتميل إلى التوجس من الضواحي، وإلى الاعتقاد أنها تدفع فواتير دعمها بلا طائل، وترى النخبة أنها مظلومة وأن حكم مجتمع به تعقيدات شديدة وسريع الغضب أصبح مستحيلا في عصر العولمة والشبكات الاجتماعية وقنوات الأخبار، وتعتقد الطبقات الفقيرة أن السياسات الحكومية التي تدعي مساعدتها لا معني لها وأن المجتمع يحتقرها ويكرهها.

ثانيا: يتبنى الإعلام وقطاعات مهمة من النخب الحاكمة خطابا أيديولوجيا يدافع عن الوحدة الأوربية، ويرى في الأيديولوجيات والمشاعر القومية شرا مطلقا تسبب في حروب عالمية، وفي تاريخ فرنسا سجلا حافلا من الجرائم يحتم جلد الذات وكراهيتها، ويعتقد أن نموذج المركزية الثقافية عفا عنه الزمن ومن الواجب تبني نموذج التعددية الثقافية، ويميل إلى الظن أن التأسلم "المعتدل" خير ممثل للثقافة الإسلامية، وترفض قطاعات واسعة من الطبقات الوسطي ومن البرجوازية الصغيرة وبعض فصائل النخبة هذا الخطاب جملة وتفصيلا، ويتمسكون بالخطاب التقليدي المناقض له والمتوجس من الوحدة الأوربية، ومن المهم إدراك وجود ممثلين للخطابين في كل القوي السياسية – باستثناء اليمين المتطرف.

ثالثا: فرنسا بها أكبر عدد من المسلمين في أوربا، وأكبر عدد من اليهود، وتدهورت العلاقة بين أتباع الديانتين بعد بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويراقب باقي الفرنسيين تطور تلك العلاقة بقلق واضح، يخشون اضطرابات وجرائم، ويخشون مغادرة اليهود لفرنسا نتيجة للخوف الدائم من بعض العرب ومن استهداف أطفالهم، وهذا الخوف يشترك فيه المتعاطفون مع الفلسطينيين ومؤيدي إسرائيل.

رابعا، يحاول متدينون ينتمون إلى كل الديانات التشاور والتحالف لتشكيل معسكر يعمل من أجل تعريف جديد للعلمانية أو من أجل هدم هذا المفهوم، ظلت هذه المحاولات هزلية تثير الشفقة إلى أن مر قانون سمح بزواج المثليين، وفجأة أصبح هذا التجمع ملموسا يبدو وكأنه إرهاصة لتحالف المستائين من العلمانية الليبرالية، ومن المبكر جدا الحكم على هذا الفصل، لحظة لن تتكرر أو بداية عملية طويلة، على العموم المعسكر المتمسك بالعلمانية يتمتع الآن بأغلبية واضحة.

 

رابعًا- بعض الملاحظات على السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط

في مواجهة الربيع العربي، انتقلت السياسة الخارجية من الاستخفاف ومن تأييد للنظام التونسي البائد إلى التردد فيما يتعلق بمصر إلى تبني واضح للثورة الليبية والانتفاضة الثورية السورية، وبدا في لحظة ما أن فرنسا ستراهن على الإسلامويين المعتدلين وعلي خط قريب من خط قطر (انظر على سبيل المثال خطاب جوبيه وزير الخارجية في أبريل، ص٢٠١١) ولكن تطورات الأوضاع وصعود الجهاديين دفعتها إلى التحالف مع السعودية والإمارات وإلي شراكة إستراتيجية مع مصر السيسي)5).

ونود لفت النظر إلى تعدد الأطراف الفرنسية المشاركة في عملية صنع القرار أو المؤثرة عليها، رئاسة الجمهورية (ساركوزي كان مقربا من أمير قطر وهولاند يكن للسيسي ودا كبيرا) وزارة الدفاع، وزارة الخارجية، المخابرات الخارجية، الأمن الداخلي (المتعاون مع الأجهزة العربية لرصد الإرهابيين وتنقلاتهم)  المجمع الصناعي (بترول، سلاح، (سفن، وسائل مواصلات، اتصالات، الخ) وجماعات فكرية متباينة (أقصي اليسار، محافظون جدد(6)، متخصصون في الشأن العربي. مؤيدي لإسرائيل، إعلاميين) ...إلخ.

ولا نستطيع أن ننسب لوزارة ما رأيا ما إلا في القليل النادر، فعلي سبيل المثال لكل وزير ولكل سفير وجهة نظر، ولكل إدارة في الخارجية مقترحات، وأعضاء مكتب الوزير لهم توصيات، وهناك مجموعات فكرية عابرة للإدارات أو الأقسام، كالمحافظين الجدد، ونقول هنا أن نفوذ إدارة شمال أفريقيا والشرق الأوسط بالخارجية تراجع بعد سنة ٢٠٠٣ (الخلاف مع الولايات المتحدة حول العراق دفع الجميع إلى نقدها رغم صحة موقفها) وخفت، وأن هذه الإدارة منقسمة على نفسها بين مؤيدين للخيار القطري والإخواني وأنصار الخيار المصري السعودي الإماراتي وغيرهم، ونشير أيضا لكتاب(7) صدر تناول تاريخ العلاقات السورية الفرنسية، كنز من المعلومات، وفرة من المصادر، يجيد المؤلفان إبراز شدة التنوع في المشاركين في صنع السياسة، وقيام الاستراتيجيات - إن وجدت- على فرضيات خاطئة أو هشة، وميل بعضهم إلى اتخاذ مبادرات غير مدروسة تورط الجميع، ويعيب هذا الكتاب عدم تعرضه لقضية التنسيق بين الجهات المختصة وافتراض انعدامه وأعلم أن هذا غير حقيقي، ونشير أخيرا إلى نفوذ المحافظين الجدد واتفاقهم على عرقلة أي اتفاق مع إيران وفشلهم في هذا يبدو لنا أن القيادة الحالية حددت مصالحها وأهدافها في المنطقة على النحو التالي، القضاء على داعش، محاولة منع هجرة جماعية جديدة إلى أوربا، تنمية العلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية مع الأسواق الكبيرة، تنمية التعاون الأمني والعسكري للتعامل مع بؤر الإرهاب المتنامية في المشرق والمغرب وأفريقيا غير العربية، وفي سوريا تغيرت الأولويات بعد هجمات نوفمبر وإن لم تتغير الأهداف، فمحاربة داعش أصبحت الأولوية القصوى، وهناك إدراك لضرورة المحافظة على الجيش السوري (مع محاولة إعادة هيكلته لكي لا يكون طائفيا) وعلى الرئيس بشار "أن يغادر المسرح" ولو بعد حين، وتواجه تلك السياسة صعوبات كثيرة، ليست أقلها التوتر بين تركيا وروسيا.

فرنسا بها أكبر عدد من المسلمين في أوربا، وأكبر عدد من اليهود، وتدهورت العلاقة بين أتباع الديانتين بعد بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويراقب باقي الفرنسيين تطور تلك العلاقة بقل

 أما فيما يتعلق بمصر فهناك قرار بدعم النظام الحالي انطلاقا من الحرص على الدولة ومن الخوف من هجرة مصرية جماعية إن سقطت في يد الإسلاميين، ورغبة في بناء شراكة استراتيجية وأمنية مع الجيش المصري، مع مراقبة تقلبات وتوترات العلاقات المصرية الأمريكية (هناك من يخشى أن تكون فرنسا مجرد ورقة ضغط على واشنطن) وفي الاستثمار في مصر، وتظل المملكة السعودية حليفا رئيسا، وإن كان هذا الخيار الرئاسي يتعرض لانتقادات كثيرة من أطراف متعددة – ويبدو لي أن العلاقات مع مصر والسعودية ملف يتبع الرئاسة (ولا يعني هذا عدم الاستماع إلى جهات أخرى) وأن الملف السوري في أيدي الخارجية والدفاع.

وأخيرا وليس أخرا، تجري في الكواليس مناقشة حول الاستراتيجية الواجب اتباعها تجاه إيران، وحول طبيعة العلاقات معها، لإدراك ضرورة ألا تنحصر تلك العلاقات في شقها التجاري ولكي لا تصبح أسيرة لهذا الشق.

 

الهوامش:

(1) أغلب المعلومات الواردة في الفقرة التالية مستقاة من كتاب جان ميشال كاتربوان "صدام الإمبراطوريات" ومن مناقشات مع جامعيين عاملين بمعهد العلوم السياسية بباريس، نذكر منهم العلامة جان لوكا والدكتور جيل دولانوا

(2) Lacoste, Yves: La question post coloniale, une analyse géopolitique, Fayard, Paris 2010, 440 pages

يشير الدكتور لاكوست إلى وجود نحو ٥ ملايين قادمين من دول ذات ثقافة إسلامية، وإلي أن أكثر من نصفهم حامل للجنسية الفرنسية

(3) Https://blogs.mediapart.fr/lahouari-addi/blog/070116/la-fracture-sociale-et-culturelle-de-la-societe-francaise

(4)خطاب طويل لكاتب هذا المقال وسمح لي بالاستشهاد به

 (5) تعتمد تلك الفقرة على مقابلات شخصية مع دبلوماسيين وباحثين

 (6) المحافظون الجدد مجموعة صغيرة العدد ونافذة توحدها كراهية إيران والنظام السوري، وهذه المجموعة تهتم بالعلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا والشرق الأوسط، ومشارب وتوجهات أعضاؤها مختلفة

(7) Chesnot, Christian, Malebrunnot, Georges: Les chemins de Damas;Le dossier noir de la relation franco syrienne, Robert Laffont, Paris 2014, 396 pages.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟