قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، كان جزء كبير من خطاب المثقفين والمفكرين والكُتاب والساسة، يتمحور حول أننا - أى العرب والمصريين - قد خرجنا من التاريخ، أو فى أضعف الأحوال أننا على وشك الخروج منه، فلم نعد قادرين وفق هذا الجزء من الخطاب العام على صنع تاريخنا أو إعادة صنعه وإنتاجه، على نحو يتوافق مع روح العصر والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن إسهامنا فى التاريخ يقف عند حدود الاستقبال والتلقى لتحولاته فى العالم، وقراءتها دون الانتقال إلى مرحلة الفعل والإرسال والإسهام والتأثير والتأثر، بل وصل الأمر بعديد من الدوائر البحثية والفكرية العالمية إلى حد الترويج لما أسموه «الإستثناء العربى» أى استعصاء العالم العربى على انتهاج الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحداثة السياسية والثقافية، بسبب التكوين المذهبى والدينى والطبيعة «الإستثنائية» للإنسان العربى الذى يتماهى مع الاستبداد ويتمتع بقابلية لفقدان الحرية والتغاضى عنها، بل وتفضيله «للعبودية المختارة» بدلا من التمرد عليها والبحث عن الحرية.
فاجأتنا الثورات العربية بخاصة فى مصر وتونس، بأن جميع هذه المفاهيم والأحكام لم تكن تدرك طبيعة التفاعلات الجارية وحدودها سواء ما ظهر منها فى تجليات واضحة واحتجاجات تتحدى الأمن، أو ما كان يتراكم فى العقول والصدور والوعى والوجدان، حيث قادت هذه التفاعلات الجزئية والمحدودة والمتراكمة خلال ما يقرب من العقد من الزمن بتحولها إلى ثورة حقيقية سلمية ومدنية فى الخامس والعشرين من يناير عام 2011 واستمرت حتى أطاحت بالنظام القديم أو برموزه فى 12 فبراير من الشهر التالى.
لقد وضعتنا هذه الثورات فى قلب التاريخ وأعادت للأمة ثقتها فى قدرتها على صنع تاريخها وكتابته وفق الأهداف الإنسانية العامة التى وضعتها الثورة فى العيش والحرية والكرامة، وضعتنا هذه الثورات فى قلب الحداثة والمعلوماتية وتكنولوجيا العصر، أسفرت الثورات عن قدرة مذهلة على التواصل الفعال وصياغة الأهداف بطريقة تخلو من الإيديولوجيات وتشوه الواقع، فكان أن اجتذبت هذه الأهداف شوق الملايين للانعتاق من التهميش وفقدان الكرامة والتوق إلى الحرية دون أن تنخرط أى من هذه الأهداف فى إطار إيديولوجى يتعالى على الواقع ويتمسك بالمثال القائم فى عقول أصحابه، على حساب تعقد الواقع وبساطته فى نفس الوقت.
كشفت الثورة عن عبقرية الإنسان المصرى وقدرته على الاستجابة والتحدى والتأقلم مع ظروف جديدة ومتغيرة وعن قابلية الإنسان المصرى للانفتاح على تجارب الآخرين والاقتباس منها بل وتطويرها على نحو مدهش.
لم تتوقف عبقرية الإنسان المصرى عند حدود تفجير ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، بل أطاح بمن سرقوا ثورته وهددوا وحدته الوطنية، وأكد بوضوح أن ثورته لم تكن من أجل إقامة الخلافة الإسلامية أو إقامة الدولة الدينية أو إعلان حرب على الطوائف والمذاهب الأخرى، وأكد أيضا أن ثورته بريئة من العنف والدماء التى سالت فى أنحاء كثيرة من البلدان العربية التى تمكنت فيها الجماعات المتأسلمة من الانطلاق فى مشروعها الدموى والبربرى والطائفى.
والسؤال الآن هو أين نحن من شعارات وأهداف الثورة؟ هل تحققت هذه الأهداف؟ وهل يمكن لها أن تتحقق فى مناخ ما بعد الثورات والأنظمة التى تلتها والحكومات التى تشكلت؟
ولاشك أن المسافة لا تزال بعيدة بيننا وبين تحقيق أهداف وشعارات الثورة، ذلك أن الثورة بموجتيها الأولى فى يناير والثانية فى يونيو قد تركزتا على إسقاط نظام مبارك وإسقاط نظام الإخوان، بينما غاب عن الأذهان اليوم التالى لسقوط كلا النظامين أى غاب برنامج الإصلاح والانتقال والذى كان ينبغى أن يتحول إلى مرشد عمل للحكومات والنظم التى تعاقبت بعد الثورة، الأهداف الإنسانية النبيلة التى توختها الثورة لم تشكل برنامج عمل متكاملا وملزما بل هى أهداف قابلة للترجمة بطرق مختلفة وفق المصالح والأهداف المتناقضة للقوى السياسية والاجتماعية المختلفة، وكانت تستوجب فى مرحلة لاحقة التحديد والتفصيل والتأصيل حتى يصعب الالتفاف حولها وتكتسب المصداقية والجدية اللازمة.
والحال أن هذه الأهداف واجه تحقيقها قوى تفوق طاقة هذه الأهداف على التحقق وتفوق طاقتها على الدفع نحو التحقق فى الواقع من البيروقراطية وأجهزة الدولة ورجال الأعمال والنخب المتنفذة فى الإعلام وصناعة الرأى العام، وهى القوى التى كانت منظمة بعكس القوى الثورية التى رفعت هذه الأهداف والتى كانت مبعثرة وغير منظمة وافتقدت إلى الوحدة والتجانس وأصابها سقوط نظام مبارك السريع بنشوة الانتصار السهل والذى جاء بفضل انحياز القوات المسلحة للمطالب الشعبية.
حددت خريطة الطريق فى 3 يوليو الطريق إلى الإنتقال إلى نظام ما بعد الإخوان، اختيار رئيس مؤقت هو رئيس المحكمة الدستورية العليا وتعديل دستور 2012 وتشكيل لجنه العشر ثم لجنة الخمسين وإجراء انتخابات الرئاسة، ورغم أهمية ومحورية هذه الخطوات فإنها لم تتطرق إلى أهداف الثورة أو أنها افترضت أنها تمهد لتحقيق أهداف الثورة ضمنيا ودون أن تصرح بذلك.
خطوات كثيرة وكبيرة تمثل إطارا وبيئة مواتية للاقتراب من أهداف الثورة، بيد أن هذا الاقتراب لن يتأتى تلقائيا وذاتيا بل ينبغى المطالبة به والتفاوض حوله مع كافة الشركاء فى السلطة والمجتمع المدنى والقوى السياسية، فالحرية والديموقراطية هما هدفان ملزمان للرئيس والسلطة التنفيذية والتشريعية كما ورد فى خطاب الرئيس فى الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب وعلى الحكومة والرئيس ترجمة ذلك ترجمة عملية وأمينة كما أن العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة هما شرطان لتحقيق التنمية أى ينبغى أن تسترشد التنمية بهذين الشرطين وأن يتم توزيع عائد التنمية بشكل عادل ولصالح الطبقات الفقيرة بالدرجة الأولى.
إن تعثر الثورات فى تحقيق أهدافها لا يعنى بالضرورة موت هذه الثورات أو اندثارها فالثورات تبقى ملازمة للوعى الذى كشفت عنه وصاغته، وتعثر مطالبها وأهدافها لا يعنى بالضرورة استحالة تحقيق هذه الأهداف بل يعنى إعادة طرحها مجددا فى الفضاء العام والإبقاء عليها حية فى وعى المواطنين، إن عدم تحقيق أهداف الثورة يعنى أننا خرجنا من التاريخ بعد أن دخلنا فيه. نقلا عن الأهرام