المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د.على مبروك
د.على مبروك

كيف حضرت الشريعة عند مفكرى النهضة الأوائل؟

السبت 12/مارس/2016 - 11:07 ص

إذا كان مفكرو النهضة العرب قد توافقوا مع دخولهم إلى العصر الحديث- قبل قرنين تقريباً- على إنه لا سبيل إلى انتهاض عالمهم من سُباته الطويل إلا عبر تقييد السلطة الحاكمة فيه، فإنهم قد اتجهوا- فضلاً عن الإلحاح على ضرورة تأسيس الدواوين والتنظيمات على طريقة الإفرنج- إلى التفكير فى الشريعة بما يجعل منها إحدى أدواتهم فى إحداث هذا التقييد. ويبدو أن هذا التفكير لم يفارقهم للآن؛ حيث يبدو أن قطاعاتٍ من المنخرطين فى ثوراتهم الأخيرة لا تزال تفكر بأن الشريعة- والدين عموماً- هى السبيل لتقييد السلطة.

لكنه يلزم التنويه بأن المرء يلحظ ضرباً من التباين الهائل الكاشف عن انفتاح التفكير فى الشريعة عند آباء النهضة الأوائل، فى مقابل ضيقه عند ورثتهم الثوريين. ولسوء الحظ، فإن هذا التباين قد آل إلى أنه فيما كادت الشريعة أن تكون- عند الآباء الأوائل- أداةً لتقييد السلطة فعلاً، فإنها تكاد تتحول- مع الورثة الأواخر- إلى أداة لتقييد المحكوم وإطلاق السلطة كاملة للحاكم عبر التأكيد على كونه يمارس سلطته باسم الله. وينشأ ذلك عن التباين بين طريقتين فى التعاطى مع الشريعة؛ حيث تحضر عند روَّاد النهضة الأوائل كمقاصد وأصول كليّة، بينما هى لا تحضر عند المتثورين الأواخر إلا كأحكامٍ ونصوص (أو أخبارٍ) جزئية. ومن هنا أهمية إعادة النظر فى طريقة رواد النهضة الأوائل فى التفكير فى الشريعة (وعند خير الدين باشا التونسى بالذات) لعلها تسهم فى إثراء التفكير فى الحرية.

انطلق روّاد النهضة، فى القرن التاسع عشر، من قراءة تردّ الأصل فى نهضة البلدان الأوروبية إلى ما جرى من تقييد سلطة الحكَّام فيها. إذ يبدو- على تباين الرؤى واختلاف المرجعيات- أن ثمة الاتفاق بين رواد النهضة على أن تفوق الغرب (أو البلاد الأوروباوية التى تعرّفوا عليها) راجعٌ أساساً إلى نظامه السياسى الضامن فى رأيهم للحرية والمُقيِّد للسلطة بالقانون, وإن تأخر الشرق بما فيه البلاد الإسلامية راجعٌ أيضاً إلى طبيعة نظامه السياسى القائم على الاستبداد.

إن هذا الموقف يصدق على الفكر الإصلاحى العربى والإسلامى عموماً سواء ذلك الذى قام باسم السلفية، أو ذلك الذى أراد أن يكون ليبرالياً. هنا يلتقى لطفى السيد مع علال الفاسى، كما يلتقى محمد عبده مع خير الدين التونسىس. وإذ تحدد الجواب،هكذا،على سؤال النهضة بأن الاستبداد هو علة التخلف وأصله، وأن نقيضه الضامن للحرية والمُقيّد للسلطة بالقانون، هو- فى المقابل- أساس النهضة وأصلها؛ فإن شرط بناء النهضة، عند هؤلاء الرواد، كان لابد أن يتحدد بالقصد إلى تقييد السلطة بما هو الآلية اللازمة لتقويض الاستبداد وتجاوزه.

ولعله يلزم التنويه هنا بأن فضل السبق فى ربط حصول النهضة بضرورة تقييد السلطة، قد كان للطهطاوى الذى مضى إلى أن زالكتاب المذكور الذى فيه القانون (الذى يمشى عليه الفرنساوية) يُسمى الشرطة، ومعناها فى اللغة اللاتينية ورقة، ثم تسومح فيها فأُطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فلنذكره لك، وإن كان غالب ما فيه ليس فى كتاب الله تعالى، ولا فى سنة رسوله (صلعم)، لتعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقاد الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع من يشكو ظلماً أبداً، والعدل أساس العمران.

إن ذلك يعنى أن سؤال النهضة: كيف السبيل إلى تجاوز التخلف؟ قد آل إلى سؤال السياسة: كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟ وهو المآل الذى أطل صريحاً مع «خيرالدين» حين مضى يتساءل: هل يمكننا اليوم الحصول على الاستعداد المُشار إليه (يعنى الذى يمكن به مجابهة الآخر «الأوروبي» سياسياً وعسكرياً) بدون تقدم فى المعارف وأسباب العمران المُشاهدة عند غيرنا، وهل يتيسر ذلك التقدم بدون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التى نشاهدها عند غيرنا فى التأسُّس على دعامتى العدل والحرية.

وإذ ترتبط فعالية التنظيمات بقوة الرأى العمومي؛ وهو ما لا يمكن توافره فى مجتمعات لم تكن قد عبرت بعد عتبات العصور الوسطى، فإن ذلك قد دفعهم إلى التفكير فى آليات أخرى لتقييد السلطة. ولعلهم قد حرصوا على ضرورة أن تكون هذه الآليات جزءاً من المخزون التاريخى للجماعة، ورأسمالها الرمزي. وضمن هذا السياق، فإنه قد بدا لهم أنه ليس ثمة ما هو أنسب من الشريعة لكى تؤدى هذا الدور المُقيِّد للسلطة. لكنهم كانوا على وعيٍ أيضاً بأن الشريعة على الصورة التى انحدرت إليهم من سابقيهم لا يمكن أبداً أن تكون قيداً على «السلطة»؛ حيث إنها لا تعدو كونها- بحسب ما تقطع التجربة- قناعاً تنفلت به تلك السلطة من أى قيد.

ولعل ذلك يرتبط بما يبدو من إن ثمة مسارين للتفكير فى الشريعة؛ تكون فى أحدهما مقاصد وأصولاً، بينما تكون فى الآخر أحكاماً وأخباراً ونصوصاً. وفيما تكون الغاية، مع حضورها كمقاصد وأصول، هى تحقيق الصالح العمومى للبشر؛ والذى يلعب العقل المتحرر من سطوة التقليد الدور الأبرز فى تعيينه، فإن حضورها كأحكام ومرويات ونصوص يجعل منها محض أداة للإخضاع فى مجالى الاجتماع والسياسة بالذات. ومن حسن الحظ أن مسار التفكير فى الشريعة كمقاصد وأصول يضرب بجذوره فى تاريخ الإسلام المبكر، ومع واحدٍ من أصحاب السيادة العليا فى الإسلام؛ والذى هو الصحابى الأبرز عمر بن الخطاب الذى ينكشف تفكيره فى الشريعة عن الانحياز لما يمكن القول إنه «القصد» على حساب «الخبر/ النص».

ومن هنا ما يمكن التأكيد عليه من أن روّاد النهضة - خير الدين التونسى ثم الكواكبى بالذات- كانوا يستعيدون هذا التقليد العُمري، من خلال تفكيرهم فى الشريعة كمقاصد وأصول؛ وبما يؤكد عليه ذلك من انفتاح التفكير فى الشريعة على واقع التاريخ وضروراته. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟