أثبتت تجارب العقد الماضي من الحوارات الفلسطينية الثنائية فشلاً ذريعاً، ما يجعل التعويل عليها مجدداً عبثاً سياسياً، ومضيعة للوقت. ففي ظل وجود جهات مؤثرة في كلا الطرفين، تتغذى على استدامة الانقسام، وتنتعش مصالحها الذاتية باستمرار نزف الوطن، وفي ظل غياب آليات تنفيذ واضحة ومحددة لما يتم التوقيع عليه، وجداول زمنية دقيقة ومحددة للتطبيق، يبقى تحقيق إنهاء الانقسام حلماً رومانسياً يداعب وجدان الطيبين من المواطنين، وطالما استمر طرفا الانقسام باحتكار أدوات وتوقيت ومكان مناقشته، وفق أجندتهما، من دون الالتفات إلى رأي غالبية المواطنين، وإشراكهم في الحوار الجاري لوأد الانقسام، فلن يحصل خرق حقيقي في الأفق، كما أن التجاهل المتعمد لسبر أغوار مختلف القضايا الخلافية، ووضع حلول موضوعية لها، وتعمد التعويل على النيات الطيبة للطرف الآخر، وترك العديد من بنود الاتفاق فضفاضة، وقابلة للتأويل والاجتهاد، ساهمت في فشل كل الجهود السابقة لطي صفحة الانقسام.
لقد تحولت جولات الحوار الفلسطيني مظهراً اجتماعياً يستخدم لتجميل صورة الفرقاء أمام الجماهير، أو قفازات يشرعها كل طرف في مواجهة الآخر للدفاع عن نفسه أمام الخصم، ما جعلنا تائهين في صحراء الفرقة تصفع بنا رياح الذل والهوان. فلو توافرت النيات الحقيقية لإنهاء الانقسام، لكانت وثيقة الأسرى التي وضعها خيرة أبناء هذا الوطن، بوصلة، ومشكاة كافية لتبديد الظلام.
لم تعد الوحدة وتصويب المسار ترفاً فكرياً يتم تداوله في الصالونات السياسية للنخب، بل هو واجب مقدس، لا مجال للتلكؤ في تحقيقه، إذ لم يعد من الممكن المناورة في منح الناس حقوقهم الأساسية، وفي مقدمها المشاركة بإرادتهم الحرة باختيار ممثليهم في مختلف المؤسسات، ابتداءاً من الرئاسة حتى مجالس اتحاد الطلبة في جامعات الضفة والقطاع، مروراً بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تحتاج إلى إعادة تفعيل لكل مؤسساتها، كونها المظلة القانونية والسياسية والمعنوية لشعبنا في الوطن والشتات. فها نحن اليوم نقف كما لم نكن في أي وقت مضى، مرددين بأعلى صوت: «يا وحدنا»، في ظل انشغال العالم بقضاياه الداخلية، من اوروبا المنشغلة بالتعامل مع التهديدات الأمنية، والأزمات الاقتصادية، وتدفق اللاجئين عبر حدودها، الى الولايات المتحدة التي دخلت أجواء السباق إلى البيت الأبيض سنكون نحن، عرباً وفلسطينيين، قرابينها، كوننا الطرف الأضعف في المعادلة السياسية القائمة على المصالح لا الحقوق والقيم، بالإضافة إلى السياسة الخارجية للإدارة الأميركية التي حزمت حقائبها باتجاه سياسة «الارتكاز الآسيوي»، في إشارة واضحة الى أولوياتها المستقبلية، خصوصاً إذا كانت هيلاري كلينتون على رأسها، بعد ضمان استمرار الدول العربية بشراء أحدث الأسلحة من الغرب، وبعد تأمين نفط العرب بأزهد الأسعار، بينما تتفجر الصراعات من المحيط إلى الخليج، الذي يمر بمراحل مخاض عسير، بينما تتراجع القضية الفلسطينية من قضية العرب والمسلمين الأولى، إلى إحدى القضايا الداخلية لتلك الدول، في ظل استغلال اسرائيل لكل تلك الأحداث لتنفيذ مشاريعها الإقصائية، واستغلال صراعاتنا البينية، وانقسامنا، لاقتلاع مزيد من الأرض، وتهويد القدس، واختراق علاقتنا بدول صديقة، شكلت تاريخياً حليفاً لشعبنا.
لن يحدث تقدم حقيقي في موضوع المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام الدامي، من دون تأثير جدي وحقيقي من القوى الحية والمؤثرة في المجتمع، وما لم يأخذ ضحايا الانقسام الحقيقيون دورهم الطبيعي في إنهائه، والمقصود تلك الغالبية الصامتة من الشباب والمثقفين والأكاديميين وغيرهم، من خلال الضغط الحقيقي للتكفير عن خطيئة تقسيم الوطن، وان تكون هذه القوى جزءاً من الحوار والقرار، لا شاهداً في بروتوكولات التوقيع، وأخذ الصور التذكارية، فالتاريخ يسجل، وذاكرة الأجيال لا تعرف النسيان، والسياسيون قادرون على تحقيق ما يعرف بالسلام السلبي «negative peace «، وهو الذي قد يؤجل اندلاع عنف، أو حرب بين دولتين، او فريقين متخاصمين، وهو أقصى ما يمكن تحقيقه من تلك اللقاءات الثنائية، من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية، بينما الانتصار الحقيقي للوطن، وتحقيق المصالحة، يحتاجان إلى ما هو أعمق من لقاءات السياسيين التي لا تلتفت عادة الى التفاصيل، وتفضل التركيز على المخرجات السياسية وتعظيم المكاسب الحزبية.
نحن في حاجة حقيقية إلى إعادة ترميم بيتنا الداخلي، ونسج علاقات قوامها تقبل الرأي الآخر، وتسليح جبهتنا الداخلية بالوعي والوحدة وتحديد مسار واحد ومتفق عليه لسفينتنا، ضمن برنامج سياسي يرتكز على الثوابت الوطنية، وحق شعبنا بالمقاومة.
وعلى رغم صعوبة الدرب وقساوة الواقع، إلا أن هذا الجيل الفلسطيني الذي ينتفض في كل ساحات الوطن، ويعلن رفضه للاحتلال والانقسام، يضيء في النفس قناديل أمل، ويمنحنا ثقة بأن شعبنا سيتخطى عقبة الانقسام، ويدفنها خارج الوطن، غير مأسوف عليها. نقلا عن الحياة