الأحزاب التقليدية الأوروبية تتعثر وتضعف... وأحزاب «ضد النظام» تتقدم
الاستياء والحذر والقرف وخسارة الصدقية، هي كلمات غالباً ما تتوسل حين وصف الأزمة السياسة التي تنزلق اليها الأحزاب السياسية في اوروبا. الأعوام تنقضي، وأعراض الأزمة على حالها، والمشكلة تتفاقم. ومن عملية اقتراع الى اخرى، تتعاظم نسب امتناع الناخبين من الاقتراع. وتعصف ازمة السياسة بالأحزاب السياسية، فهي الوسيط في نظام يوشك على الغرق. وخلص احصاء اجراه معهد «سفيبوف» الى ان 12 في المئة من الفرنسيين فحسب، يولون الأحزاب السياسية ثقتهم. ويرى ثلثا عينة الدراسة (67 في المئة) أن دوران عجلة الديموقراطية في فرنسا يتعثر ولا يدور على اكمل وجه. فحال الأحزاب السياسية وثيقة الصلة بحال الديموقراطية. وتنغلق الأحزاب على نفسها وتنقطع من المجتمع ولا تجدد رجالها (ممثليها السياسيين) - وعدد القيادات النسائية فيها قليل - ولا أفكارها. وكثر يغادرون صفوفها، ولا يخفون خيبتهم. وخسر كل من الحزب الاشتراكي الفرنسي و»الاتحاد من اجل حركة شعبية» (يمين الوسط) نصف منتسبيه، منذ 2007. وعلى سبيل المثل، اهتزت كل اركان بنى الحزب الاشتراكي الفرنسي في ربع القرن الماضي، ومنها التثقيف والإعلام وإعداد البرامج وانتخاب المرشحين. ولم يعد صوغ البرامج الحزبية يتصدر أولويات مرشحي الأحزاب مع أفول الإيديولوجيات، وغلبة الطابع الشخصي على الحملات الانتخابية والحكم. وأسست الأحزاب منظمات تعرف بـ «ثينك تانك» (مراكز بحوث فكرية وجغرافية سياسية وسياسات استراتيجية واقتصادية...)، وأوكلت إليها تناول شؤون البرامج الحزبية. والفروق بين الأحزاب تدرَس والمعايير يلفها الغموض. والأحزاب المهيمنة لم تخسر مكانتها، وهي تمسك بمقاليد حياة سياسية عبثية. وفي مثل هذه الظروف، تتعذر الإشادة بالأحزاب، وتوجه إليها سهام النقد والهجاء. فتستغل الأحزاب الشعبوية، على اختلاف مشاربها، هذه الأزمة للتخلص من كل وسيط بين الشعب والحكم، وتدعو الى «نقاش مباشر» مع الشعب.
هذه الأزمة «الحزبية» تشير إلى أن طبيعة النظام نفسه على المحك. و»لا تقوم قائمة لديموقراطية تمثيلية من غير أحزاب. لذا، يجب الذود عنها. فإذا اشتد ضعفها (الأحزاب)، لن يطول الأمر قبل الانزلاق إلى سلطان شخصي»، يقول جيرار غرونبيرغ، مدير بحوث «المركز الوطني للبحوث العلمية» في «سيانس بو». فالأحزاب تمسك بمصير الديموقراطية، وهي «أسوأ الأنظمة إذا استثنيت تلك التي اختبرت في الماضي»، وفق عبارة وينستون تشرشل الذائعة الصيت. ولكن الموقف السلبي من الأحزاب ليس وليد اليوم، ولطالما افتقرت الى الشعبية. ونبه دارس الاجتماعيات الإيطالي الألماني الأصل، روبرت ميشلز، الى ميل الأحزاب الى مصادرة السلطة، وحذّر من نزعات الديموقراطيات الى الأوليغارشية. ولطالما نظر الناس بعين الريبة الى دور الأحزاب. فهي أجسام وسيطة بين الناخبين والحكام، تقول لورُنس هاغل، استاذة في سيانس بو. ويخشى الناخبون ان تسيء الأحزاب تمثيل آرائها في الحكم. و»الرابطة التمثيلية شائكة ولطالما شابتها مشكلات. ويرى المُمَثلون على الدوام أن ممثليهم يسيئون الى الأمانة»، يقول جيرار غرونبيرغ. ولكن، على رغم الظن في الأحزاب السياسية، لم تنفك الديموقراطية يوماً عنها. فهي، أي الأحزاب، أبصرت النور حين ولادة الاقتراع العام الذي ألزم السياسيين إخراج السياسة من الدائرة الصغيرة للناخبين الأثرياء.
و»الأحزاب هي من بنات الثورة الصناعية. ومجتمعات اليوم ما بعد صناعية»، يوجز بييرو إيغناتسي، استاذ في جامعة بولونيا، المسألة. ولم يسع الأحزاب التكيف مع عدد من العوامل منها «تذرر المجتمعات الغربية وغلبة الفردية عليها والقطيعة مع الأواصر التقليدية» التي كانت تطوي الأفراد تحت راية الحرف أو الديانة أو الطبقات الاجتماعية. والأحزاب تمثل الجماعة، وهذه تذررت وتناثرت. والنموذج البائت أو القديم «البيت، والعائلة و (نقل) إرث المهنة والعمل من الأب إلى الابن» كان يتطابق مع الأشكال السياسية المتناغمة مع مجموعات متجانسة اجتماعياً. ولم يبق من هذا الزمن الآفل، حين كان الحزب رحم الهوية والثقافة السياسية، غير صور متقادمة وباهتة الألوان. و»كان أعضاء حزب العمال (البريطاني) يستندون إلى مراجع مشتركة وذاكرة جامعة، ويرتادون المقاصف نفسها ويشتركون في طريقة كلام واحدة ودُرجة الثياب... وإلى الثمانينات، كان الإيطاليون في دور الشعب في توسكانا يحتسون كأساً وهم جالسون تحت صور بيرلينغوير وغرامشي (أعلام تارخية في الحزب الشيوعي الإيطالي)»، يقول مارك لازار، مدير مركز الأبحاث التاريخية في سيانس بو.
واليوم، تعيش المجتمعات الغربية في زمن الفردية والحراك السائل: الحراك الاجتماعي والعائلي... والانتخابي. و«تدعو المجتمعات ما بعد الصناعية كل امرىء الى اعلان ميزاته»، يقول بييرو إيغناتسي. وخلصت دراسة اعدتها مؤسسة جان - جوريس قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، الى أن أكثر من ثلثي الناخبين (في عيّنة الدراسة) عدلوا عن عزمهم على انتخاب مرشح من المرشحين قبل ستة اشهر من الانتخابات. وفي مجتمع الاتصالات تغلب كفة «أسلوب» المرشح على أفكاره، وتخسر الأحزاب قاعدتها الشعبية. فتنقطع (الأحزاب) عن المجتمع المتنوع والمتعدد وينسل من بين أيديها. ويشخّص بييرو إيغناتسي أزمة الأحزاب على أمثل وجه: «إذ تواجه خسارة ثقة الناخبين فيها، تنصرف الأحزاب عن قاعدتها (الشعبية) وتستند إلى الدولة وجهازها، وهي مصدر تمويل عام لها وخبرات الموظفين في المجتمعات المحلية». ويرى مارتيال فوكو، مدير «سيفيبوف» مركز الأبحاث السياسية في سيانس بو، أن دائرة «تجنيد» الأنصار الحزبيين ضاقت. ففي 1980، برزت الحاجة على وقع الأزمة الاقتصادية إلى الكفاءات. فاستمالت الأحزاب كبار الموظفين المستقبليين حين تخرجهم من كبرى الجامعات والمدارس». وليس في مقدور عامة الناشطين الحزبيين منافسة مثل هؤلاء الخبراء. فهيمن على مناصب الحزب خبراء في السياسة.
ومن العوامل التي ذكّت القطيعة بين الأحزاب التقليدية والناخبين: ابتعاد مراكز القرار وتناثرها وراء حدود الدولة - الأمة، وهذه إطار الأحزاب. فالسلطة السياسية صارت «منزوعة القومية» مع إرساء البنية الأوروبية وإنشاء مفوضية اوروبية مستقلة ورجحان كفة السلطات القضائية. والحركات اليتيمة التي أفلحت في السنوات الأخيرة في استمالة الناخبين هي تلك الشعبوية التي تقدم نفسها على أنها «ضد النظام». وحمل اليسار المتطرف راية التجديد الحزبي. ففي اليونان، دعا «سيريزا»، ائتلاف أحزاب اليسار، إلى نوع من تأميم السلطة ومعاداة سياسة التقشف الأوروبية. وفي إسبانيا، أبصر «بوديموس» النور من حركة «الاندينييه» («الساخطون»)، الحركة الاجتماعية القوية التي انتقدت الأنظمة السياسية. وترك قادة حركة «الساخطون» هامش حرية واستقلال للمنتسبين إليها. نقلا عن الحياة
* صحافي، عن «لوموند» الفرنسية (ملحق «كولتور إيه إيدييه»)، 20/2/2016، إعداد م. ن.