المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. نصر محمد عارف
د. نصر محمد عارف

هل تعرفون أسرار عظمة مصر عبر تاريخها؟

الإثنين 28/مارس/2016 - 10:51 ص

مصر هي مكان أكثر منها شعب وإنسان، هي مكان يصنع الإنسان، ويعيد صنعه مرات ليناسب عبقرية المكان، هي مكان يُمَصِّرُ الزمان، ويخضعه لتجليات سحره المتفجر في طاقات الإنسان مصر المصر (الإقليم) الوحيد في الأرض الذي لا يحتاج إلى تعريف، هي بؤرة الجاذبية الكونية التي كانت تهوى إليها قلوب وعقول النابغين والمتميزين من بني الإنسان، تطير إليها جوانحهم لتتحقق ذواتهم، وتنضج مواهبهم، ويشع نورهم على دنيا ذاك الزمان.

من قديم الزمان كان في مصر مغناطيس يجذب البشر، أفاضل الناس، العلماء والأدباء والفنانون والتجار والصناع، الجميع يأتي إليها، وقد لا يعرف لماذا جاء، ولكنه يأتي فيتمصر، ويكون من بناة هذا البلد العجيب، لم يبق شعب من شعوب الأرض إلا وامتزج وذاب جزء منه في المصريين، ولم يعرف التاريخ هجرات معاكسة إلا حالة واحدة تمت بأمر إلهي حين خرج بنو إسرائيل مع سيدنا موسى، ولكنهم عادوا بعد حين.

من الصين جاءها الإيغور وحكموها وكان منهم قنصوه الغوري، ومن قلب إفريقيا كان كافور الإخشيدي، وقبلهم اليونان والرومان والفرس ومن بعدهم الكرد والشركس والأتراكة إلخ، الجميع جاء إلى مصر ولم يغادر منهم الإ الغزاة، أما البشر العاديون فذابوا في مياه النيل، وتحولوا إلى طين هذا البلد الذي منه كان البناء والمعمار والنبات والإنسان.

عبقرية مصر أنها تستقطب العقول، تجذب أصحاب الفنون والصنائع، وتزدهر حضارتها بصورة دائمة بهذا الوافد الجديد؛ الذي يأتي ومعه الإبداع والابتكار، فيسهم في البناء وتتحقق العظمة والازدهار، وتتوالي الأجيال، ويتوالي معها القادمون الجدد الذين يجددون البناء، ويرتقون به، ويضيفون ويطورون.

لم تكن مصر في يوم من الأيام موطنا مغلقا لشعب بالمعني الأممي العرقي للشعب، فالمصريون ليسوا مثل الفرنسيين أو الألمان أو الفرس، أي أنهم ليسوا قبيلة أو مجموعة قبائل تمددت بالتزايد الكمي عبر الزمن، المصريون روح صنعتها عبقرية المكان تتمدد بالإضافات الكيفية وليست الكمية من خلال استعاب بشر آخرين؛ جاءوا من شعوب أخرى، وحضارات أخرى وتمصروا وهذا هو سر عظمة مصر وازدهار حضارتها.

كان المكان هو صانع الحضارة ومصدر الإلهام، وكان الإنسان ينجذب دوما إلى هذا المكان، وما إن يدخله حتى يستوعبه المكان ويعيد تشكيله، حدث هذا مع الإمام الشافعي ومع ابن خلدون، وحدث كذلك مع الأفغاني، وسليم وبشارة تقلا، وفرح أنطون، والشيخ مصطفى صبري، والشيخ الخضر حسين، وأيضا مع نجيب الريحاني وبيرم التونسي وفؤاد حداد وإستيفان روستي، وما زال يحدث مع سليم سحاب ومحمد خان ونصير شمة هذه الفراشات المنجذبة نحو النور هي التي أوقدت النار، ونشرت النور، هي التي أسهمت في صناعة مصر، وحضارة مصر، وعظمة مصر.

لم تكن مصر حكراً على الشعب الموجود على أرضها، بل كان هذا الشعب فاتحا ذراعى ينادي هل من قادم فأحتضنه؟ هل من لاجئ فأ أويه؟ هل من عبقري ضاقت به السبل فأتعهد بذور عقله بالسقيا حتى تثمر، هكذا كانت مصر، وهكذا ظلت مصر تزدهر وترتقي، فكان علمها وأزهرها وعلومها وفنونها ميدانا تتبارى فيه عقول العالم المحيط بها في ذلك الوقت، حتى رأينا أن أعظم مؤرخيها عبد الرحمن الجبرتي من الحبشة، وأبوه قبله الشيخ حسن الجبرتي أحد علماء الأزهر، وكان أعظم شعراء العامية المصرية بيرم من تونس، ومن جاء بعده فؤاد حداد من لبنان، وكان من صنع الصحافة من لبنان، وكذلك من أنشأ أقدم دار نشر عربية؛ دار المعارف من لبنان وكان وكان وكان فماذا حدث؟ وكيف انقلب الحال؟ ووصلنا إلى خبر كان؟ ظلت مصر محافظة على سر تقدمها وازدهارها طوال تاريخها إلى أن زار السادات القدس، وقاطعه العرب فرفع شعار «مصر للمصريين»، ولأول مرة تنكرت مصر للدوائر الثلاث التي أدركها وسار عليها جمال عبدالناصر، العرب والأفارقة والمسلمون، وبدأت مصر تغلق أبوابها وتكتفي بما لديها، فأُغلقت الجامعات المصرية أمام الطلاب من العوالم الثلاثة: العربي والإفريقي والإسلامي، ووضعت أمامهم العراقيل، وأصبحت زيارة مصر تخضع لتأشيرات معقدة، وتحقيقات أمنية تشك في كل قادم، وأصبح دخول مصر يحتاج إلى موافقات من قمة السلطة، فانطفأ النور الجاذب لفراشات العبقرية، وخمدت النار المتوهجة التي يهتدي بها ساري الليل في دياجير الظلام العربي والإفريقي الدامس، وتحولت مصر من أم الدنيا، إلى واحدة من بنات الدنيا، وانهدم بيت العرب، ولم يبق فيه إلا غرفة واحدة؛ بالكاد تكفي المصريين وبدا الركود ثم الإنحطاط، ثم الانهيار الذي نراه الآن.

سر عظمة مصر وازدهارها أيها السادةة أنها كانت دائما في تلاقح مستمر مع أفضل ما تبدعه شعوب العالم، كانت في حالة أخذ وعطاء مع أفضل عقول العالم المحيط بها القريب والبعيد، كانت تجدد شبابها بدماء جديدة مدى الزمان، كانت هي المنصة التي يظهر عليها المبدعون، والمسرح الذي يشهد العرض الأول لكل قصص النجاحة وعندما تخلينا طواعية عن سر النجاح، إحتضنا الفشل والتدهور والركود، وتحولنا إلى مخلوقات غريبة تقف أمام جزارة السبكي.

وهنا نستطيع أن نقول بكل ثقة إن مصر لن تنهض بهذا الشعب منفردا، لأنه سوف يقدم ما يعرفه وما تعود عليه، ومن ثم سيكون المنتج هو إعادة تدوير للفشل والبؤس المتوارث ة قل لي بربك كيف سيعرف العامل مصري أن هناك فنوناً جديدة لصناعته، وسلوكيات جديدة ومختلفة لمهنته؛ مالم يخالط آخرين ويستفيد منهم؟، وكيف سيعرف الطبيب أنه ملاك رحمة؛ وليس تاجراً جشعاً وعمدة وشيخ بلد يسب المريض ويلعن أجداده ويفرغ كل عقد النقص فيه؛ ما لم يتعلم أن ممارسة المهنة لها أخلاقيات أخرى؟ وكيف وكيف وكيف؟

لقد عرف الجميع معايير جديدة وأخلاقيات مختلفة لممارسة الحرف كالنجارة والسباكة، وفي المطاعم والمخابز مع الإخوة السوريين الذي حلوا في بلدهم مصر بعد أن دخلت سوريا في حرب أهلية، ومن المؤكد أن المصريين سيعرفون قيما أخرى لو تخيلنا أن هناك أفواجا من الممرضات جاءت من الفلبين، أو أن عمالة فنية جاءت من الهند.إلخ وهنا لا يصلح التحجج بفرص العمل، وتوفير مصدر رزق، ودخل للمصريين، لأن الدول لا تبني بمنطق الجمعيات الخيرية، والتوظيف من أجل الإطعام، وتوفير مصدر رزق؛ فلهذا وسائل أخرى، ويكفي أن نتذكر جميعا منظر عمال النظافة في شوارع مصر الذين تم توظيفهم لأغراض إجتماعية، أو محسوبية وفساد، منظر يعاكس كل قيم النظافة، لأنهم يتسولون في الطريق ولا ينظفون، منظرهم غاية في البؤس، وغير آدمي، كان من الممكن تحقيق هدف التنظيف بعمالة مدربة، وتكريم هؤلاء بوسائل أكثر إنسانية بدلا من هذه المتوالية من الفشل والبؤس. لن تعود مصر إلى عظمتها وازدهارها إلا إذا أدركت سر عبقريتها، ومصدر تقدمها ورقيها، وعادت إليه سياسة وثقافة ومجتمعا. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟