في أيام الشباب، كان شاغل النقاشات السياسية شعار «تركيا لن تصبح إيران»، أي الحؤول دون ثورة إسلامية في تركيا شأن الثورة الإيرانية، والتمسك بالعلمانية والديموقراطية. لكن هذا الشعار وما ترتب عليه من شعارات وسياسات كان من أبرز العوائق التي عرقلت تقدم الديموقراطية ورسوخ مفهوم معتدل للعلمانية في هذا البلد. وسوّغت ذريعة الدفاع عن العلمانية ومحاربة التيار الإسلامي، فرض قوانين كثيرة تحدّ من الحرية وتقيّد الديموقراطية، وتحوّل العلمانية إلى عصا غليظة. لكن تلك الضغوط والقوانين لم يسعها تقييد قوة التيار الإسلامي، بل نفخت فيها، واستفاد الإسلاميون من الظهور بصورة المظلوم والمضطهد.
واليوم، أقول «تركيا يجب أن تكون مثل إيران». ففي مطلع هذا القرن، وصل إلى الحكم في إيران رئيس بلدية طهران، محمود أحمدي نجاد، وبلغ رئيس بلدية إسطنبول، رجب طيب أردوغان، سدة الحكم في المرحلة نفسها. وفي بداية ولاية كل منهما، برزت بينهما أوجه شبه في التوجهات السياسية الداخلية، ومنها التواضع وتمثيل المظلومية، وغيرها. ثم بدأ أحمدي نجاد يتوجه إلى شعبه قائلاً: «الغرب لا يريد لنا أن نتطوّر وأن نبني الجسور والمطارات». وحين دعا إلى «محو إسرائيل من الخريطة»، نجح في استعداء معظم دول العالم من جهة، وجمع الإيرانيين على كراهية الغرب، من جهة أخرى. وتستّر بواسطة هذه السياسات على البرنامج النووي الإيراني. ولكن، بعد سنوات قليلة، وجدت إيران ذاتها تحت حصار اقتصادي خانق، وضغط دولي ضخم، وبدأ الشعب يتململ وينزعج من هذه السياسات. وكادت إيران أن تدخل في دوّامة الثورات مجدداً حين انتخب أحمدي نجاد لولاية ثانية، وبرزت الثورة الخضراء. فقُرع ناقوس الخطر الداخلي في إيران، وتدخّلت الدولة، وسعت إلى اتفاق نووي، ثم امتصّت غضب الشعب، وسمحت ببلوغ الرئاسة لسياسيّ محافظ أكثر اعتدالاً من نجاد هو حسن روحاني. فاستبدلت الدولة الإيرانية نجاد وسياساته القمعية والعدائية، بواحد من رجالات النظام بشوش الوجه وسياساته أكثر انفتاحاً من سياسات سلفه. وأوكلت إلى جواد ظريف أن يمثلها في الخارج من أجل إصلاح ما خرّبه الرئيس السابق، فيقدّم وجهاً مختلفاً لها من غير أن تتغيّر. وعلى خلاف نجاد، يدعو روحاني الذي يعقد الصفقات مع الغرب إلى تشييد الجسور والمصانع الإيرانية.
واليوم، تمس حاجة تركيا إلى مثل هذا الانعطاف الإيراني الذي طوى سياسة أحمدي نجاد. وحين بلغ السلطة، ظهر أردوغان على أنه إسلامي معتدل أو محافظ، وأقرّ إصلاحات كثيرة شرّعت أبواب تركيا على العالم والجوار، ورفعها إلى مصاف دول العالم المحترمة. لكنه، مع الوقت بدّل سياساته بسياسات إسلامية ودفع بتركيا إلى نار الربيع العربي ومستنقع الشرق الأوسط، كما فعل أحمدي نجاد كأنه يمشي على خطاه. وحمل أردوغان ناخبيه على تطرّف غير مسبوق، وأخذ على عاتقه معاداة الغرب والتزم خطاب المؤامرات الخارجية التي حوّلها إلى حطب لوقود السياسة الداخلية، وجمع الخط الإسلامي إلى التيار القومي المتشدّد، فصارت تركيا على حافة حرب أهلية. وعلى خلاف حسبان كثر، تركيا اليوم في وضع حرج وخطير. لذا، أقول أنها تحتاج إلى مرحلة انتقالية مرنة مثل تلك التي شهدتها إيران، وإلى تدخّل «عقل الدولة» لرعاية الانتقال.
أثلج قلوب الأتراك خبر اعتقال رجل الأعمال التركي من أصل إيراني، رضا ضراب، في الولايات المتحدة بتهمة التحايل على العقوبات الأميركية على إيران ومساعدة شخصيات ومؤسسات تركية. فأتراك كثر يرغبون في العدالة، ولا يريدون لهذا الرجل الذي عاث فساداً أن يفلت بجريمته بعد وقف الحكومة التركية ملاحقته أمام القضاء. ولم يفكّر كلّ من فرح في سبل إحقاق العدالة من غير انتقام أو تشفّ، وكان غاضباً، لإفلات هذا الرجل من العقاب، على الرئيس أردوغان. فأردوغان أودى بالشارع التركي إلى استقطاب غير مسبوق، وكان بالغ القسوة مع كل مَن لم يوالِه ويذعن له ولسياساته، وصنع موجة من الغضب العارم عليه في أوساط مَن لم يصوّت له، أي نصف الشعب التركي. في المقابل عمّ شعور بـ «أن الغرب يريد الانتقام من أردوغان والتخلص منه، وكل من يسرّه ذلك فهو عدو لنا وللدولة». فتعاظم الاستقطاب الشعبي والشقاق بين الأتراك.
وتمس الحاجة إلى استراتيجية هادئة تسعى إلى حلّ هذه المشكلة داخلياً من غير حمل بعض الأتراك على الاستنجاد بالغرب أو الخارج. فحلّ هذه المشكلة ينفّس الاحتقان الداخلي. وليس محور المسألة الرغبة في التخلص من أردوغان - وهو لم يترك للأتراك دولة متماسكة موحّدة ليسعوا إلى إنقاذها - بل سبل انتشال تركيا من الاستقطاب وشدّ لحمة مجتمعها بهدوء ومن دون غضب أو رغبة في الانتقام. وفي الانتخابات الماضية، دعا كثرٌ ناخبي حزب «العدالة والتنمية» إلى الاختيار بين أردوغان وإنقاذ تركيا، لكنهم اختاروه مع الأسف. واليوم، تجبه المعارضة الاختبار ذاته: تركيا أم أردوغان؟ هل الأولوية للتخلّص من الأخير بأي شكل، أم لسياسات أكثر اعتدالاً تنقذ تركيا من الاستقطاب ومن مستنقع حروب الشرق الأوسط؟ هل تفلح تركيا في الانتقال المرن بعيداً من أتون الحرب الأهلية، مثل إيران، أم تتحوّل إلى عراق جديد؟ نقلا عن الحياة
* كاتب كردي إسلامي، عن موقع «ديكان» التركي، 25/3/2016، إعداد يوسف الشريف