عن أبناء المهاجرين في فرنسا والتطرف والأصولية و «داعش»
يتحدر شطر راجح من الإرهابيين الفرنسيين من جيل المهاجرين الثاني، وتطرفهم جاء في معزل عن مسار ديني طويل الأمد، وهذا شأن أبا عود وعبدالسلام. وعدد من الباحثين من أمثال جان – بيار فيليو وفرنسوا بورغا يعزو التطرف إلى «غضب المسلمين» أو مشاعر شعبية معادية للإمبريالية. لكنني لا أوافقهما الرؤية العالمثالثية إلى التطرف. فأيٌ من الجهاديين لم يكن يوماً مناضلاً، والجهاديون كلهم لا ينتمون إلى متن طائفتهم المسلمة (أي إلى التيار العريض والغالب) بل إلى هامشها أو أطرافها. ولم نرَ يوماً أن ثمة افتتاناً بـ «داعش» عند المسلمين بفرنسا. ولم تنظم تظاهرات مؤيدة للتنظيم في أوروبا ولم ترفع شاراته في الضواحي الفرنسية. ولا يعتبر فرنسيو فرنسا أن «داعش» ممثلهم، بل يرون أنه غريب ودخيل على خلاف ما كانت عليه الحال في التعاطف مع الفلسطينيين أو صدام حسين بين 1991 و2003. فأهالي المتطرفين، وهم مسلمون، لا يفهمون ما حل بأولادهم من تطرف. ومن أين للمتحولين إلى الإسلام ومعتنقيه الجدد (25 في المئة منهم يلتحقون بـ «داعش») تمثيل «غضب المسلمين»؟ ولا يترتب التطرف «الجهادي» أو «الداعشي» على التطرف الديني أو «السلفية».
وثمة أوجه شبه كبيرة بين تطرف إرهابيي اليوم وما قاد إلى مجزرة مدرسة كولومباين الأميركية في 1999. فالإرهابيون يسلكون طريقة غربية في التطرف ولا يغردون خارج سرب ثقافة جمالية العنف السائدة لدى جيل الشباب. وهذا ما أدركه «داعش» الذي يحاكي عنف لعبة الفيديو «كول أوف ديوتي» (نداء الواجب) لاستمالة شباب متطرف. فالتنظيم لم يكن وراء تطرفهم، لكنه يغتنم نازعهم هذا ويستغله.
ومنذ الستينات، مع حركات يسارية مثل «آكسيون ديريكت» و «الألوية الحمر» والثورة الثقافية الصينية، برزت ثورة جيلية. ولم أقل يوماً إن «داعش» هو النظير الشرق الأوسطي لـ «بادر ماينهوف» (الألوية الحمر) الألمانية. فهو ظاهرة شرق أوسطية وثيقة الصلة بالجغرافيا السياسية في هذه المنطقة وتندرج في سياق أيديولوجية «الجهاد» المعولم «القاعدية». وليس «داعش» وراء تطرف الشباب الأوروبي والذي بدأ في 1995 مع خالد قلقال وهجمات سان ميشال حين بدأت «المجموعة الإسلامية المسلحة» تجنيد أبناء الجيل الثاني من أبناء المهاجرين العرب والأفارقة. والشبه بين سيرة قلقال وسيرة عبدالسلام كبير: كلاهما من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين وكانا، إلى حد ما، مندمجين في المجتمع الفرنسي، ومرّا في مرحلة من الجنوح، ثم ذات صباح انزلقا إلى التطرف، ولقي كل منهما حتفه بعد أشهر (من التطرف). فسلسلة الهجمات الكبيرة على المدنيين في أوروبا بدأت قبل 2005، وهو العام الذي يرى جيل كيبيل («الحياة»، ملحق صحافة العالم في 20/1/2015 و30/3/2016) أنه منعطف «الجهاد الفرنسي» في أوساط الجيل الثالث من المهاجرين. لكن «القاعدة» شنّ هجوماً دموياً على محطة أتوشا في مدريد عام 2004، وهجمات لندن عام 2005، وقبلها هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. فالجيل الثاني من الإرهابيين بدأ يظهر في 1995 ونيرانه تعسّ إلى اليوم، وتشتعل من حين إلى آخر من شبكة بيغال إلى شبكة عبدالسلام. وبنية هذا الجيل الثقافية مستقرة منذ عشرين عاماً: 70 في المئة هم من أبناء الجيل الثاني، و25 في المئة من المتحولين إلى الإسلام و5 في المئة من الأشخاص الذين يغردون خارج سرب النموذج هذا. وهم شباب يسعى إلى رفع لواء قضية، وينقّل تطرفه من «جهاد» إلى آخر: من البوسنة إلى أفغانستان والشيشان. ومنذ التسعينات، رصد «القاعدة» هذه الحركة، وضواها فيه. وليس الانتقال من هجوم الأخوين كواشي على «شارلي إيبدو» إلى هجوم أميدي كوليبالي على المتجر اليهودي، مرآة تباين في الإستراتيجية بين «القاعدة» و «داعش». فـ «القاعدة» درب منفذي هجوم «شارلي إيبدو»، بينما كوليبالي نسب هجومه إلى التنظيم الذي يتصدر عناوين الصحف، أي «داعش».
وفي سياق تناولي المتطرفين الجهاديين، وصفتهم بالعدميين، فهم لا ينتظرون شيئاً من المستقبل، كأنهم يرفعون لواء «نو فيوتشر» (بلا مستقبل)، وموتهم هو بمثابة فرار أو انسحاب من الواقع. وهم على خلاف من يؤيد اليوتوبيا، ولسان حال هؤلاء «لا مفر من كسر البيض لدى إعداد العجة»، وفق حركة البروليتارية اليسارية حين دعت إلى مجتمعٍ، الناس فيه سواسية من غير طبقات. ولا يدور كلام الشباب المتطرف اليوم عما ستكون عليه الحياة في مجتمع إسلامي. فـ «جهادية الشباب الأوروبي» هي شأن المجازر الجماعية في أميركا، واحد من أعراض اضطراب وقلق عميقين لم ندرك أسبابهما بعد. والقضاء على «داعش» لا يقضي على التطرف. فهذا التنظيم يقدم للشاب أفضل ما في المتناول في مجال الثورة الراديكالية: السردية والأضواء الإعلامية والمغامرة. والمتحدرون من أصول مهاجرة، وهم فقدوا الصلة بثقافة الآباء، ينجزون القطيعة مع جيل الأهل، إذ ينضمون إلى «داعش»، ويحسبون أنه يحمل «الحقيقة» الدينية التي أخفق الأهل في نقلها إليهم.
وليس حسبان أن الشباب المتطرف يصبح أصولياً لدى تطرّفه، في محله. فهؤلاء الشباب لا يقيمون الفرائض الدينية، ولا يتناولون ما يسمى الوجبات «الحلال». وعلى سبيل المثل، لم يطلب أبا عود من قريبته «وجبة من اللحم الحلال»، بل وجبة ماكدونالد، شأن عامة الفرنسيين. ويتوجه «داعش» إلى النساء بخطاب مزدوج. فمن جهة، يوكل إلى بعضهن تربية «أشبال» الخلافة والانتقال إلى سورية مع أزواجهن، ومن جهة أخرى، يقصر دور بعضهن الآخر على تلبية رغبات «الشهداء» المستقبليين الجنسية ويلزمهن تناول حبوب منع الحمل لتفاديه لدى قضاء وطر الزوج قبل «استشهاده» والانتقال إلى الزوج المقبل. و «الجهاديون» الشباب مؤمنون، لكنهم يعفون أنفسهم من الفرائض. فهم يرون أن قتل النفس هو التضحية الأكبر. ووصف المتطرفين الجهاديين بالأصوليين، يجافي الصواب. وليس الشباب المتطرف «الجهادي» امتداداً للمجتمع الأصولي. ودار الكلام على أن مولنبيك هو حي سلفي يلد «الجهاديين»، لكن إلقاء نظرة عن كثب، يدحض هذا الزعم. فمتطرفو مولنبيك لم يكونوا إحدى حلقات السلفيين، ولم توفر لهم المساجد حماية، ولم يدعمهم الأكبر سناً.
ثمة خلط بين مشكلتين: الإرهاب، وهو الطعن في المجتمع؛ والخروج عن القيم المهيمنة. واليوم، لا تدور رحى حرب ثقافات، بل حرب قيم. فالنزاع ليس بين الأنوار والإسلام، بل بين قيم تحدرت من ثورة الستينات (النسوية، وحقوق المثليين والمتحولين... والحرية الجنسية والإجهاض)، وقيم دينية محافظة. والعلمانية اليوم مؤدلجة، تدعو إلى توحيد القيم، وهذا ميل شمولي.
وفي الضواحي الفرنسية، برزت أشكال اجتماع متقوقع ثقافياً ومغلق: وهو حيز ذكوري يحط من مكانة النساء، وسوق سلع مستوردة «من البلد (الأم)»، ورجال يرتدون الجلباب ونساء محجبات... لكن حيّز التقوقع هذا لا يحتضن مجتمعاً دينياً مضاداً، كما يتخيّل كثر. فالسلفيون يعيشون في دائرة مغلقة. وثمة أحياء تتمتع ببنى موازية، لكنها ليست بنى دينية بل اقتصاد مواز تسيطر عليه عصابات إجرامية. وساهمت سياسة التنظيم المديني في غلبة أعراق على السكن الشعبي. ورؤساء البلديات يرفعون لواء العلمانية، لكنهم في الحياة اليومية ينتهجون سياسة زبائنية. والكلام على «أقاليم مفقودة أو ضائعة» يفتقر إلى الدقة. فالدولة لم تطرد من هذه الأقاليم بل هي هجرتها طوعاً ونقلت مراكز الشرطة منها، وألغت مراكز المساعدة الاجتماعية، ونقلت مقارّ البلديات إلى مناطق أخرى. وأدعو إلى العودة إلى إدارة محلية تصيخ السمع إلى الأهالي المتبايني النزعات والأهواء والمشارب. نقلا عن الحياة
* باحث سياسي، خبير في شؤون الحركات الإسلامية، أستاذ في المعهد الجامعي الأوروبي بفلورنسا (إيطاليا)، عن «لوبس» الفرنسية، 7/4/2016، إعداد منال نحاس