صبيحة يوم هادئ في شباط (فبراير) المنصرم، في مقهى يقابل القناة في جوار طريق كينغسلاند» اللندنية، صافح ماثيو غرين المدير كما لو أنهما من قدامى الأصدقاء. وعلت أصوات حماستهما على ضجيج الزبائن الخافت، فمنهم من يدردش، وكثر منهم ينصرفون إلى شاشات أجهزة اللابتوب (الكومبيوتر المحمول). ويقع مقهى «براود إيست»، وهو واحد من خمسة مقاه مماثلة أو متشابهة، على بعد 5 دقائق من حي دالستون، ويعيد إلى الأذهان كلام راج في العقد الماضي: «مقاه كثيرة تفتح الأبواب في الجوار... لن يعود الحي إلى سابق عهده». ويرى غرين، وهو مؤرخ أطوار المقهى وحائز شهادة دكتوراه من جامعة أوكسفورد ويجول على مقاهي لندن جولة تأريخية، أن المقاهي مثل «براود إيست» هي محرك التفاعل الاجتماعي في الحي، وليست فحسب عاملاً من عوامل ارتفاع الأسعار (العقارات) ولفظ السكان غير الميسورين. وللمرء أن يتخيل غرين إذ يدخل مقهى لندنياً في نهاية القرن السابع عشر، ويلقي التحية الرائجة حينها:» ما الأخبار اليوم؟». واليوم التحية الرائجة في المقاهي هي «ما باسوورد (كلمة الدخول) الواي فاي؟».
وصارت المقاهي العلامة على كل ما يصلي الكراهية في التغيير المديني وارتفاع الأسعار العقارية ونزوح السكان الأفقر- ويقال أن الخطوة الأولى إلى مثل هذه التغييرات هي وصول المقاهي (إلى حي ما) ثم المهنيين الشباب، ثم الأبراج الفاخرة وسلسلة الشركات التي تطرد السكان الأصليين. ولكن هل هذه التهم في محلها؟ تغيرت وظيفة المقهى في لندن مع مرور الوقت. ومرت ثقافة المقهى في ثلاث مراحل في المملكة المتحدة في الأعوام الـ350 الماضية. المرحلة الأولى بدأت حين افتتح رجل يوناني، باسكا روزيه، أول مقهى في 1652، وكان لصيقاً بجدار كنيسة سانت مايكل على مقربة من كورن هيل في لندن. وقدم قهوة سميكة ولزجة تشبه الطين يجوز فيها المثل التركي القائل: «سوداء مثل الجحيم، قوية مثل الموت، وعذبة مثل الحب». وفي خمسة عقود، راجت المقاهي وصارت بديلاً شعبياً عن الحانات والنوادي، وارتقت إلى ما سمي «مقهى السياسيين». وأوجه الشبه كبيرة بين رواد المقاهي في ذاك الزمن (وهم النخب والكفاءات العلمية من أمثال السير اسحق نيوتون وسامويل بيبس)، وبين زبائن المقاهي اليوم، وشطر راجح منهم عمال مياومين أو «بالقطعة» (أو عمال من غير عقود ثابتة) ومن طبقة العمال المبدعين وأصحاب الابتكارات. ولكن قدامى المقاهي كانوا يعبرون عن آرائهم بصوت عال على مسمع من رفاق جلستهم (وجلهم من الذكور) عوض أن يسروا بها إلى «تويتر» أو خانة تعليقات الصحف. ومع المقهى ولدت فكرة أن من حق الناس امتلاك رأي- ولو لم يؤخذ به. وثمة إجماع على أن المقاهي الإنكليزية كانت متنفس الاستياء السياسي حيث يسع الناس الإعلان عن غضبهم وغليانهم وتذمرهم. وهي ساهمت في الاستقرار السياسي النسبي في إنكترا القرن الثامن عشر، يقول غرين. وبين مرحلة المقاهي الأولى وبين الثانية مر سيل من الوقت وتناسلت العقود: ففي الخمسينات ومطلع الستينات من القرن العشرين، صارت مقاه مثل «لوماكابر» في سوهو مركز الثقافة المضادة الشبابية حيث يحتسي الرواد الشباب كابوتشينو «غاغيا» المغطاة ببودرة الشوكولاتا. ورواد هذه المقاهي «المزمنون» أو الثابتون انتخبوها مكان تغيير الرؤية إلى الموضة والجندر والسياسة، ومنهم جيمي كليف (مغني الريغا والموسيقار) وتومي ستيل (نجم الروك أند رول البريطاني). وكان زبائن مقاهي سوهو كوزموبوليتيين، مدراء تسويق وموسيقيون وشعراء وصحافيون وممثلون ومهاجرون ومراهقون يدهنون شعرهم بالبريلكريم أو بوهيميين يدخنون سجائر غولواز... وكانت سنهم لا تسمح بمعاقرة الكحول في المقاصف، ولم ينجذبوا إلى نوادي الشباب أو نوادي «لايونز كورنر» (زاوية الأسود) التي يغلب عليها البورجوازيون، ورأوا أن مقاهي سوهو هي فسحة تسمح لهم بصوغ هويات خاصة بهم بعيداً من الأعين. ففي المقاهي هذه، في مقدورهم المغازلة والغناء والتدخين ومشاهدة أكثر الحفلات الموسيقية حداثة وارتشاف مد لا ينضب من القهوة والكوكا كولا ونفث السجائر.
والموجة الثالثة في عصر المقاهي تعود إلى العقد المنصرم، مع انتشار المقاهي المتخصصة، وتعاظم عدد منافسات الندل ومعدي القهوة، وبروز مجلات قهوة مثل «كافيين»، وتنظيم مهرجان لندن للقهوة. ويتوقع موقع «اليغرا وورلد كافي بورتل» نمو قطاع المقاهي 100 في المئة من اليوم إلى 2020. وعلى رغم أن النسخة المودرن من المقاهي أقل صخباً من النماذج السالفة في مقاهي مثل «لو مكابر» في سوهو- حيث درج أصحاب المقهى على الجلوس على توابيت سوداء اللون وإطفاء السجائر ورمادها في صحون تشبه الجماجم- تتشابه الثقافة الرائجة في هذه المقاهي. ولطالما كان المقهى علامة التميز... ومؤشر إلى الــgentrification (نازع في التمدين يساهم في ارتفاع الأسعار ولفظ السكان غير الميسورين). فعلى سبيل المثل، في خمسينات القرن السابع عشر، كانت المقاهي مؤشراً إلى الازدهار الاقتصادي حين ترتفع معدلات التجارة. وتعاونت مدونة المقاول سام فلوي مع فريق من الباحثين في إعداد خريطة انتشار المقاهي والمناطق اللندنية المزدهرة وتلك التي يتوقع ازدهارها. فنصحت المدونة شراة المنازل إذا رغبوا في عوائد كبيرة على استثماراتهم أن يختاروا منزلاً يقع «في منطقة تنتشر فيها المقاهي، وتقل فيها متاجر الدجاج (الشعبية)...». ويبدو أن كثيرين يرون أن مشكلة المقاهي ليست تقديمها الكافيين بل تسريعها وتيرة التغير المديني في الأحياء. وعلى رغم أن الأسطورة تقول إن المقاهي هي مكان المساواة بامتياز لأنها مشرعة أمام كل من يملك بنساً، إلا أن العامل البسيط كان يعمل يومياً لقاء أقل من هذا المبلغ.
والمقاهي اليوم هي أمكنة عمل وجد. فهي وثيقة الصلة ببروز الاقتصاد الرقمي وتعاظم أعداد العمال المياومين والمقاولين الرقميين الذين لا يملكون المكاتب وتفوق إمكاناتهم قيمة استئجارها. وأدت (المقاهي) دوراً راجحاً في جلاء دور هؤلاء وإخراج صورته. والمارون قد يستهجنون انصراف رواد المقاهي الحديثة إلى أجهزتهم الإلكترونية عوض تبادل الكلام مع مجاوريهم والناس الجالسين مقابلهم. ولكن المنصرف إلى شاشة اللابتوب يتكلم مع غيره عبر أثير الإنترنت.
* صحافية، عن «ذي غارديان» البريطانية، 8/4/2016، إعداد منال نحاس