المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

غياب العدالة: تأثير ارتفاع الدولار على معدلات الفقر في مصر

الثلاثاء 10/مايو/2016 - 11:55 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوار

تترك تغيرات أسعار الصرف في نظام تجاري مفتوح آثارا مباشرة وغير مباشرة على كل متغيرات الاقتصاد الكلي والجزئي، وعلى المستويين القومي والفردي. وبالنسبة لحالة مصر التي تعتمد على استيراد النسبة الأعظم من احتياجاتها من الخارج، فإن هذه الآثار تزداد حدة خصوصا في القطاعات التي تتزايد فيها نسبة الاعتماد على الخارج، سواء فيما يتعلق بمستلزمات الإنتاج أو سلع الاستهلاك النهائي. ومن المفارقات التي قد لا نلحظها بسهولة الزيادة المستمرة للاعتماد على الخارج في توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي، بينما ترفع الحكومات المتعاقبة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي شعار "تحقيق الأمن الغذائي"!

وبسبب خروج أسعار الصرف عن نطاق السيطرة في الأشهر الأخيرة وقصور السياسات المالية والنقدية عن وضع الإطار الملائم للتعامل مع أزمة أسعار الصرف، فإن الأثر المباشر الذي يشعر به الأفراد في السوق يتمثل في ارتفاع أسعار سلع الاستهلاك المحلي (مثل الشاي والسكر والزيت والدقيق والأقلام والكراسات) ومستلزمات الإنتاج مثل الشتلات والبذور والمبيدات والأسمدة (الفلاحون)  والأعلاف والأمصال (مربي الدواجن ومزارع الأسماك) إلى الأخشاب (صناع الأثاث والنجارون) إلى بقية مستلزمات الإنتاج والمواد الوسيطة المستخدمة في قطاعات صناعات مثل منتجات الألبان والمنظفات والبلاستيك والصناعات المعدنية وغيرها. ببساطة يضرب الدولار بقوة في أركان كل بيت. وبسبب عجز السياسات النقدية والمالية فإن أسواق التجزئة والجملة تتعرض يوميا لهزات عنيفة بسبب عدم استقرار أسعار الصرف. 

وقد وصل الأمر إلى حد أن بعض الصناعات العريقة مثل صناعات الغزل والنسيج والملابس الجاهزة تعمل بأقل من نصف طاقتها أو تكاد تتوقف عن العمل بسبب التخبط في سياسات السحب والإيداع النقدي وتغيرات أسعار الصرف وصعوبات الاستيراد بسبب عدم استقرار سياسات التحويلات المصرفية وارتفاع أسعار الدولار. وتحتاج هذه الصناعات إلى الكثير من مستلزمات الإنتاج المستوردة من الخارج بما في ذلك أنواع من الغزول والخيوط وكيماويات الغسيل والأصباغ والأزرار، ناهيك عن المعدات والآلات. ولكل هذه الأسباب فإن هناك حاجة ملحة لوضع وتنفيذ سياسات تحد من تأثير ارتفاع الدولار على المستهلكين والمنتجين وتعيد إلى الأفراد حالة من الطمأنينة المفقودة بسبب التغير اليومي للأسعار في الأسواق، خصوصا في أسواق السلع الأساسية.

وفي هذا المقال لن أتناول السياسة النقدية ولا السياسة المالية، وإنما سأحاول قياس أثر ارتفاع سعر الدولار على معدلات الفقر في مصر. وسوف أقوم بهذه المقاربة عبر الإجابة عن خمسة أسئلة رئيسية هي أولا، ما هو تأثير ارتفاع الدولار على القوة الشرائية للنقود المتاحة للإنفاق في جيوب المستهلكين؟ ومع أنني سأشير في هذا السياق إلى معدلات التضخم السنوية التي يصدرها الجهاز المركزي للمحاسبات والبنك المركزي ووزارة المالية، فإنني سأعيد حساب الأثر على أساس مستويات الأسعار السائدة في السوق والفرق بين معدلات التضخم الرسمية المحسوبة على كل من الجنيه المصري والدولار الأمريكي.

أما السؤال الثاني فإنه يتعلق بكيف تتحدد القوة الشرائية للنقود، والسؤال الثالث بكيفية تأثير انخفاض القوة الشرائية للجنيه على سعر الصرف مقابل الدولار، والسؤال الرابع هو عن تأثير  انخفاض القوة الشرائية للجنيه على تحديد قيمة خط الفقر الذي يعتمده الجهاز المركزي للمحاسبات في بحوث الدخل والإنفاق في تقدير معدلات الفقر في مصر وضرورة إعادة تقدير قيمة خط الفقر القومي، أما السؤال الخامس والأخير فإنه يتعلق بتأثير تغيير قيمة خط الفقر القومي على معدلات انتشار الفقر في مصر سواء في المدن أو في القرى، وتأثير ذلك في نهاية الأمر على ظاهرة انعدام العدالة الاجتماعية على اعتبار أن ارتفاع معدلات التضخم على الرغم من أنها تصيب الجميع، فإن أثرها النهائي يقع على فقراء المستهلكين. وفي هذا السياق فإنني يجب أن أذكر بأن معدل التضخم هو ضريبة إضافية يتحمل الفقراء أكثر من غيرهم عبئها النهائي.

أن تدخل البنك المركزي بكثافة ببيع الدولار بأسعار رخيصة في السوق هو إهدار لمورد نادر ودعم غير مباشر للمستوردين في اقتصاد يعاني من المزاحمة الشديدة للسلع المستوردة

أولا: تأثير الدولار على القوة الشرائية للجنيه

عندما نقول إن أسعار العملات تحددها قوى السوق، وأن تدخل البنك المركزي بكثافة ببيع الدولار بأسعار رخيصة في السوق هو إهدار لمورد نادر ودعم غير مباشر للمستوردين في اقتصاد يعاني من المزاحمة الشديدة للسلع المستوردة ضد السلع محلية الصنع، فإننا لا نجانب الحقيقة ولا نتجنى على أحد. وقد قدمت في مقال سابق عن أزمة الجنيه عددا من التجارب التاريخية الفاشلة في محاولة فرض سعر مصطنع للعملات المحلية في كل من بريطانيا وتركيا والبرازيل. ومن الضروري هنا أن نشرح كيف تقرر قوى السوق سعر العملة المحلية، حتى نستطيع إدراك طبيعة وآليات العلاقة النقدية بيننا وبين العالم.

يعتقد بعض الناس أن حدود العالم تقع داخل نطاق المكان الذي يعيش فيه سواء كان قرية أو مدينة أو حتى الدولة التي يستوطنها، لكن العالم في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير، ويضم كل المكونات السياسية مثل الدول والكتل والتجمعات السياسية والمكونات الاقتصادية مثل الشركات العملاقة وكذلك المنظمات الدولية التي تلعب دورا مباشرا في رسم السياسات الاقتصادية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، إلى جانب  الأطر القانونية المنظمة للعلاقات بين دول العالم ومكوناته مثل اتفاقيات منظمة التجارة العالمية التي تتداخل بشكل مباشر مع قدرة أي دولة في رسم سياستها الجمركية. وفي هذا العالم الكبير يتم تدول العملات كما يتم تداول السلع، طبقا لقيمتها التي تتحدد بقوتها الشرائية.

ثانيا: كيف تتحدد القوة الشرائية؟

العملة كما ذكرنا من قبل هي تعبير مكثف عن القوة الاقتصادية لسوقها. وهذا يعني أن جودة الإنتاج وقدرته على المنافسة في العالم يمنحان العملة قوة وبأسا،  في حين أن رداءة الإنتاج وانصراف المستهلكين عنه حتى في سوقه المحلي يجعلان العملة المحلية أكثر ضعفا وأشد بؤسا. وتتأثر القوة الشرائية للعملة بعدد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن أهم هذه العوامل درجة الاستقرار السياسي وإنتاجية العمل ورأس المال ومستويات التكنولوجيا المستخدمة في الإنتاج ومعدلات الاستثمار والادخار والتضخم وقيمة الاحتياطي من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي والميزان التجاري والقدرة التنافسية العالمية للمنتجات المحلية وتفضيلات المستهلكين، ومن ضمنهم هؤلاء في السوق المحلية.

ولغرض تبسيط العرض هنا نقول إن معدل التضخم على وجه الخصوص يتدخل بصورة مباشرة في تحديد القوة الشرائية للعملة. وتستطيع ربة البيت الرشيدة أن تدلك على تأثير التضخم من هذه الزاوية. ذلك أن ربات البيوت يتعاملن مع السوق يوما بيوم ويحسبن ميزانية الأسرة في أول كل شهر على أساس الأسعار السائدة في ذلك الوقت؛ فإذا جاء الأسبوع الثاني أو الثالث من الشهر ووجدت ربة البيت جيوبها خاوية من المصروف الشهري المقدر، فإنها تعرف أن سبب ذلك يعود إلى واحد من أسباب ثلاثة، إما أن حافظة نقودها سرقت، أو أنها أسرفت في الشراء عن المقدر، أو أن الأسعار في السوق زادت عما كانت عليه في بداية الشهر، وهذا يكون هو السبب الأرجح.

وقد لا تتأثر الميزانية كثيرا إذا ارتفع سعر صنف واحد من أصناف الاستهلاك الأساسية، لكن التأثير يكون فادحا عندما يشمل الارتفاع في الأسعار كل السلع، بما فيها السلع البديلة (اللحوم والدواجن والأسماك) والسلع المكملة (الشاي والسكر). ويطلق الاقتصاديون تعبيير "التضخم" على هذه الزيادات في الأسعار. وفي العادة يتم قياس معدل التضخم شهرا بشهر لخطورته الشديدة على الاقتصاد وللرغبة في محاصرته بسرعة عن طريق السياسات النقدية حتى لا يفلت خارج نطاق السيطرة.

وبما إن العملة، الجنيه المصري، هو سلعة من السلع في سوق العملات الدولية؛ فإن انخفاض قوته الشرائية في السوق المحلي يعني بالضرورة انخفاض قدرته الشرائية خارج الحدود (بفرض حرية التحويل). أي أن قدرة الجنيه على شراء العملات الأخرى تنخفض، ومن ثم فإن سعره يتراجع في السوق.

ولغرض التبسيط أيضا فإننا سنفترض أن سوق العملات العالمية تحتوي على سلعتين فقط هما الجنيه المصري والدولار الأمريكي، وأن معدل التبادل بينهما في بداية عام محدد كان يبلغ واحد إلى واحد (جنيه=دولار)، وعلى مدار العام بلغ معدل التضخم في الولايات المتحدة 2% في حين إن معدل التضخم في مصر وصل إلى 12%؛ فيكون الفارق في القوة الشرائية هو 12-2= 10%. في هذه الحالة وبافتراض شرط التحويل الحر الكامل وباستبعاد العوامل الأخرى؛ فإن قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار يجب أن تنخفض بنسبة 10%، وبدلا من أن تكون القوة الشرائية للجنيه تعادل دولارا واحدا فإنها ستهبط إلى 90 سنتا فقط في المتوسط. فإذا استمرت خسارة الجنيه المصري لقوته الشرائية النسبية مقابل الدولار (والعملات الأخرى) فإن قيمته تتعرض للانخفاض، وتكون سياسة التدخل من جانب البنك المركزي لإغاثة الجنيه سياسة بائسة ومهدرة للموارد.

ويبين الجدول التالي تطور نسبة التضخم في مصر خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يجب أن يعكس نفسه بالضرورة على القوة التبادلية بين الجنيه والدولار.

(جدول1) تطور معدل التضخم

2009/10

2010/11

2011/12

2012/13

2013/14

2014/15

أكنوبر-ديسمبر 2015

11.7

11.0

8.7

6.9

10.1

10.9

10.6

المصدر: التقرير المالي الشهري لوزارة المالية (مارس 2016)

 

إن العملة، الجنيه المصري، هو سلعة من السلع في سوق العملات الدولية؛ فإن انخفاض قوته الشرائية في السوق المحلي يعني بالضرورة انخفاض قدرته الشرائية خارج الحدود

ثالثا: موجز تاريخي لتطور أسعار الصرف

تمتع الاقتصاد المصري بمركز نقدي قوي بعد انتهاء أزمة المديونية الدولية المستحقة على مصر في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، واستطاع الاقتصاد أن يتغلب على الأزمات التي نشأت بسبب الحرب العالمية الأولى ثم الانهيار الاقتصادي العالمي في الثلاثينات، وخرج الاقتصاد قويا بعد الحرب العالمية الثانية حيث كانت قيمة الجنيه المصري تتجاوز قيمة الجنيه الإسترليني وتعادل نحو 3.5 دولار أمريكي. وظل الأمر كذلك تقريبا حتى بداية الخمسينيات، عندما بدأت العملة المصرية تكافح في سبيل مقاومة الضغوط الناتجة عن الضغوط السياسية ثم حالة عدم الاستقرار الاقتصادي التي نشأت مع تغيير النظام الاقتصادي بعد ذلك. لكن الدولة التي استفادت كثيرا من ظروف الحرب الباردة في محاولة إعادة بناء الاقتصاد على أسس جديدة لم تلبث أن وجدت نفسها في موقف صعب جدا في الستينيات وتم إطلاق مصطلح "العملة الصعبة" للمرة الأولى على العملات الأجنبية في ذلك الوقت. واستمر تدهور الجنيه في السوق بعد هزيمة يونيو 1967 لكن الدولة حاولت من خلال التحكم في المبادلات الخارجية فرض سعر صرف إداري ثابت كان يتم على أساسه إدارة المعاملات مع العالم.

وبعد حرب أكتوبر 1973 وبدلا من أن تجني مصر ثمار السلام مع إسرائيل تعرض الاقتصاد المصري لضغوط شديدة وحالة من الفوضى وانتشار الفساد وهو ما ترك أثره العنيف على قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية، فقررت الحكومة إنشاء ما أطلق عليه "السوق الموازية للصرف الأجنبي"، وهو سوق كانت محكومة نسبيا، لكنها أضفت نوعا من الشرعية على تداول العملات بين المصارف بسعر لا علاقة له بالسعر الرسمي الذي يحدده البنك المركزي. ومع ذلك فإنه حتى أبريل 1981 ظللت قيمة الجنيه المصري أكبر من قيمة الدولار، حتى اقتربت قيمة العملتين من حد التعادل. وقد كتبت في "الأهرام الاقتصادي" في ذلك الوقت مطالبا بسياسة نقدية واقعية توقف الاستمرار في تدهور قيمة الجنيه المصري الذي كادت قيمته تنحدر لتلامس قيمة الدولار.

وفي يوليو 1990 تم تخفيض السعر الرسمي للجنيه من 1.1 جنيه للدولار إلى 2 جنيه للدولار، ثم توالت قرارات البنك المركزي بتخفيض السعر الرسمي للحنيه مقابل الدولار:

- يناير 1991، تخفيض قيمة الجنيه إلى 3.2 جنيه/ دولار ثم إلى 3.4 جنيه/ دولار في الشهر التالي.

- يناير 2001 إلى ديسمبر 2002 تم تخفيض قيمة الجنيه 3 مرات إلى 3.85 جنيه/ دولار ثم إلى 4.14 جنيه/ دولار (سبتمبر 2001) ثم إلى 4.5 جنيه/ دولار في يناير 2002 ثم هبط إلى 5.4 جنيه/ دولار في ديسمبر 2004 لكنه لم يتوقف عن الهبوط.

- وفي يناير 2011 كانت قيمة الدولار تعادل 5.8 جنيه مصري. لكن  الجنيه واصل رحلة الهبوط السريع منذ ذلك الوقت ليخسر ما يقرب من 89.6% من قيمته حتى الآن.

جدول (2) المتوسط السنوي لأسعار الجنيه المصري

السنة

دولار/

جنيه

جنيه/ دولار (سنت)

2003

5.86

17.6

2004

6.19

16.1

2005

5.77

17.3

2006

5.73

17.4

2007

5.63

17.7

2008

5.43

18.4

2009

5.54

18.0

2010

5.62

17.7

2011

5.93

16.8

2012

6.05

16.5

2013

6.87

14.5

2014/15

7.23

13.8

3 يناير 2016

7.98

12.5

13 مارس 2016

8.95

11.1

24 أبريل 2016

8.88

11.2

المصدر: الأرقام حتى عام 2014/2015 مأخوذة عن التقرير المالي الشهري لوزارة المالية (يناير 2016)، العمود الثالث من حساب المؤلف، وأرقام عام 2016 هي الأرقام الرسمية المعلنة من البنك المركزي المصري.

وتبلغ الفجوة بين سعر الصرف في السوق وبين سعر الصرف الرسمي حاليا نحو 200 قرشا أي ما يعادل  22.5% من السعر الرسمي وهي فجوة واسعة جدا تمثل إغراء شهيا لأصحاب التحويلات الخاصة، وتحرم النظام المصرفي من موارد نادرة في هو أشد الحاجة إليها. وليس علاج تلك الفجوة هو شن الحرب  على سوق الصرف الحر، لأن مثل تلك الحرب ستؤدي عمليا إلى خراب سوق الصرافة المحلي لصالح ازدهار سوق الصرافة والمضاربات على الجنيه المصري في الخارج خصوصا في أسواق الخليج.

وكان بوسع البنك المركزي المصري أن يلجأ إما إلى رفع أسعار الفائدة على الإيداع بالجنيه المصري لردم تلك الفجوة أو رفع سعر الدولار رسميا؛ فسياسة الهروب ودفن الرأس في الرمال لا تخلف وراءها سوى الخسارة، وكفانا دعم للاستيراد والمستوردين على حساب الإنتاج المحلي. ويجب أن أؤكد هنا على ضرورة أن يستشعر البنك المركزي الخطر القادم مع موسم إجازات المصريين العاملين في الخارج وازدهار موسم التحويلات الخاصة. لقد خسر البنك المركزي مليارات الدولارات حتى الآن بسبب انصرف أصحاب المدخرات والتحويلات الخاصة إلى أسواق الصرافة (بما فيها أسواق الصرافة الخليجية) لتعويض انخفاض السعر الرسمي المعروض من قبل البنوك المصرية لشراء الدولار من أصحاب التحويلات. إن السعر العادل هو ذلك الذي تستطيع بواسطته البنوك تنفيذ طلبات العملات بيعا وشراء، وليس ذلك الذي تشتري به وتمتنع عن البيع به.

إن الانخفاض المستمر في سعر الجنيه المصري ليس مؤامرة خارجية كما يصور البعض، وإنما هو النتيجة الحتمية لارتفاع معدل  التضخم الحقيقي (وليس المعلن رسميا) بنسبة تفوق كثيرا متوسط معدلات التضخم في الدول الرأسمالية صاحبة العملات الرئيسية.

ويمثل الفرق بين معدلات التضخم في مصر ومعدلات التضخم في الولايات المتحدة العامل الرئيسي وراء الهبوط المستمر في قيمة الجنيه المصري. وليس من المعقول أن تنخفض القوة الشرائية للجنيه المصري أمام السلع المحلية، ثم تستمر على حالها مقابل السلع الأجنبية (بما في ذلك العملات) وهذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها تسارعت كثيرا في السنوات والأشهر الأخيرة بسبب عدم الاستقرار السياسي وتخبط السياسات النقدية المالية وفقدان البنك المركزي لاستقلاله وخضوع سياساته للضغوط السياسية.

،، أن خط الفقر الرسمي يعادل 18.4% من متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في مصر

رابعا: تأثير القوة الشرائية  للجنيه على خط الفقر القومي

في خريف العام الماضي (2015) حدد البنك الدولي خط الفقر العالمي بقيمة 1.9 دولار مكافئ من العملة المحلية محسوبا على أساس القوة الشرائية للعملة المحلية أما ما يعرف بـ (PPP)، وهو تعبير عما يمكن وصفه بأنه "القيمة العينية للدولار" في السوق المحلي، في مقابل "القيمة العينية للعملة المحلية" أمام الدولار. وعلى الرغم من الاجتهادات المبذولة في صناعة هذا المصطلح والجداول الكثيرة التي تدخل في صناعته، فإن الحساب النهائي للأسعار في  الأسواق العالمية وتكاليف المعيشة يتم احتسابها على أساس السعر الاسمي، وليس العيني إلا في حالات استثنائية تتعلق بعناصر الإنتاج غير القابلة للانتقال مثل الأرض. ولذلك فإنني هنا سوف أتحفظ على استخدام القيمة العينية للدولار، وسأعتمد على استخدام القيمة النقدية للدولار في حساب خط الفقر. وعلى هذا الأساس فإنني اعتمادا على حسابات البنك الدولي سوف أعتبر أن خط الفقر القومي في مصر يقع عند قيمة 1.9 دولار يوميا.

كذلك فإنني عند احتساب قيمة خط الفقر القومي لن أعتمد على الأسعار الرسمية للدولار، ولا على معدل التضخم الرسمي المعلن، لأن كلا منهما يمثل قيمة ورقية وهمية لا علاقة لها بالواقع، ومن ثم فإنه من الخطأ الاعتماد على قيمة أي منهما في الحسابات الاقتصادية الواقعية الحقيقية لأن الاعتماد على القيم الواردة في التقارير الرسمية الورقية هي قيم مضللة ومصنوعة لأغراض الاستخدام كمدخلات في صناعة مساحيق "التجميل السياسي" وهي بعيدة تمام البعد عن الموضوعية المهنية. وعلى هذا الأساس فإن خط الفقر القومي للفرد في مصر يكون 693.5 دولار في السنة أي ما يعادل 7628.5 جنيه، ومن ثم فإن الأسرة التي تتكون من خمسة أشخاص تحتاج سنويا دخلا يزيد على  38.142 ألف جنيه حتى لا تقع أسفل خط الفقر.

وتشير الأرقام الرسمية إلى أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2014/2015 يبلغ 3761 دولارا (على أساس متوسط السعر الرسمي للدولار). وهذا يعني تقريبا أن خط الفقر الرسمي يعادل 18.4% من متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في مصر؛ فإذا اعتبرنا أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي يمثل خط المنتصف الذي يفصل بين الأغنياء فوقه والفقراء تحته، فإن خط الفقر الذي يحدده البنك الدولي ينطبق على الثلث الأخير من الفئات الاجتماعية ذات الدخل المنخفض، ويعفي الثلثين من أصحاب الدخل المنخفض من تصنيفهم على أنهم "فقراء". ومع ذلك فإننا يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هرم توزيع الدخل ليس متناسقا وأن هناك الكثير من الاختلالات تعكس تركز الثروة في أيدي الفئات العليا من  أصحاب الدخل.

وبينما حدد البنك الدولي خط الفقر العالمي بقيمة 1.9  دولار للفرد يوميا (ما يعادل 20.9 جنيه للفرد في مصر)، فإن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر حدد خط الفقر القومي (2012/2013) بقيمة 4318 جنيها للفرد في المحافظات الحضرية و3760 جنيها سنويا في ريف الوجه القبلي. وطبقا لحسابات الجهاز فإن قيمة خط الفقر الأدنى في عموم الجمهورية يبلغ 3920 جنيها سنويا (327 جنيها شهريا) في حين تبلغ قيمة خط الفقر المدقع 2570 جنيها سنويا (214 جنيها شهريا).  وطبقا لهذه الحسابات فإن الأسرة المكونة من 5 أفراد تحتاج إلى 1620 جنيها في الشهر للوفاء باحتياجاتها الأساسية، أي 10.8 جنيه للفرد يوميا (لتغطية نفقات الأكل والشرب والكساء والسكن والتعليم والصحة والنقل والاتصالات وغيرها من الاحتياجات الطبيعية والاجتماعية) وهذا يعادل أقل من دولار يوميا أو ما يقرب من نصف قيمة خط الفقر العالمي الذي حدده البنك الدولي.

خامسا: اتساع نطاق الفقر

إن انهيار القوة الشرائية للجنيه من شأنه أن يوسع نطاق شريحة الفقراء في مصر عن التقديرات الرسمية المتاحة حاليا. ويبين الجدول التالي تطور معدل الفقر في مصر حتى عام 2014/2015 طبقا للتقديرات الرسمية، اعتمادا على أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

 جدول (3) تطور معدل الفقر في مصر

السنة

نسبة الفقر%

1999/2000

16.7

2004/2005

19.6

2008/2009

21.6

2010/2011

25.2

2012/2013

26.3

2014/2015

26.7

 

ويظهر الجدول حقيقة اتساع نسبة انتشار الفقر في مصر خلال الفترة منذ بداية القرن الحالي حتى الآن. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الأرقام الرسمية لا تحمل الكثير من الحقيقة، وأن قيمة خط الفقر القومي التي استخدمها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقل كثيرا عن قيمة خط الفقر العالمي فإننا أن خريطة توزيع الدخل الحقيقي في مصر تظهر أن أكثر من 50% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر العالمي الذي يعادل ما يقرب من 21 جنيها يوميا للفرد.

وبناء على ذلك فإننا ندعو الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى إعادة النظر في تقدير قيمة خط الفقر القومي بما يأخذ في الاعتبار متغيرين، الأول هو قيمة خط الفقر الذي حدده البنك الدولي، والثاني هو القيمة الحقيقية للجنيه المصري في مقابل الدولار الأمريكي. إن تدهور قيمة الجنيه أدى عمليا إلى تدهور مستويات المعيشة، وأخطر ما في ذلك إنه أدى إلى سقوط أجزاء من فئات الطبقة الوسطى المصرية مما يمكن أن أسميه "حافة الستر" إلى "هاوية الفقر". وإنك لتستطيع أن ترى ذلك بالعين المجردة من انتقال فئات من راكبي التاكسيات إلى ركوب الميكروباص وهبوط فئات من راكبي الميكروباص إلى ركوب الأتوبيسات والمواصلات العامة المتهالكة. كما تستطيع أيضا أن تراه بوضوح في سوق الملابس المستعملة في وكالة البلح، أو في سوق الملابس الرديئة في العتبة والموسكي، حيث تجد آلاف الزبائن الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى يبحثون عن ملابس تليق بهم هناك بعيدا عن أسواق الملابس المتوسطة والراقية.

إن انخفاض قيمة الجنيه المصري تعني عمليا انخفاض القوة الشرائية للجنيه في مقابل السلع المختلفة محليا وخارجيا. وبما إن أسواق الصرف العالمية مثلها مثل أسواق السلع الأخرى، فإن القيمة الحقيقية للجنيه المصري في مقابل الدولار يجب أن تنخفض لتعكس انخفاض القوة الشرائية للجنيه. فالمسألة هنا تبدأ في حقيقة الأمر من السوق المحلية وليس  من علاقات معلقة في الهواء في أسواق الصرف العالمية. كما إن الأمر في جوهره لا يتعلق بمؤامرة كما يعتقد البعض.

وإذا أردنا أن نحافظ على قيمة الجنيه من الانهيار فعلينا أن نفهم أولا كيف تعمل أسواق العملات في العالم. وبدلا من أن ننفق مليارات الدولارات في السوق لدعم المستوردين، كان من الأولى استخدام هذه الأموال الصعبة في رفع كفاءة الإنتاج المحلي. لكن  الأخطر في المدى المتوسط والطويل، أن تدهور أسعار الجنيه المصري من شأنها أن تؤدي إلى زيادة معدلات الفقر في مصر ومن ثم إلى اتساع نطاق الفئات والطبقات المهمشة وزيادة فرص عدم الاستقرار الاجتماعي. وإذا استمر هذا الحال فإن من شأنه أن يهدد فرص الاستقرار السياسي في بلد يعاني بشدة من عدم الاستقرار والتخبط السياسي والاقتصادي. 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟