أشكر من سأل عن غياب هذا المقال لأسبوعين، إذ الحقيقة أن الكاتب لا وزن لما يكتبه إذا لم يجد من يقرأه ويتابعه ومن يتفاعل معه بالانتقاد أو التثمين،
وأعترف بأن توقفى كان بسبب حالة إرهاق ذهنى ونفسى إثر العجز عن الإجابة عن السؤال التقليدي: وماذا بعد؟! ماذا بعد الكتابة والتشخيص وتلمس سبل العلاج؟ وماذا بعد التصدى لأطروحات وممارسات القوى المضادة للاستقرار والتنمية ولتكامل الأدوار بين جيشنا الوطنى وبقية أجهزة الدولة وبين الناس بمختلف فئاتهم ومواقعهم؟! ماذا بعد أن تبين أن عينة واحدة من أهل الرأى والثقافة هم من يدعون لحوار رئيس الجمهورية، وكثير من هؤلاء هو من جلس إلى السادات ومبارك ومرسى ثم لعنوهم بعد ذلك؟! وكثير منهم لم يخض معركة واحدة جادة ضد الإخوان ومن شاكلهم عدا عن أن مثالبهم تنسحب على كل أهل الرأى والفكر!.
وخلال الأسبوعين الفائتين كانت قضايا عديدة تستحق المعالجة وإبداء الرأي، وكان لديّ ما أستطيع قوله- بصرف النظر عن قيمته وعن جدواه - ولا أنكر أننى ما إن تخلصت من حالة التساؤل «الماذا بعدي» - إذا جاز الاصطلاح - حتى دهمنى ما جرى فى نقابة الصحفيين والتصق به مباشرة استشهاد أولادنا من رجال الشرطة فى حلوان بطريقة تكشف عن مثالب خطيرة لا يجب السكوت عنها.
ولقد دعيت لبرنامج تليفزيونى يقدمه ويدير الحوار فيه الأستاذ إبراهيم حجازي، وكان الحوار حول ما جرى فى النقابة وما يحدث فى الصحافة بوجه عام، وفيه ما يشير إلى ضلوع البعض فى عمليات متعمدة للتهجم البشع على دور جيش مصر ورجاله، وإلى الترويج لكل ما من شأنه تجاهل وطمس الإنجازات الكبيرة التى تقوم بها الدولة بقيادة الرئيس السيسى فى أكثر من مجال، الأمر الذى يستهدف بوضوح أمرين أخطر من بعضهما، الأول: هو إشاعة اليأس بين جموع الشعب ومحاولة إيجاد فجوة بينها وبين الرئيس الذى انتخبته وأعطته ثقتها وأحبته بدرجة غير مسبوقة خلال العقود الأربعة الماضية، والثاني: هو تسريب الإحساس بأنه شعب جاحد وناكر للجميل ولا يستحق التضحية من أجله لدى قيادات النظام من أول الرئيس ونازل!.
وفى الحوار الذى تم بثه الخميس الفائت حاولت ربط الظواهر ببعضها البعض، وأشرت إلى أن حكاية «قدسية الأماكن» لعبة قديمة قدم وجود أماكن مقدسة لدى البشر، وضربت مثلا بما جرى بين كهنة المعبد اليهودى وبين السيد المسيح - له المجد - عندما دخل المعبد وقلب موائد الصيارفة والمرابين، وقال قولته الشهيرة: «أجعلتم من بيت الرب مغارة لصوص»! وهنا أستحضر أيضا ما جاء فى القرآن الكريم متصلا بالبيت الحرام، وكيف أن البشر والمجتمع أهم من الحجر.. ففى سورة البقرة آية 217 نقرأ: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل» صدق الله العظيم، نعم الفتنة أكبر من القتل، وما فعل الذين اتخذوا من النقابة درعا تحميهم وقد اتجهت إليهم نصوص القانون تتهمهم فيما هو ليس متصلا بالصحافة ولا بالكتابة ولا بأى شأن من شئون النقابة إلا فتنة بشعة، ما كان لأحد يدرك مغبة الخلط بين الأمور أن يسمح بوقوعها!.
وليت أن الفتنة اقتصرت على شرخ فى جدار أبناء المهنة أعضاء النقابة، بل تعدت ذلك إلى شرخ أكبر فى علاقات مؤسسات الدولة، حيث النقابة مؤسسة يفترض فيها أنها تؤدى دورها ضمن منظومة دستورية متكاملة، وما كان لأحد فيها أن يقف صائحا هائجا لينال من مكانة رئيس الدولة ومن مكانة مؤسسات أخرى هى التى يفترض دستوريا أنها تحاسب الوزراء وتحدد مسطرة الحساب ونتائجه! أما أن ينصِّب البعض من أنفسهم «خصما وحكما» فى آن واحد، ويتجاوز كل المعايير الدستورية فيستلب دور المؤسسات الأخرى فهذا أمر لا يليق!.
ثم إننى سبق أن كتبت مقالا فى صحيفة أخرى منذ عدة شهور حول الأمراض المتفشية فى بعض شرائح الجماعة الصحفية، ومنها مرض الأمية الهجائية والإملائية والنحوية والصرفية والسياسية والدينية والأخلاقية، وطالبت قيادة النقابة بأن تصرف جل جهدها وكل إمكانات النقابة لمحو تلك الأنواع من الأمية، ولقد شاء حظى ومعه الصدفة أن أعمل مع عشرات من الزملاء الصحفيين على مدار أكثر من ثلاثين عاما، أناقش معهم أفكار وموضوعات بعض أبواب العمل الصحفي، وأتابع عملهم فى الأخبار والتحقيقات والحوارات وغيرها، وبالطبع أراجع صياغاتهم وأعيد تحريرها.. ويا لهول ما عندى غير أن الله حليم ستار!. إن معركة حرية الصحافة، ومعارك النضال ضد تقييدها وضد العقوبيين - على رأى كامل زهيري - وضد المتربصين، ليست أقدس ولا أوجب من المعارك ضد الفساد المالى والإدارى فى المؤسسات الصحفية، وضد تخلف أدوات العمل الصحفي، وضد عشرات من أنواع الخلل التى منها خلط الإعلام بالإعلان، واصطناع المصادر أو تزييفها والفبركة على لسانها، وسرقة المادة الصحفية من الأرشيف أو من مطبوعات أخرى، وغير ذلك مضاف إليه معضلة الأمية المركبة التى أشرت إليها.. وأعتقد أنها معارك تماثل الجهاد الأكبر الذى تحدث عنه الرسول الأعظم - صلوات الله عليه وسلامه - بعدما اعتبر الحروب الخارجية جهادا أصغر.. ورأى بناء الدولة وحماية المجتمع وتنميته جهادا أكبر!.
إننا فى وطن يمر بمرحلة نقاهة من أمراض حاقت به عقودا، ودمرت أو كادت أن تدمر جهازه المناعي، وهناك من يحاول أن يعبر هذه المرحلة بتقوية جهاز المناعة الوطنى بعشرات الإنجازات فى عدة اتجاهات، وليس وارداً ولا مطلوباً أن يكون الذين مهمتهم تكوين وتنوير- وربما تثوير- الرأى العام هم من يكرسون الانهيار ويعملون فى خندق واحد مع أعداء الوطن فى حربه الممتدة على خمس جبهات.
تعالوا إلى كلمة سواء؛ بأن نخوض معارك الحرية والاستقلال لمهنتنا وننغمس فى جهادنا الأكبر حتى لا تكون المعارك الأولى مجرد شماعة نعلق عليها تقصيرنا فى حق أنفسنا، فيبقى فينا من لا يوقر كبيرا ولا يحترم قيمة ولا يقدر على كتابة أو نطق جملة عربية واحدة صحيحة.
نقلاً عن الأهرام