المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
فولفغانغ شويبله
فولفغانغ شويبله

أوروبا لا غنى لها عن بريطانيا

الأربعاء 15/يونيو/2016 - 11:20 ص

سألتُ نفسي إن كان في محله توجه سياسيين ألمان إلى الناخبين البريطانيين وإملاء عليهم ما يفعلون (في الاستفتاء). ووجهت السؤال هذا إلى نظيري البريطاني، جورج أوسبورن، حين دعاني إلى الكلام عن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في لندن. ولكنه طمأن مخاوفي. لذا، شرحت للجمهور البريطاني دواعي دعمي بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وانسحاب بريطانيا هو خسارة ضخمة في أوروبا. فهي صاحبة واحد من أقوى الاقتصادات في الاتحاد الأوروبي، ولندن هي أكبر مركز مالي في أوروبا. وتؤدي بريطانيا دوراً ريادياً في شؤون السياسة الخارجية والأمنية. فأوروبا أقوى حين تكون بريطانيا في عديدها. ولندن تدعو على الدوام إلى حلول تستند إلى اقتصاد السوق في بروكسيل. وهذه الدعوة غالباً ما تجمعها والحكومة الألمانية. ولا يشعر المرء بالاكتفاء من المنطق البراغماتي البريطاني في أوروبا، ويرغب في الاستزادة.

وبريطانيا مندمجة مع شركائها في الاتحاد الأوروبي. وإذا بترت أواصرها بهم، تراجعت القهقرى. ومثل هذا التراجع يصيبها بوهن بالغ. وفي عصر العولمة، ليست «العزلة العظيمة» خياراً ذكياً أو ناجعاً. وإذا اختارت الغالبية في بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، أخذت موقفاً مناوئاً للسوق الموحدة والمشتركة. (لذا، لن تسعها الاستفادة من عوائد هذه السوق حين تختار الانسحاب وترك التزام معايير المجموعة الأوروبية). فالانسحاب هو انسحاب، والبقاء هو بقاء (في الاتحاد الأوروبي وما يترتب عليه من إيجابيات). ويجب احترام سيادة الشعب البريطاني.

وأرى أن حسابات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية معقولة وفي محلها. فهي حذرت البريطانيين من خسارة كبيرة في المداخيل وانحسار في الازدهار. وثمة حسنات ترتجى من الاندماج الاقتصادي الوثيق مع أوروبا. ولكنني لا أعرف إذا كانت مؤسسات دولية ستنجح بإقناع الناخبين البريطانيين. وإذا انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خلفت ارتدادات سلبية وفاقمت الأخطار على شركائها. ولكنني وشركائي في منطقة اليورو سنبذل ما في الإمكان لتطويق النتائج (حصر وقع الانسحاب السلبي) وتقويض الأخطار. والبنك المركزي الأوروبي يعد العدة لأسوأ الاحتمالات («البريكزيت»)، شأن بنك انكلترا والمفوضية الأوروبية وحكومات شريكة. ورد السوق بعد الاقتراع على الانسحاب، غامض. وقد لا يحصل شيء (قد لا يؤدي إلى أثر فوري سلبي)، لأن المستثمرين احتسبوا الأمور. والهدوء هو الرد الأمثل شأن توجيه الأسواق وإرشادها إلى الطريق، إذا اقترعت بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وإذ ذاك (عند الانسحاب) لا مفر من القول: «هذا قرار لم نرغب به، ولكننا سنعمل به على خير وجه». ولا داعي للذعر. فالانفصال ليس بين ليلة وضحاها، وسيرورته تقتضي الوقت ومفاوضات مطولة. والاسكوتلنديون يرغبون في البقاء في أوروبا. والاقتراع على الانسحاب سينفخ في نازعهم إلى الاستقلال. ولا يستخف كذلك بموقف شمال إرلندا. فالنزاع معها قيُد بقيد انتماء كل من بريطانيا وإرلندا إلى الاتحاد الاوروبي. وليس مستبعداً أن تتأثر دول أوروبية ببريطانيا (وترغب في التخفف من الاتحاد أو الانسحاب منه). وهولندا مقربة تاريخياً من بريطانيا وتجمعها بها أواصر قوية. ولا أحد يعرف ما سيكون موقفها. وإثر الاستفتاء، لسان الاتحاد الأوروبي مفاده إدراك القصد من الاقتراع وأنه مستعد لاحتساب دروسه والاعتبار بعبره. فالجواب على الـ «بريكزيت» ليس الدعوة إلى اندماج أكبر فحسب. واقتصار الجواب على مثل هذه الدعوة يحمل كثراً على التساؤل عما إذا كان السياسيون لم يدركوا بعد مغزى ما حصل. ولو اقترعت غالبية صغيرة من الناخبين البريطانيين على رفض الانسحاب، علينا ألا نغفل أن ما جرى هو قرع لناقوس الخطر ولا يسعنا العودة إلى سالف الأمور كما لو أن شيئاً لم يحصل. وحري بنا احتساب الحاجة إلى تقليص البيروقراطية في أوروبا، وإلى مزيد من الاستقلال أو الإدارة الذاتية على نحو ما يطالب البريطانيون. وأوروبا قوية ليست صنو أوروبا بيروقراطية. وترجيح كفة الاستقلال «الذاتي» والتزام القواعد المجمع عليها هما من اركان اوروبا. فمثل هذا الترجيح يسبغ قيمة مضافة على المقاربات الوطنية (أو القومية). ونحتاج إلى بريطانيا إذا قيض لأوروبا أن تأخذ مكانتها في العالم.

وعلى خلاف ما يقال، لم تعرقل بريطانيا يوماً قرارات أوروبية أو الاندماج الأوروبي. فالحكومة البريطانية لم تقيد يد الدول التي ترغب، مثلاً، في المضي قدماً في الاتحاد النقدي. ووزن بريطانيا وفرنسا في الشؤون الخارجية الأوروبية والأمنية راجح، شأن مساهمتهما. وبريطانيا في هذه المجالات أمة رائدة. ووددتُ أن تتحمل الحكومة البريطانية مسؤولية أكبر في المسألة الأوكرانية. ويؤسفني أن الرئيس الفرنسي فحسب هو من مد يده إلى المستشارة الألمانية في المفاوضات مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وافتُقد في هذه المفاوضات رئيس الوزراء البريطاني. (وعلى رغم أنها جزيرة)، لم يدر، يوماً، محور السياسة البريطانيا على نفسه، ولطالما كانت أوروبا وجهتها (السياسة هذه). وكلما سعى أي طرف في أوروبا القارية إلى قمع غيره من الدول، كان البريطانيون ألد أعدائه- وساهموا في ترجيح الكفة ضده، سواء في الحرب ضد نابليون قبل مئتي عام، أو الحرب ضد هتلر قبل 80 عاماً.

وعجلة أوروبا ستدور من غير بريطانيا إذا دعت الحاجة. وحين يدرك البريطانيون أن خيارهم لم يكن في محله، ستفتح لهم أوروبا ذراعيها إذا كان هذا ما يشاؤون. وأوروبا تنمو على وقع الأزمات. وكل أزمة هي فرصة لترسيخ أسسها والخروج أقوى. وقبل ست سنوات، كانت الأزمة تعصف بعدد كبير من دول منطقة اليورو، وكثر حسبوا أن الحياة لن تكتب للعملة المشتركة. ولكن اليوم أسبانيا والبرتغال وإرلندا وقبرص تجاوزت الأزمة، وخطت اليونان خطوات كبيرة على طريق تجاوزها. واليوم اليورو هو ثاني احتياطي من العملات الأجنبية في العالم، ومشروعيته راسخة، وهو عملة مستقرة. وأوروبا بطيئة في بعض الأحيان، وردها خمول. لكنها قادرة على إيجاد حلول.

وتُدعى ألمانيا إلى أداء دور قيادي في أوروبا، ولكنها ما إن تقدم على ذلك ترمى بسهام الانتقاد. ولا يستطيع بلد واحد توجيه دفة أوروبا أحادياً. ولا غنى عن دور فرنسا وتمس الحاجة إلى بولندا أقوى وأكثر التزاماً بالاتحاد الاوروبي. والاتحاد الاوروبي أكثر توازناً حين تكون بريطانيا على متنه مما حين تترجل منه. والمشاعر المناوئة لأوروبا ضعيفة الصلة بما يقال عن الهيمنة الألمانية على الاتحاد الأوروبي. فإحصاءات الرأي تظهر أن نظرة البريطانيين إلى ألمانيا تغيرت. ونحن ساهمنا في إخراج صورة بلادنا الجديدة، وسعينا إلى إقناع العالم بأن صورته عنا بائتة. وساهمت مباريات كأس العالم في 2006 في تغير الصورة هذه. وكثر في أصقاع المعمورة كلها لن ينسوا صور استقبال اللاجئين في محطة ميونيخ. والتمسك بمبدأ الحدود الأوروبية المشرعة في محله. ومشكلة اللاجئين لن تحل من طريق تحسين أوجه ضبط الحدود الأوروبية الخارجية والتعاون مع الدول المجاورة لأوروبا. ولا غنى عن الاتفاق مع تركيا. ولكن أزمة اللاجئين تقتضي تضامناً أكبر في صفوف الأوروبيين. وليست مآخذ شطر من الأوروبيين على المانيا في محلها، بل عليهم اللحاق بركبها. وثمة أشخاص في دول الاتحاد الأوروبي يتوسلون أزمة اللاجئين لتقويض الاندماج الأوروبي. ففي وجه غموض العالم الحديث وضخامة العولمة، يشعر هؤلاء بالحاجة إلى التمسك بما يعرفونه وانتخابه ملاذاً آمناً. ولكن مثل هذا الرد على العولمة غير مناسب. ولا يسع أحد العودة بعقارب الساعة إلى الوراء والعودة إلى الأيام الجميلة السالفة. والانفتاح هو مستقبلنا. والقيم الأوروبية بالغة الجاذبية، ويجمع عليها كثر من البولنديين. فالقيم الأوروبية في بولندا كانت وراء بلوغ ما حسبنا نحن الألمان أنه متعذر: سقوط جدار برلين. والاتحاد الأوروبي لم يخسر بولندا بَعد. فالحكومة البولندية تستجيب لضغوط بروكسيل. فأوروبا يعتد بها ولا يفرط بها. وأرى أن الناس يقبلون على القيم الأوروبية حين تترك لهم حرية الاختيار، وهذا يصح في الصين وأميركا اللاتينية والعالم العربي وروسيا. لكننا مع الأسف نخفق أحياناً في الدفاع عن قيمنا. ولكن هذا الإخفاق هو مرآة افتقار البشر إلى الكمال، ولو كانوا أوروبيين.

والاستفتاء لن يخلف بريطانيا مقسمة. فالديموقراطية هي الحق في تباين الآراء. وحين يتخذ البريطانيون قرارهم في 23 حزيران (يونيو) الجاري، سيصدعون به كلهم. فهم ديموقراطيون مجربون ولا يحتاجون إلى إرشاد ألماني. وإعجابي ببريطانيا واحترامي لها كبيران. ومساهماتها- ومساهمات ونستون تشرشل تحديداً- في التاريخ الأوروبي والتاريخ الألماني، بارزة. ولندن مدينة مثيرة للإعجاب، والمناظر الطبيعية في بعض أنحاء بريطانيا تسلب الأنفاس. ولكنني أستسيغ المطبخ الفرنسي أكثر من الأطعمة البريطانية. والبريطانيون ليسوا أفضل الهدافين في ضربات الجزاء. نقلا عن الحياة

 

* وزير المال الالماني (من مقابلة اجرتها كريستيان هوفمن وكريستيان ريرمان)، عن «شبيغل اونلاين» الالمانية، 10/6/2016، إعداد منال نحاس

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟