المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. نصر محمد عارف
د. نصر محمد عارف

تسليع التدين .. وتسويق التدين

الإثنين 27/يونيو/2016 - 11:28 ص

لقد صرنا نعيش في مجتمعات نُزِعَ من الدين فيها روحانيته، وتحول إلى طقوس جامدة، وشعائره فارغة من مقاصدها، كل ذلك حدث بفعل جماعات وتنظيمات حولت الدين إلى وسيلة لأهداف دنيوية؛ كان منها تمكينهم من فرض رؤيتهم للتدين على العباد، وكان منها أنهم يريدون إكراه الناس على اعتناق نسخة معلبة من الدين؛ استوردوها من صحراء جزيرة العرب، وكان منها اعتبار كل تدين غير مجفف بدعة وضلالة وفي النار، هولاء الذين يتصورون أنهم فاتحون جدد، جاءوا لإخراج الناس من الجاهلية للإسلام، هم في حقيقتهم تجار، ودنيويون حتى النخاع، يعبُّون من ملذات الدنيا عبَّاً، فمن منهم لا يسكن في أفخم البيوت، وجيرانه في العشش والعشوائيات والقبور وهو يعلم؟ ومن منهم لا يركب أفخم السيارات، وأتباعه معلقون في وسائل المواصلات العامة؟ ومن منهم لم يعدد الزوجات وأقاربه وجيرانه وأتباعه تجف حياتهم قبل التمكن من الزواج بواحدة متهالكة؟…ومن…ومن؟

هذا التيار الذي انتشر في مصر وفي معظم بلدان العالم الإسلامي؛ ومهد الطريق أمام داعش وبوكو حرام وغيرهما، نجح في تجفيف التدين وتحويله إلى شكليات لا روح فيها، هو ذات التيار الذي حول الدين إلى سلعة، يتاجر فيها، ويجني من ورائها ثروات طائلة؛ خلقت طبقة من المنتفعين حول كل واحد منهم، فاختلطت الأشياء، وأصبحنا لا نستطيع التمييز بين مظاهر التدين التي إنما جعلت لجلب المنافع وتعظيمها، وخداع العوام وابتزاز عواطفهم من أجل اختلاس أموالهم، وبين تلك المظاهر التي تعبر عن تدين حقيقي، لقد تحول كل شئ إلى تجارة، وإلى منافع دنيوية،وغلب الشر على الخير، لأن ذلك من طبعية التجارة خصوصاً إذا كانت تجارة في أشرف ما عرف الناس، تجارة في الدين وبالدين.

لقد واجه أبو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي المتوفى 873م هذه الظاهرة في زمانه عندما خرج أجداد عدماء الدين الذين يعيشون بيننا اليوم يكفرون من يشتغل بالفلسفة أو يدرسها، أو يتعلمها ويعلمها، فقال الكندي فيهم: “هم من أهل الغربة عن الحق، وإن تُوِجوا بتيجان الحق، دون إستحقاق. فهم يعادون الفلسفة ذباً عن كراسيهم المزورة؛ التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر شيئا باعه، ومن باع شيئا لم يكن له. فمن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين”، هولاء المتاجرون بالدين من عدماء الدين؛ الذين لم يكن لهم سابق علم، ولا درس ولا تفرغ لعلوم الدين قبل إتجارهم به، والآن صاروا هم قادة الدعاة ورؤوس المفتين، ينتسبون زوراً إلى السلف الصالح، لأن لهم سلفهم هم الذين كان مثلهم، والذين سماهم الكندي عدماء الدين، وليس علماء الدين.

انتشرت ظاهرة تسليع الدين، أي تحويل الدين إلى سلعة مع إنتشار الدعاة المنتسبين إلى السلفية، وتحولت خطبهم ودروسهم إلى سلعة تباع في صورة أشرطة مسجله وإسطوانات وغيرها، وحقق الكثير منهم أرباحا طائلة من هذه التجارة، وهنا يثور السؤال، ما هو الدافع الحقيقي للخطب الرقيقة المليئة بالمشاعر والبكاء والأنين بعد بيع الشريط الأول؟ … هل للدعوة الخالصة أم لرفع معدلات البيع والحصول على ربح أعلى وثروة أكبر؟ سؤال لا يعلم الإجابة عنه إلا الله علام الغيوب.

ثم ازدادت عملية تسليع الدين مع انتشار القنوات الفضائية الخاصة خصوصاً تلك التي يملكها قادة السلفية في مصر وغيرها، وهنا تثور نفس الأسئلة، هل كل تلك الدروس والمواعظ والبكائيات لرفع دخل القناة من المتبرعين والرعاة أم للدعوة لله؟…سؤال مشروع. وكذلك الحال بالنسبة للدعاة الجدد الذين يحاولون أن يتقربوا للشباب بتقليد موضة الشباب الناعم، فيلبسون ويتكلمون ويتحركون وكأنهم ممثلون، يهمهم إبراز جمال أجسادهم وشياكتهم وتأنقهم، وفي المضمون يحاولون تقديم نسخة تسويقية للدين ترضي الزبائن…وهنا تثور ذات الأسئلة…هل كل ذلك من أجل النجومية والثراء، أم اجتهاد لوجه الله؟…والإجابة … الله أعلم.

وثالثة الأسافي في عملية تسليع الدين كانت عمليات البيع الفاضحة للأدعية والأذان والقنوت وحتى قراءة القرآن الكريم كنغمات للتليفون، أو رنات للموبايل، هنا تحول الدين إلى سلعة، تباع وتشترى، وهذا على العكس من كل التاريخ والفقه، الذي ناقش طويلا إمكانية الحصول على مقابل نظير تعليم الفقه، أو تعليم القرآن، وكان الوقف الخيري هو الإجابة الصحيحة على مر التاريخ، بحيث أن تكون هناك أوقاف تنفق على عالم الدين؛ ولكن لا يحصل عالم الدين على مقابل من المتعلمين، لأن ذلك يضعه في الموقع الأدنى، ويربك العلاقة بين العالم والمتعلم، ويفقد المحتوى الديني المقدم لعامة المسلمين روحانيته، ورونقه، وتأثيره.

 

لقد تحرك هؤلاء من دوافع معينة ترى أن التدين يحتاج إلى تسويق وتزيين، لإقناع الناس به، وكأنه شئ “براني” من خارج الإنسان، وليس شعورا نابعا وصفه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم “الإيمان ما وَقَرَ في القلب وصدقه العمل”.

إن عملية تسليع الدين، أي تحويله إلى سلعة ثم تجارة، ومن ثم تسويق التدين من خلال الدعاية والإعلان حتى ولو بطريقة الدعاة الجدد، هذه العملية قادت إلى مزيد من تجفيف التدين عند المسلمين، والبعد به عن جوهر الدين ومقاصده، لذلك لم يؤد التدين المنتشر في مجتمعاتنا إلى تحقيق مقاصد الدين الأخلاقية والسلوكية.

وهنا لابد من وقفة حازمة…نحن نسير في طريق سارت فيه قبلنا كنائس الولايات المتحدة ودعاتها التلفزيونيون، وكانت النتيجة كارثية، هجرا للدين، وبعدا عن التدين وفراغا للكنائس ومن أراد أن يستزيد فليقرأ التجربة الأمريكية التي قلدها الدعاة الجدد. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟