المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
لويس - جان كالفيه
لويس - جان كالفيه

المتوسط «قارة سائلة» وبحر لغات وتبادل إنساني

الأربعاء 29/يونيو/2016 - 12:01 م

تروي أسطورة برج بابل ان يداً الهية كانت وراء تعدد الألسن واضطرابها، وطي مرحلة كان البشر كلهم يرطنون فيها بلغة واحدة. ومنطقة الحوض المتوسط ليست برج بابل، ولكن غليان اللغات فيها متقد. فمنذ عهد الفينيقيين الذين درجوا على الانطلاق من سواحل ما هو لبنان اليوم، الى سواحل جنوب المتوسط من الشرق الى الغرب، الى اليوم على وقع سعي المهاجرين الى عبور البحر هذا من الجنوب الى الشمال، خلّف تاريخ اقتصادي وسياسي امبراطوري وديني مشترك آثاراً لغوية متباينة الألوان. واللغات «الرومانية»، الإيطالية والفرنسية والإسبانية...»تتحدر» من اللاتينية. ولكن قبل 25 قرناً، كانت رقعة انتشار اللاتينية بالغة الصغر في محيط روما محاصرة بين البحر وعدد من الاراضي حيث ينطق الناس بلغات اخرى، اليونانية تحديداً في الجنوب، والاتروسكانية في الشمال. والفتوحات الرومانية نشرت ضرباً من «اللاتينية»، وليس اللاتينية نفسها. فالقوات العسكرية كانت تتكلم لاتينية هجينة تغيرت اشكالها في الاراضي المحتلة. والعربية عرفت مصيراً مشابهاً. فالقوات العسكرية العربية، وهي شدت الرحال من شبه الجزيرة العربية، اجتاحت اقاليم شاسعة، وكان لسانها نوعاً من العربية المحكية. وفي الترحال صادفت (القوات هذه) شعوباً مختلفة اللسان. وغليان اللغات هذا وسم بطابعه حوض المتوسط ثقافياً وسياسياً ودينياً ولغوياً.

وتتبع عدد كبير من الخبراء تاريخ اللاتينية واليونانية أو العربية. ولكن مثل هذا التأريخ مبتور. فهو يقتصر على رصد اللغة في أماكنها «الأصلية» أو منابتها، ويفترض ان اللغات هي موضوعات مستقلة، على خلاف ما هي عليه. فاللغات يحملها المتحدثون بها حين يتنقلون، وهي ممارسات اجتماعية وتتكيف مثل الكائنات الحية حين ترحالها، وتتأقلم. والفرنسية هي من اشكال التأقلم اللاتيني، والعربية التونسية هي من اشكال تأقلم العربية. والإعارات كثيرة بين اللغات، فتتبنى اللغة المحلية كلمة من لغة اجنبية وتصير فعلاً متداولاً فيها، مثل كلمة «ديغاج» الفرنسية، وهي لواء رفعه المتظاهرون ضد الأنظمة الديكتاتورية في الربيع العربي. وثمة افعال فرنسية مثل «شوفي» أو «كيفيه» kiffer (من حشيشة الكيْف) هي شاهد على اندماج الشباب المتحدر من الهجرة. وحركة سير المفردات اسرع من ضفة الى اخرى مما هي حركة السياسة الخارجية. والتأقلم اللغوي هو تناسل كلمة حين انتقالها الى وسط جديد ورسوخها واشتقاق كلمات منها في اللغة المتبنية أو الحاضنة. وفي اندونيسيا، كانت الهولندية اللغة الرسمية. ولكنها اليوم لغة غير محكية هناك. وكان تداولها في هذا البلد ضرباً من التكيف العابر والموقت، على خلاف الإسبانية في اميركا اللاتينية التي تأقلمت هناك ورسخت. وهذا شأن البرتغالية في البرازيل. والفرنسية المحكية في المغرب أو افريقيا ليست تلك المحكية في باريس. ويدور الكلام اليوم على فرنسية سنغالية أو فرنسية مالية.

وإلى جنوب المتوسط اليوم، تدور رحى جنون دموي وحرب توتاليتارية دينية، وإلى ضفته الشمالية، تعم موجة من الرهاب والأنانية والقومية الضيقة. وأنا عاجز عن توقع ما ستنتهي اليه الأمور. ولكن، على رغم الحملات الصليبية و»الجهادية» والكولونيالية واتفاقات سايكس- بيكو، واستعمار اسرائيل الفلسطينيين، لن تتشظى الوحدة الثقافية لتاريخ المتوسط، فهو عامل سلام وتقدم. واليوم، يتواجه عالمان: سيل المهاجرين من الجنوب الى الشمال هو سيل البؤس الإفريقي كله الذي يعقد في المتوسط وتسد الآفاق امامه في وقت تتقوقع اوروبا كأنها تعاني مرض التوحد. وهذان العالمان المتواجهان يجمعهما تاريخ مشترك على رغم التباين الكبير بين احوالهما اليوم. و2016 هو ذكرى مئوية سايكس - بيكو. ولكن إلقاء لائمة الفوضى الحالية على الغرب فحسب في غير محله. فعلى رغم ان الغرب اخل بكثير من وعوده، الدول العربية زرعت الخيبة. فالقومية العربية العلمانية الناصرية أخفقت. واليوم، المعارضة ليست علمانية ولا سياسية بل دينية.

والبحر المتوسط هو يوتوبيا راكدة اليوم، ويجب بعث الحياة فيها. فالمهاجرون، وشطر منهم لسانه العربية، قادرون على المساهمة في اقتصادات الدول الاوروبية والتأثير في الثقافة الاوروبية. وتأقلمهم في أوروبا قد يلد شكلاً جديداً من العربية، فنرى عربية فرنسية أو ايطالية، على نحو ما هي حال العربية في مالطة أو قبرص. وأعددت كتابي الصادر حديثاً مع صديقي جورج موستاكي، المغني الذي رحل في 2013. فهو ولد في الإسكندرية لأسرة يهودية يونانية تتكلم الإيطالية. واسم عمادته هو غيسيبه، واسمه في القيود المدنية يوسف. وفي المدرسة الفرنسية كان يدعونه «جو» (اختصار جوزيف). ولكن حين وصوله الى فرنسا، حسب كثر ان جو هو مختصر جورج، وماشى موستاكي المغني براسنز في حسبانه هذه تقديراً له وإعجاباً به. فصار اسمه جورج. وتناسل اسماء جورج موستاكي هو رمز للعالم المتوسطي الذي ادرسه. وضمور حركة الترجمة في الدول الناطقة بالعربية هو مرآة تقوقعها ولامبالاة الدول الأوروبية. فمنذ اربعين عاماً، عدد الكتب المترجمة في اليونان (10 ملايين نسمة) يفوق نظيره في الدول العربية مجتمعة (350 مليون نسمة). وتيار الترجمة الرئيسي اليوم في المتوسط يربط بين تركيا والعالم العربي، ولكن الترجمة تكاد تقتصر على الأعمال الدينية. نقلا عن الحياة

* دارس ألسنيات، صاحب «المتوسط، بحر لغاتنا»، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 10/6/2016، إعداد منال نحاس.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟