المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

رسالة إلى العرب الأشاوس: أليس منكم رجل رشيد؟

الثلاثاء 19/يوليو/2016 - 02:59 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
أ.د/ محمد صفي الدين خربوش

يبدو أن العرب قد أدمنوا تلقي الهزائم والنكبات، حتى أن البعض قد يظن أنهم يحبون الهزائم ويكرهون الانتصارات. وربما  يطربون كلما حقق أعداؤهم انتصاراً عليهم، كي يتفرغ المحللون والمعلقون والكُتَّاب لتفسير، أو لتبرير، الهزائم والنكبات. وليس من المستبعد أن يحتفل العرب  في المستقبل بذكريات الهزائم دون الانتصارات، ربما لوفرة الأولى وندرة الأخيرة.

   ومن الواضح أن عرب القرن الواحد والعشرين لا يختلفون، من حيث الجوهر، عن أجدادهم الأقدمين منذ حرب البسوس وحرب داحس والغبراء، حتى حروب سورية واليمن والعراق وليبيا المستعرة منذ "الربيع المزعوم"؛  مروراً بكوارث عدة أضحى إحصاؤها عسيراً، لكثرتها وتكاثرها. وبعد النكبات المتتالية، لم  يعد من الممكن استخدام كلمة "النكبة" دون تحديد، بعد أن كانت "النكبة" تستخدم، حتى وقت قريب، للإشارة إلى نكبة فلسطين، فقد تعددت النكبات على العرب من كل جانب.

    تقف جميع الأطراف الاقليمية والدولية فاغرة أفواهها استعداداً لالتهام ما يمكن من الفريسة العربية الشهية، بينما ينخرط العرب في حروب تسهم في إعداد الفريسة كي تلتهمها الوحوش الاقليمية والدولية. ثم ينكب العرب كالعادة في تحليل أسباب النكبة، ويختلفون حول هذه الأسباب، وقد يتقاتلون فيما بينهم، ثم تتحول هذه النكبة إلى فصل في كتاب النكبات العربية الممتدة منذ الثورة العربية الكبرى، أي قبل مائة عام وحتى الآن.                                         

     لقد تسبب الربيع المزعوم في اندلاع حروب عبثية في  أربع دول عربية، وهي سوريا وليبيا واليمن. وأسهم في اندلاع أعمال إرهابية في مصر وتونس ولبنان والجزائر والأردن والبحرين والكويت والسعودية. ويمكن إيضاح هذه الرغبة الجامحة في تلقي الهزائم من خلال عرض تطورات الحالات السورية والليبية واليمنية والعراقية.                            

أولاً- الحالة السورية:

تشارك أطراف عربية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في حرب عبثية منذ أكثر من خمس سنوات. ومن الغريب أن يتباكى بعض من هؤلاء على مقتل عشرات أو مئات الألوف من السوريين وتشريد الملايين والقضاء على سورية، وطناً وشعباً وحضارة وثقافة واقتصاداً .

     وتنقسم مواقف الدول العربية من الأزمة السورية إلى ثلاثة مواقف؛ يتبنى أصحاب الموقف الأول استمرار الحرب حتى القضاء على نظام بشار الأسد؛ ويدعم الموقف الآخر استمرار النظام مع بعض التعديلات حفاظاً على الدولة السورية، بينما لا يبدي أعضاء الموقف الثالث والأخير اهتماماً بالأزمة، أو لا يوجد لديهم  موقف محدد من الأزمة. وقد تبنت جامعة الدول العربية موقف المجموعة الأولى، حيث علقت عضوية سورية في الجامعة، وسمح لأحد ممثلي المعارضة بالحديث أمام الجامعة ، دون منح الائتلاف المعارض حق تمثيل الدولة السورية.

   وبعد أكثر من خمس سنوات من اندلاع الحرب الأهلية السورية، لا يبدو لدى الأطراف العربية أي رشادة في التعامل مع هذه الأزمة؛ بل لعل بعض المواقف العربية قد أسهمت، عن قصد أو عن جهل أو عن كليهما، إلى إطالة أمد هذه الحرب الطاحنة التي لا توجد أي مبررات منطقية لاستمرارها.

          وبالرغم من الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبها نظام الأسد؛ فلا يمكن أن يكون من مصلحة أي من العرب الاصرار على إطاحة الأسد، حتى لو كان الثمن، حتى الآن، قتل أكثر من ربع مليون سوري، معظمهم من المدنيين، وتشريد أكثر من نصف الشعب السوري. وليس لمعظم الضحايا، من القتلى والجرحى والمشردين داخل سورية وخارجها والمدمرة بيوتهم، أي علاقة لا بالأسد ولا بمعارضيه. وبينما يقيم الأسد وأركان حكمه في مقار الرئاسة والحكومة، و ينعم المعارضون له بإقامة فاخرة في تركيا والعواصم الأوروبية والعربية، يقف السوريون "المحظوظون" من المشردين صفوفاً في انتظار الصدقات والمعونات والطعام لأطفالهم في مخيمات لا تقيهم لا قيظ الصيف ولا جليد الشتاء. بينما ينتظر آخرون إما الموت غرقا، أو الانتظار في معسكرات اعتقال على الحدود بين الدول الأوربية، عسى أن "تتفضل" بعض هذه الدول  بالسماح لعدد محدود منهم بالعبور إلى الجنة الأوروبية الموعودة.

 

    وكما هي عادة العرب منذ الحرب العالمية الأولى، يتقاتل أحفاد بكر وتغلب، وعلي ومعاوية، والأمين والمأمون؛ كي تتحقق أهداف أعدائهم من غير العرب. فقد قاتل العرب في الحرب العالمية الأولى لكي تقتسم بريطانيا وفرنسا العراق والشام، ويظفر اليهود بوطن قومي في فلسطين. وتقاتل العرب على أرض اليمن في ستينيات القرن العشرين، كما شهدوا حرباً باردة ضارية فيما بينهم، انتهت باحتلال اسرائيل ما تبقى من فلسطين وشبه جزيرة سيناء والجولان. وتقاتل العرب على الأراضي اللبنانية قرابة خمسة عشر عاماً في حرب عبثية، وتخلل هذه الحرب الاحتلال الاسرائيلي المؤقت  لبيروت والاحتلال الطويل للجنوب اللبناني، وقد تسببت الحرب في نفوذ قوي لإيران جعلها لاعباً رئيسياً في السياسة اللبنانية، بسبب "سلاح المقاومة" الذي يحتكره حزب الله خارج إطار الجيش اللبناني وقوى الأمن اللبنانية. وقد استخدم هذا السلاح في احتلال بيروت واختطاف القرار السياسي اللبناني، والذي وصل ذروته في شغور منصب رئيس الجمهورية اللبنانية حتى يرضى حزب الله. ولا مانع من استخدام "سلاح المقاومة" إذا رغبت إيران في ذلك، ودون التنسيق مع الدولة اللبنانية، كما حدث عام 2006، حيث هلل الكثيرون من العرب آنذاك لحزب الله "البطل" وصموده في مواجهة الاحتلال، بالرغم من إشعاله هذه الحرب لحسابات إيرانية. ولم يستخدم "سلاح المقاومة" منذ 2006 وحتى الآن، لأن إيران لا ترغب في ذلك.

لقد تسببت الحرب الأهلية السورية، وما تزال، في خسائر هائلة لمعظم السوريين، باستثناء أعداد محدودة من مناضلي الفنادق السوريين ومن النخب العربية المرتبطة بأعداء العرب الدائمين. وكان بعض من أبرز مناضلي الفنادق السوريين من أركان النظام السوري قبل اندلاع الأزمة وبعدها. بينما حققت كل من تركيا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية، وما تزال تحقق، كثيراً من  المكاسب، مع استمرار الأزمة وتصاعد القصف والقصف المضاد.

    فمن ناحية، أصبحت إيران أحد اللاعبين الرئيسيين على الساحة السورية، إن لم تكن اللاعب الرئيسي، ووصل نفوذها حداً لا سابق له. ولم تتردد طهران في الإعلان عن مشاركتها المباشرة في القنال إلى جانب الجيش السوري، إلى جانب المشاركة الواسعة من مقاتلي حليفها الرئيسي، حزب الله اللبناني. وكانت دمشق بالطبع إحدى العواصم العربية الأربعة التي تشدق أحد المسؤولين الإيرانيين بأنها تدار من طهران.

      ومن ناحية أخرى، إذا كانت إيران قد عززت نفوذها على الساحة السورية من خلال الدعم غير المحدود للنظام السوري؛ فقد أثرت تركيا الاضطلاع بدور مماثل من خلال مساندة معارضي النظام واستضافة معظمهم في أراضيها، والترويج لهم لدى الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء الغربيين، إلى جانب تقديم دعم عسكري لبعض الفصائل المقاتلة ضد النظام. ومن ثم، أصبح استمرار النظام مزيداً من تبعية دمشق لطهران، بينما يعني سقوط النظام تبعية دمشق لأنقرة .

   ومن ناحية ثالثة، ترقب اسرائيل الأوضاع عن كثب، وهي ترى الجيش السوري يتمزق وفي سبيله للحاق بنظيره العراقي ، وهما الجيشان العربيان اللذان كانا العمود الفقري لما سمي الجبهة الشرقية والشمالية بالنسبة لإسرائيل. وتحتفظ إسرائيل بما تعتبره حقها في شن غارات داخل الأراضي السورية، في حالة تحريك أو نقل أسلحة أو قوات ثمثل، من وجهة نظرها، تهديداً لأمنها القومي، سواء أكانت هذه القوات سورية أم تابعة لحزب الله اللبناني. وتعتقد إسرائيل أن إطالة أمد القتال يمثل مكسباً صافياً لها، حيث يحقق أهدافها دون أن تطلق طلقة واحدة. وبغض النظر عن النتائج التي ستنجم بعد نهاية هذه الحرب، أن انتهت، فلن تقوم للدولة السورية، حال استمرارها، قائمة لعقود قادمة.

     وفيما يتعلق بالقوى العظمى والكبرى، فقد حققت كل منها مكاسب، مع اختلاف الدرجة. سواء تعلق الأمر بروسيا بوتين التي أتاحت لها الحرب السورية الفرصة السانحة للعودة  بقوة إلى مسرح الأحداث الدولية على بعد آلاف الأميال من الحدود الروسية، وخارج المجال الحيوي الروسي.  ووجدت إدارة أوباما في الحرب السورية فرصة جديدة للانتقام من العرب الذين أفشلوا "الربيع العربي المدعوم أمريكياً"، والقضاء على، أو على الأقل إضعاف، النظام السوري الذي كان لفترة طويلة على اللائحة الأمريكية لداعمي الإرهاب، وتوثيق عرى الصداقة مع حلفائهم أكراد العراق وسورية، دون أقرانهم في تركيا وإيران. ولم يختلف الموقف الأوروبي كثيراً عن موقف الحليف الأمريكي.

   لم يفوت القيصر الروسي الجديد الفرصة، ولم يتوقع أحد لا من أعداء النظام السوري ولا من مؤيديه، أن يصل التدخل الروسي في الحرب السورية حد مشاركة القوات الروسية في المعارك بطريقة مباشرة وكثيفة ومعلنة. وكان البعض قد نظر إلى التدخل الروسي في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم بالقوة، باعتباره تدخلاً يقع في المجال الحيوي أو في الحديقة الخلفية للاتحاد الروسي. لكن التدخل في سورية كان خارج هدا الإطار. وترتب على ذلك أن أصبحت روسيا اللاعب الرئيسي في الأزمة السورية، باعتبارها صاحبة النفود الأقوى على نظام الأسد. ولا يمكن تصور مستقبل سورية دون دور حاسم للاتحاد الروسي. وإذا كان بعض السوريين والعرب من معارضي الأسد قد منوا أنفسهم بأن التدخل الروسي كان مرده إلى السعي لمساومة الغرب على العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، فلم يحدث تغيير جوهري في الموقف الروسي الداعم للأسد، حيث وجد الروس في هذا التدخل مناسبة لإعادة قدر من أمجاد الحقبة السوفييتية، وفرصة لأن يعلم الجميع أن روسيا ماتزال قوة عالمية يجب الاعتداد بها.

       ومن ناحية أخرى، لم تكن إدارة أوباما مترددة ولا متخبطة، كما انتقدها معارضو النظام السوري الذين راهنوا على الغزو الأمريكي لسورية كي يزيح الأسد ويضعهم على مقاعد السلطة في دمشق. لقد وجدت إدارة أوباما في استمرار الحرب السورية فرصة للقضاء على الجيش السوري أو على الأقل إضعافه إلى اقصى درجة ممكنة، لصالح حليفتها إسرائيل. ووجدت فيها أيضاً فرصة لانتقال مقاتلي التنظيمات "المتطرفة" من العراق وأفغانستان؛ ووجدت فيها أيضاً تعويضاً لها عن  تراجع ربيعها العربي المزعوم وانتكاس فوضاها غير الخلاقة في المنطقة. وقد اكتفت الولايات المتحدة بدعم حلفائها الأكراد، بالرغم من رفض حليفها التركي لتلك الخطوة، على أمل أن يسهم ذلك مستقبلاً في إعادة تقسيم سورية وكل المنطقة ان أمكن.  

  ومن ثم، يتضح بعد أكثر من خمس سنوات من حرب شرسة تتسم بالجنون أن كلاً من الأطراف الإقليمية (إيران وسورية وإسرائيل) والدولية (الاتحاد الروسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، قد عززت نفودها وعظمت مصالحها وحققت مكاسب صافية. ومن الناحية الأخرى، من المؤكد أن الشعب السوري، بمختلف جماعاته وطوائفه، سواء أكان من مؤيدي النظام أو من معارضيه أو كان محايداً، قد تكبد خسائر بشرية ومادية فادحة، بغض النظر عن مستقبل سورية بعد انتهاء الحرب، حال انتهائها. وكما هي العادة، لا يكترث أمراء الحرب الذين يذكون لهيبها، من النظام ومن المعارضة، بحجم القتل والدمار الدي لحق ببلدهم، ولا باللاجئين والمشردين من أبناء الشعب السوري، ما داموا يقيمون في قصور أو في فنادق مكيفة، وينعمون بعيشة رغدة على حساب معاناة شعبهم، وبأموال أطراف اقليمية ودولية تحقق الحرب أهدافها.

ثانياً- في الحالة الليبية:

 كانت القوى الغربية قد استغلت قرار مجلس الأمن المدعوم عربياً بحماية المدنيين الليبيين وقامت بغزو الأراضي الليبية وأسقطت نظام  القذافي وقتلته. وقد شهدت ليبيا منذ سقوط القذافي تحولات "درامية" تتسق مع تداعيات "الربيع الأمريكي المزعوم". فقد دعمت الولايات المتحدة والقوى الغربية جماعات ليبية محددة، منذ سقوط القذافي، وأبت إلا أن يحكم هؤلاء، سواء رغب الشعب الليبي في ذلك أم لا. وقد سيطرت شراذم من ميليشيات استولت على بعض أسلحة الجيش الليبي  الثقيلة على المدن الليبية الرئيسية، بما في ذلك طرابلس العاصمة، وبدا المشهد وكأن الجيش الليبي قد انقسم إلى عدد من الجيوش المتحاربة، مع افتقار معظمها، إن لم يكن كلها، لأي  درجة من درجات الانضباط العسكري.

وقد شهدت المدن الليبية الرئيسية على يد الميليشيات مشاهد مرعبة لا تحدث في الدول. وبعد سنوات خمس من "الربيع"، اختفت الدولة الليبية، ووجد في ليبيا برلمانان وحكومتان. وبالرغم من الاعتراف الدولي ببرلمان بنغازي وبالحكومة المنبثقة عنه وبالجيش التابع لها، فقد آثرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون استمرار البرلمان المنتهية مدته في طرابلس والحكومة المنبثقة عنه الرافضة الاعتراف ببرلمان وبحكومة وبجيش بنغازي، مع استمرار قرار حظر تصدير السلاح إلى ليبيا الذي يعني استمرار ضعف الجيش الليبي الرسمي لصالح الميليشيات المسيطرة على مدن الغرب الليبي وفي مقدمتها العاصمة. وقد ترتب على هذه الأوضاع تمدد لمقاتلي داعش في مدينة سرت وبعض المناطق الليبية الأخرى.

        ومن الواضح أن بعضاً من القوى الاقليمية والدولية حققت وتحقق مكاسب هائلة، وكما هي العادة على حساب العرب ، على الساحة الليبية هذه المرة . فقد  كانت القوى الغربية صاحبة اليد الطولى على الساحة الليبية منذ سقوط القذافي. وقد سعت إلى ترتيب الأوضاع بما يضمن تعزيز مصالحها في هذه الدولة العربية الغنية بالنفط وذات الساحل الطويل جنوب المتوسط في مواجهة القارة الأوروبية. وقد نجحت القوى الغربية مؤقتاً خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط القذافي، حيث سيطرت القوى الاسلامية وحلفاؤها على البرلمان المؤقت والحكومة المؤقتة بدعم من، أو بتنسيق مع، الميليشيات المسلحة؛ وبتأييد لا محدود من القوى الغربية ومن بعض الحلفاء الاقليميين والعرب.

    وعندما أجريت انتخابات للبرلمان، ولم يحظ حلفاء الغرب بأغلبية تمكنهم من تشكيل الحكومة، تظاهرت القوى الغربية وحلفاؤها الاقليميون بالاعتراف بهذا البرلمان الشرعي وبالحكومة الشرعية المنبثقة عنه؛ لكنها أعاقت قدرة هذه الحكومة المعترف بها دولياً على بسط سيطرتها على كامل الأراضي الليبية عن طريق حظر تصدير السلاح إلى الجيش الليبي الشرعي في الشرق، ليستمر المجلس المنتهية مدته والحكومة المنبثقة عنه في ممارسة سلطاتها في العاصمة طرابلس مدعومة من الميليشيات المسيطرة على المدن الليبية في الغرب.   

        وبعد فترة طويلة من عدم الاستقرار، تمدد خلالها تنظيم داعش في الأراضي الليبية في ظل وجود برلمانين وحكومتين وجيش وعدة ميليشيات، دعمت القوى الغربية ما سمته "حكومة الوفاق"، بحيث تحل محل الحكومة المنتهية ولايتها في طرابلس والحكومة المنتخبة، والتي لم تستطع ممارسة سلطاتها في بنغازي. ومن الواضح أن الأطراف الليبية المقربة من القوى الغربية هي الأقوى تمثيلاً في حكومة الوفاق الجديدة. ومن ثم، سعت القوى الغربية منذ سقوط القذافي، وماتزال، إلى تعزيز نفوذها في ليبيا الغنية بالنفط ، معتمدة على أطراف ليبية وعربية، كما هي العادة على الدوام.

لقد فقدت ليبيا سمات "الدولة" منذ أكثر من خمس سنوات، وثمة معارك طاحنة تدور بين أطراف متعددة تمتلك ترسانة من الأسلحة الثقيلة، وتحدث بعض هذه المعارك داخل المدن. ولا يوجد أي مظهر من مظاهر الدولة التي توجد بها سلطة تمارس سيادتها على إقليم الدولة، كما تقول كتب السياسة. لقد فقدت السلطة التي تتمتع بالسيادة، وهي أحد أركان الدولة القومية الحديثة، ولم تستطع لا الحكومات المؤقتة ولا الحكومتان المتنازعتان على السلطة في بنغازي وطرابلس، ولا ما يسمى بحكومة الوفاق ممارسة هذه السيادة على إقليم الدولة الليبية. وها هي دولة عربية نفطية أخرى تنضم إلى العراق في المعاناة من أوضاع اقتصادية سيئة، وتتسم بكونها أحد أمثلة "الدول الفاشلة".

        ويبدو أن ليبيا قد أصبحت "دولة تحت الوصاية الدولية"، وتتفاوض القوى الدولية (الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية) فيما بينها على أفضل وضع لليبيا يحقق مصالحها، كما فعلت بعد الحرب العالمية الأخيرة، بعد أن أجبروا الإيطاليين على الانسحاب من الأراضي الليبية. ويبدو أن هذه القوى الغربية لم تتوصل بعد إلى الصيغة التي تضمن لها تعزيز مصالحها. ولذلك، سمحت بالاعتراف بحكومة بنغازي، وتركت حكومة طرابلس تمارس عملها من طرابلس، وأصرت على استمرار حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وغضت الطرف عن ممارسات الميليشيات المسلحة. وجاءت الطامة الكبرى مع فرض "حكومة الوفاق" من الخارج والطلب من البرلمان الليبي منحها الثقة، وإلا فرضت عقوبات على الأشخاص الذين يعرقلون ذلك!!! أكثر من هذا، دخلت "حكومة الوفاق" طرابلس على أسنة رماح الميليشيات، وستظل ممارستها لعملها رهناً برضا الميليشيات عنها.

 ثالثاً- الحالة اليمنية:

في الحالة اليمنية، كان اليمن، الذي كان سعيداً، مسرحاً من مسارح "الربيع الأمريكي المزعوم"، لكن ربيعه كان ربيعاً مختلفاً. فقد توافقت أطراف عربية ودولية فاعلة على الساحة اليمنية على تغيير جزئي للنظام في اليمن. وقد تمثلت أهم هذه التغييرات في تنحي رئيس الجمهورية وترشيح نائبه مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية، وتشكيل "حكومة توافق" نصفها من أعضاء حزب الرئيس السابق، واستمرار البرلمان الذي يسيطر عليه أعضاء حزب الرئيس السابق، والذي استمر رئيساً للحزب. وقد مُنحت إحدى "الناشطات" اليمنيات جائزة نوبل للسلام، تعبيراً عن امتنان مانحي الجائزة  لنجاح "الربيع اليمني". وقد فشلت هذه الصيغة، المدعومة عربياً ودولياً، خلال المرحلة الانتقالية في تحقيق أي مظهر من مظاهر "الربيع". ووجدت إيران ضالتها في الميليشيات الحوثية التي اندفعت نحو العاصمة صنعاء وسيطرت عليها وعلى معظم الأراضي اليمنية، متحالفة مع الرئيس السابق وجزء من الجيش اليمني الذي ظل يدين بالولاء للرئيس السابق ونجله.

وتمكن الرئيس اليمني من الفرار إلى عدن ، وتكون تحالف عربي لدعم الحكومة الشرعية من خلال شن عمليات عسكرية على قوات الحوثيين والرئيس السابق. ومرة أخرى، تعرضت المدن اليمنية للتدمير من خلال القصف والقصف المضاد من الطرفين وازداد تدهور الاقتصاد اليمني المتداعي أصلاً. وبعد عام ونصف من الحرب، توجد حكومتان في اليمن تحارب كل منها الأخرى، إحداهما في صنعاء والأخرى في عدن. وتحظى كل منهما بدعم أطراف عربية وإقليمية ودولية.

رابعاً- الحالة العراقية:

ظلت معظم الأطراف العربية تسعى لإسقاط نظام صدام حسين منذ ارتكابه خطيئة غزو الكويت عام 1990. وبعد حصار قاسٍ عانى منه الشعب العراقي، وليست النخبة الحاكمة، لثلاثة عشر عاماً، أقدمت الولايات المتحدة على غزو العراق وأقامت سلطة احتلال فاقت ما تمتعت به سلطات الاحتلال البريطاني والفرنسي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وكما هي عادة العرب، فقد هلّل كثير منهم للاحتلال الأمريكي للعراق، ونسوا أو تناسوا أن القضاء على نظام صدام سيعني بالضرورة نفوذاً طاغياً لإيران في عراق ما بعد صدام، وما بعد انسحاب القوات الأمريكية الغازية، وهو ما حدث بالفعل. ولم تتحول العراق إلى "درة للديمقراطية" في المنطقة كما زعم المسؤولون الأمريكيون وبعض من حلفائهم من  العرب  "الليبراليين"؛ بل تحولت إلى بؤرة للطائفية وللعنف وساحة لنشأة وتمدد "دولة الخلافة" والتي ارتكب منتسبوها مجازر مروعة في المناطق التي سيطروا عليها.

وبالرغم من الدعم الأمريكي والإيراني غير المحدود، ما يزال العراق بعد ثلاثة عشر عاماً دولة تخلو من سلطة تبسط سيادتها على جميع أجزاء الدولة. وتكفي الإشارة إلى اقتطاع تنظيم داعش أجزاء واسعة من الأراضي العراقية، بلغت ذروتها في احتلال مدينة الموصل، إحدى أكبر المدن العراقية وإعلانها عاصمة لدولة الخلافة الاسلامية. ويرسخ إقليم كردستان العراق أقدامه كدولة في طريقها للانفصال عن الدولة العراقية المركزية، ليكون دولة مستقلة. ومن ناحية أخرى، لم تتوقف أعمال العنف في معظم  المدن العراقية منذ الغزو الأمريكي عام 2003.

وثمة أعمال عنف أقل حدة في كل من مصر (شبه جزيرة سيناء)، وتونس (على الحدود التونسية الليبية)، ولبنان (في الشمال وعلى الحدود اللبنانية السورية)، والسودان(دارفور)، وفي مناطق متفرقة وعلى فترات متباعدة في كل من والبحرين والجزائر والكويت والسعودية والأردن.   

بعد أكثر من  خمس سنوات من الربيع المزعوم وأكثر من ثلاث عشرة سنة من الغزو الأمريكي للعراق، تحولت المنطقة العربية إلى كتلة من اللهب. ولا يبدو أن ثمة ضوءً في نهاية النفق. وإذا كانت هزيمة يونيو/حزيران 1967 قد ألقت بظلالها الكئيبة وبأثارها شديدة السوء على المنطقة العربية بأكملها لما لا يقل عن ربع القرن، ولم تنجح حرب أكتوبر سوى في تقليل حجم الآثار الكارثية لها، فمن المؤكد أن الآثار الكارثية للربيع المزعوم ستفوق آثار هزيمة يونيو/حزيران إلى حد بعيد. ويكمن الفارق الجوهري بين النكبتين في كون الأولى قد حدثت نتيجة دور أساسي وواضح من قِبل أعداء العرب من الخارج؛ فإن هذه النكبة قد حدثت، وما تزال تحدث آثارها شديدة السوء، بالأساس على أيدي فئات عربية؛ وإن كانت مدعومة بالطبع من جهات إقليمية ودولية.

لقد خرجت جميع القوى الإقليمية غير العربية (إيران وتركيا وإسرائيل) والدولية (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وباقي دول الاتحاد الأوروبي) من الربيع المزعوم محققة مكاسب هائلة؛ إلى جانب الطوائف غير العربية (لاسيما الأكراد في العراق وسورية والأمازيغ في ليبيا والجزائر والمغرب والطوارق والتبو في ليبيا) ، أو غير السنية (لاسيما الشيعة في كل من العراق ولبنان وسورية والبحرين وباقي دول الخليج).

لم يتغير العرب، ولا يبدو أنهم سوف يتغيرون على الأقل في المستقبل المنظور. لقد استمرأ العرب الهزائم، واستمرأوا التقاتل مع غيرهم او فيما بينهم، لكي يحقق أعداؤهم المكاسب والمغانم، وتكون الكوارث والنكبات من نصيب العرب. وبعد أن يتلقى العرب نكبة جديدة، ينكب المحللون والمعلقون والكتاب العرب على تحليل عوامل النكبة، وعادة مايتم تبرير النكبة بسعي "أعداء العرب" إلى إضعاف العرب وإيقاع الهزيمة بهم. ومن شأن استمرار العرب في التركيز على سعي أعدائهم لهزيمتهم، دون البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة في العوامل العربية الداخلية، وفي العلاقات العربية -العربية؛ أن يجعلهم عرضة للمزيد من الهزائم أو النكبات، وأن يضاعف من أعداد المتخصصين في تفسير النكبات، أو بالأحرى في تبريرها بردها إلى العوامل الخارجية.

ومن الغريب، ولا أقول من السذاجة، أن يتوقع العرب أن يعمل الآخرون، لاسيما من الأعداء، لتحقيق المصالح العربية. لقد ضاعت فلسطين، وما يزال بعض العرب يتحدثون عن "الكيان المزعوم"، الذي يسعى العرب للحصول على موافقته على إقامة دولة فلسطينية على اثنين وعشرين بالمائة من فلسطين التاريخية. وفي ظل هذه الأوضاع المتردية، يتصارع الفلسطينيون على "الإدارة الذاتية" في الضفة الغربية وقطاع غزة، في ظل الاحتلال الاسرائيلي. وذهبت الصومال أدراج الرياح، وتحولت إلى "دولة فاشلة" منذ أكثر من ربع القرن. وها نحن ننتظر أن تتحول دول عربية أخرى إلى دول فاشلة.

ومن المثير للدهشة أن العرب ما فتئوا يفاخرون بأمجادهم التاريخية، في ظل هذه النكبات والكوارث. ولا ريب أن العرب يعيدون بدقة أشد وبعنف أقوى وبدموية غير مسبوقة  تكرار حروب البسوس، وداحس والغبراء، وحروب الردة، والفتنة الكبرى، والأمين والمأمون، وحروب الخوارج والشيعة إبان الدولتين الأموية والعباسية، وحروب الأيوبيين فيما بينهم، وحروب ملوك الطوائف في الأندلس. ومن ثم، لم يكن من المفاجئ أن يطل عليهم من يدعي إنشاء "دولة الخلافة الاسلامية"؛ كي تكتمل الصورة المظلمة "للربيع المزعوم".

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟