المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

هل هو انقلابٌ على أردوغان أم انقلابٌ قام به أردوغان على الدولة التركية؟

الأحد 24/يوليو/2016 - 01:33 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. شريف درويش اللبان

ما حدث في تركيا سوف يتم تدريسه كنموذج للانقلابات العسكرية في عصر المعلومات؛ ما بين الممارسات الجيدة والمماسات الرديئة، سواء للرئيس والحكومة المنتخبة أو العسكريون الانقلابيون. فمن المفارقات أن هذا الانقلاب قد تم التمهيد له بتغريدتْين على موقع التدوينات المصغر "تويتر" لاثنيْن من أنصار جماعة فتح الله جولان والمسماة "الكِيان الموازي"

كانت التغريدة الأولى من نصيب الأستاذ الجامعي "إمره أوسلو" المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية: "هؤلاء الذين يريدون دفع ثمن تذكرتي للعودة إلي تركيا، رجاء اشتروها بين 22 يوليو و12 أغسطس تعرفون بريدي الإلكتروني"، أما التغريدة الثانية فكانت من نصيب "طونجاي أوبتشين" في 14 يوليو الجاري قبل محاولة الانقلاب بيومٍ واحد: "سوف يدخلون عليهم في أسِرة بيوتهم، ويعلقون مشانقهم في الفجر في إشارة منه لما سيحدث عقب أحداث الانقلاب". وهكذا ولأول مرة في تاريخ الانقلابات العسكرية يتم تسريب معلومات عن الانقلاب قبل وقوعه عبر شبكات التواصل الاجتماعي. 

أولاً: صراعٌ على السلطة بين فصيلين دينيين في دولة علمانية:

الغريب في الأمر من الناحية المعلوماتية أيضًا، أن الصراع على السلطة لم يكن بين العلمانية التي يحميها الجيش التركي منذ حُكم مصطفي كمال أتاتورك وبين التراجع عن هذه العلمانية من قِبل أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" الذي يُعد أحد المكونات المهمة للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان، بل كان الصراع في الأساس بين فصيليْن يوظفان الدين لخدمة مصالحهما في السيطرة على مقاليد الحُكم في البلاد، فصيل أردوغان الإخواني وظهيره الشعبي والمؤسساتي وفصيل فتح الله جولان الصوفي وظهيره العسكري الذي تربى على أفكاره. 

ثانيًا: إنقلابٌ حقيقي أم مسلسل تركي هابط:

الأمر الثالث هو أنه من المستحيل ألا تكون الاستخبارات التركية والموساد والمخابرات المركزية الأمريكية وحلف الناتو قد رصدت ما يتم التدبير له بليْل داخل جناح من الجيش التركي، وبالتالي فإن ثمة معلومات أصبحت لدى أردوغان عن هذا الانقلاب قبل وقوعه، مكنته من وضع سيناريو محكم للتعامل معه وإفشاله، بدءًا من الاختفاء عن الأنظار في إجازة غير محددة المكان، ولجوئه إلى استخدام تطبيق "فيس تايم" Face Time على أجهزة "آي فون" من شركة "أبل" الأمريكية، لمخاطبة الشعب التركي و"ميليشيات" حزب "العدالة والتنمية" إلى الشوارع، ومن خلال قناة تليفزيونية فضائية خاصة في ظل سيطرة الانقلابيين على التليفزيون الرسمي، علاوة على عودته الدراماتيكية وهبوط طائرته الرئاسية في مطار اسطنبول بعد تأمين المطار، بل وإلقاء كلمة للشعب من داخل المطار، وقيامه صبيحة اليوم التالي بإرسال رسالة نصية إلى الشعب التركي يحثه على الحفاظ على الشرعية.

الأمر الرابع أنه ليس من المستبعد أن الامر برُمته لا يعدو سوى مسرحية كبيرة تم إخراجها والتحريض عليها بعلم أردوغان نفسه، لكي يتمكن من القضاء على أعداء الداخل من العسكريين والمعارضين والقضاة والإعلاميين، وأعداء الخارج والذي يمثل أشدهم ضراوة فتح الله جولان مؤسس حركة "الكِيان الموازي"، المقيم ببنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي قدمت حكومة أردوغان طلبًا رسميًا إلى الولايات المتحدة بتسليمه إليها، وإذا لم تقم بتسليمه فإنها ستصبح عدوًا لتركيا، وهى لهجة غير معتادة بين تركيا وحليفتها. 

ثالثًا: زيادة حدة العداء بين تركيا ومصر:

الأمر الخامس والأخير والأكثر أهمية بالنسبة لمصر أن عداوة تركيا لمصر في الفترة القادمة قد تزداد ضراوة لأكثر من سبب، أولها أن قيادات جماعة الإخوان والتنظيم الدولي للإخوان قد تنفسا الصعداء بعد فشل الانقلاب المزعوم، مما سيؤدي بهم إلى انتهاج لهجة وأعمال عنف تصعيدية ضد مصر، والأدهى من ذلك أن يتم تصدير المسرحية الهزلية التركية أو المسلسل التركي الردئ من وقوف "الشعب" الأعزل أمام الدبابات في شوارع تركيا لحماية الشرعية واستسلام العسكريين المسلحين للمدنيين العزل إلى الداخل المصري، وهى "الهرتلة" التي بدأ يتم تداولها بالفعل على شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، والتي أغلقها أردوغان صباح اليوم التالي للانقلاب المزعوم..!.

ولكن المسلسل التركي الردئ لن ينطلي على الشعب المصري العظيم الذي يقف إلى جوار قواته المسلحة وشرطته صفًا واحدًا أمام المؤامرات التي يُحيكها الأعداء للنيْل منا. 

رابعًا: انهيار وهم استعادة الإمبراطورية العثمانية:

تمثل ليلة الخامس عشر من يوليو 2016 تاريخًا فاصلاً بالنسبة للدولة التركية رئيسًا وشعبًا وجيشًا وتجربةً كان البعض يعول على نجاحها واستنساخها في دول الربيع العربي ولاسيما جماعات الإسلام السياسي.. ببساطة لقد انفجرت بالونة أردوغان الفارغة في الجميع، ولم يكن هذا الانفجار مفاجئًا للجميع، وخاصةً للمتابعين للشأن التركي المأزوم في الفترة التي أعقبت انهيار قطع الدومينو الإخوانية في تونس ومصر وسوريا والسودان.. أمصار وولايات الخلافة الأردوغانية المزعومة للخليفة الواهم رجب بن طيب أردوغان..!.

لقد يمم أردوغان وجهه قِبَلَ المشرق لاستعادة الخلافة العثمانية التي انهارت في العام 1924، ولم تجد من يأسى عليها سوى نشوء جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928 والمطالبة بعودة الخلافة التي لم تذق مصر والبلاد العربية من ورائها سوى الفقر والجهل والجوع وتجريف الكفاءات المصرية في كل المجالات إلى الأستانة ليشيدوا دولة الخلافة. ورأى أردوغان في أوهام الجماعة القديمة متنفسًا له للزعامة وأن يعود خليفةً للمسلمين وتعود تركيا دولةً للخلافة، بدلاً من أن تكون مجرد دولة عضو في الاتحاد الأوروبي التي حفيت قدماه من أجل أن ينال رضاه ، إلا أن جهوده ذهبت هباءً منثورًا.

ليلة 15 يوليو الماضي لم تكن ليلةً عادية من الليالي الجميلة في أحضان البوسفور في سهرة ليلة صيفٍ رائعة، بل كانت ليلة سقط فيها كل شئ في الدولة التركية المتداعية، سقطت فيها أحلام أردوغان في إعادة الخلافة الإسلامية في العام 2024 بمناسبة مرور 100 عام على غياب شمس الإمبراطورية العثمانية؛ لا تدعوا سُعار أردوغان عقب المحاولة الانقلابية يدُخل في روعكم أنه الرجل القوي في تركيا، بل إنه الرجل الضعيف المرتعش الذي سينظر خلفه كلما مضى في طريق، سيتحسس مسدسه كلما كان في مكان يفتقد فيه إلى الأمان، سيراجع خلفيات حرسه الشخصي الذين سيتشكك فيهم، سيؤمن موكبه الرئاسي في الأرض وفي السماء بشكلٍ يعكس خوفه من المجهول.. لقد سقط أردوغان في دوامة الخوف من الانقلاب عليه مثله مثل رئيس أية دولة في القرن الأفريقي أو في أمريكا اللاتينية، ولم لا وتركيا لها تاريخ طويل في الانقلابات، لم يكن ماحدث أولها ولن يكون آخرها. 

خامسًا: انقسام المجتمع التُركي:

أسوأ ما حدث في تلك الليلة التي ستطارد أردوغان في كوابيسه – إن استطاع أن ينام بعد تلك الليلة – انقسام تركيا بفضله ما بين مؤيد لما حدث وبين من هو معارض له، لا تصدقوا أن الجيش فقط أو جناحًا منه هو الذي كان مشاركًا في الانقلاب، فإذا كان هذا هو ما حدث، فلماذا قام أردوغان بعزل مئات القضاة؟، ولماذا يقوم أردوغان بفصل كل هؤلاء العسكريين؟، ولماذا يُخضع مؤسسات الدولة للبحث والتحري عمن يدعمون ما حدث في تلك الليلة؟. لا شك أن "الانقلاب" لم يكن عسكريًا فقط، بل كانت له جذوره الشعبية والمؤسساتية التي يحاول أردوغان الآن اجتثاثها، لأنه يعلم جيدًا أن الانقلاب الفاشل لابد أن يعقبه آخر ناجح في ظل حالة القلق وعدم الاستقرار التي دخلتها تركيا بعد 15 يوليو، والدليل على ذلك طلب أردوغان من أنصاره عدم مغادرة الشوارع لاحتمال القيام بمحاولة أخرى للانقلاب على ديمقراطيته المزعومة، وقيامه بإعلان حالة الطوارئ في اسطنبول الإثنين الماضي وإصدار الأوامر بقصف أية مروحية تحلق دون إذن في أجواء المدينة.

والأسوأ من ذلك أن أردوغان اتخذ قرارات من شأنها تعميق الأزمة التركية وانقسام المجتمع التُركي في الفترة القادمة من أهمها: إقالة نحو 15 ألف مدرس عن العمل في تركيا، للاشتباه في تورطهم في محاولة الانقلاب وارتباطهم بجماعة "فتح الله غولن" ، كما طالب مجلس التعليم العالي في تركيا بإقالة 1577 هم كل رؤساء وعمداء الجامعات التركية. وكانت السلطات التركية أعلنت في وقت سابق عن إقالة 100 من العاملين في جهاز الاستخبارات، و 257 من الموظفين في رئاسة الوزراء على الخلفية ذاتها. ويقدر عدد العاملين في مكتب رئيس الوزراء بنحو 2600. وأعلنت مديرية الشؤون الدينية، وهي أعلى سلطة دينية في البلاد عن عزل 492 من الموظفين العاملين فيها، فيما أعلن مسؤول بوزارة المالية أن الوزارة أوقفت نحو 1500 موظف عن العمل للسبب ذاته.. هذا بخلاف ما حدث للجيش وعدد كبير في الشرطة بتركيا؛ حيث تم إلقاء القبض على 6 آلاف عنصر من الجيش منهم قيادات عسكرية رفيعة، وتسريح 12 ألف عنصر آخر، وتسريح 9 آلاف عنصر من الشرطة التي وقفت إلى جوار أردوغان ضد الانقلاب المزعوم، هذا عد رجال الدين والموظفين المدنيين، ناهيك عن إدراج أكثر من مليون مواطن تركي على قوائم الممنوعين من السفر، وهى الإجراءات التي أدانها الاتحاد الأوروبي والويات المتحدة الأمريكية، وخاصةً بعد تعطيل أردوغان العمل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها تركيا.

ومن بين الأمور التي تدعو للانقسام في المجتمع التركي في ذروة الغليان الذي يشهده المجتمع التركي ما أعلنته هيئة الشؤون الدينية التركية، أعلى سلطة إسلامية في البلاد الثلاثاءالماضي أن الانقلابيين الذين قتلوا خلال محاولة الانقلاب الفاشلة سيحرمون من صلاة الجنازة. وأوضحت في بيان لها، "لن يكون هناك مأتم" للعناصر الذين قتلوا في صفوف الانقلابيين، مضيفة أن "هؤلاء الأشخاص من خلال أعمالهم، لم يدوسوا فحسب على حقوق الأفراد، بل على (حقوق) شعب بكامله، وهم بالتالي لا يستحقون الصلوات".

وعلاة على هذا، هناك اتجاه لإعادة عقوبة الإعدام إلى تركيا بعد إلغائها بسنوات كنوع من الغزل للاتحاد الأوروبي للانضمام إليه، حيث يحظر الاتحاد الأوروبي مثل هذه العقوبة التي تهدد حقًا من حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة، وهو ما سيجعل تركيا منبوذة من دول الاتحاد من جهة، وقبولها حق اللجوء السياسي للأتراك المعارضين لأردوغان لأن إعادتهم إلى تركيا يمثل خطرًا على حياتهم من جهةٍ أخرى، ومطالبة الاتحاد الأوروبي بالاطمئنان على أحوال الين اعتقلهم أردوغان في أعقاب الانقلاب المزعوم.

سادسًا: ما بين ضياع هيبة الجيش التركي وتغلغل الإرهابيين في مفاصل الدولة:

ليلة 15 يوليو كانت ليلة سوداء داكنة في تاريخ الجيش التركي والعسكرية التركية لن يمحو أثرها إلا رحيل أردوغان على يد هذا الجيش، لقد أُهينت هيبة العسكرية التركية إهانة بالغة لم تتلقاها منذ عصر الإمبراطورية التي حققها هذا الجيش بدمائه وتضحياته، إياكم أن تتصوروا تشبيه أردوغان لمن حاولوا إزاحته عن الحكم لإضراره بالهوية التركية هم الإرهابيون، بل من تصدوا للجيش في الشوارع والطرقات هم الإرهابيون الحقيقيون الذين آواهم أردوغان من داعش والإخوان والذين يتلقون تدريباتهم العسكرية في تركيا قبل الالتحاق بميادين القتال في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وما فعله هؤلاء الإرهابيون هو ردٌ للجميل لحليفهم التركي وخليفتهم المُنتظر، ولن ينسَ الجيش التركي إذلاله على يد هؤلاء الإرهابيين وزعيمهم، بعد ما لطخ أردوغان الزي العسكري التركي في أوحال الإرهاب الذي إن حماه اليوم فلن يحميه إلى الأبد.

سابعًا: بوادر الانهيار للاقتصاد التركي المتداعي:

ومن الناحية الاقتصادية، هوت الليرة التركية إلى أقل معدل لها في تارخها بعد الإصلاحات المالية والاقتصادية التي أجرتها حكومة حزب العدالة والتنمية عند صصعدها للحكم في أواخر عَقد التسعينيات أثناء أحداث 15 يوليو، وهى مرشحة لمزيد من الخسائر، علاوة على أن السياحة الروسية التي كانت قد بدأت بالفعل من خلال تنظيم عدة رحلات إلى أنطاليا، انحسرت مرةً أخرى بإرسال روسيا طائراتها لإجلاء السياح الروس من هناك، لاعتبار روسيا تركيا دولة غير مستقرة، وفي مثل هذه الأحوال يحجم الاستثمار عن الذهاب إلى دولة ذات مناخ غير مستقر لأن رأس المال جبان لا يذهب إلى مثل هذه البلدان.

أضف إلى ذلك أن وكالة "ستاندارد آند بورز" قام بتخفيض النظرة المستقبلية للاقتصاد التركي من "مستقرة" إلى "سلبية" قبيل إعلان حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر قادمة، وأرجعت الوكالة ذلك إلى الوضع السياسي الراهن في البلاد وتأثيره على الاستثمار في البلاد، ومن المتوقع أن تُلقي إعلان حالة الطوارئ بالبلاد بمزيد من الظلال الكثيفة السوداء على مستقبل الاقتصاد في ظل وضعٍ سياسي قلق ومضطرب. 

إن الأسوأ في تركيا لم يأتِ بعد.. ويجب ألا يشكو من يحرق أصابعه بالنار إذا كان قد أدمن اللعب بها، وليعلم أردوغان إن "المتغطي بالإرهاب عريان"، وأن الإرهابيين من دواعش وإخوان إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.. وسوريا والعراق وليبيا واليمن ليست عنا ببعيد، وتركيا للأسف تحت حكم ذلك الأرعن ستسقط على أيديهم عما قريب.   

إن ما حدث في تركيا لم يكن انقلابًا على أردوغان بقدر ما هو انقلاب لأردوغان على الدولة التُركية يتهدد هويتها العلمانية التي ارتضتها لنفسها منذ عهد مصطفي كمال أتاتورك، وتهدد الجيش التركي والشرطة التركية اللتين تحميان الدولة داخليًا وخارجيًا، ويضعهمها أردوغان في مواجهة بعضهما أمام بعض من جهة، ويضعهما في مواجهة مع إرهابيي داعش وميليشيات حزب "العدالة والتنمية" من جهة أخرى. إن ما حدث في تركيا ليست هذه نهايته بل على الأرجح إنها مجرد بداية يعقبها أحداث ونهايات دراماتيكية متسارعة ستسفر عنها الأيام والشهور القادمة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟