المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مسار مفخخ: فقاعة تركيا في طريقها إلى الانفجار

الخميس 09/فبراير/2017 - 04:32 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د.محمد السعيد إدريس

اكتسب المشروع السياسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا مكانته وجدارته ضمن المشاريع الأخرى لتجارب "الإسلام السياسي" من ترويجه لمعادلة سياسية، تأكد زيفها، تجمع بين الديمقراطية والعلمانية والإسلام السياسي. وعندما وصل هذا الحزب إلى الحكم في أنقرة عام 2001 دخل في حوارات جادة مع الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص لدعم التوجه الإستراتيجي التركي للحصول على عضوية هذا الاتحاد من منطلق أنه، وإن كان يعتنق الإسلام السياسي ضمن مرتكزاته، إلا أنه يتفرد بالجمع بين الإسلام والديمقراطية، وأنه يقدم تجربة عملية للعالم كله وللغرب بصفة خاصة إن الإسلام قادر ليس فقط على التعايش مع الديمقراطية بل والقبول بها جزءاً من مكوناته. كما أن هذا الحزب كان حريصاً على التزام منطق "التقية" في التعامل مع المجتمع التركي المشبع بالتجربة الكمالية الأتاتوركية، حيث روج لإيمانه بالعلمانية، وأنه سوف يحكم تركيا من هذا المنطلق، والأكثر من ذلك أن رئيسه رجب طيب أردوغان كان حريصاً دائماً على نفي أن حزبه حزب إسلامي، ويؤكد أنه حزب ديمقراطي مؤمن بالعلمانية.

كان الحزب وقياداته حريصين على ترسيخ هذه المفاهيم لدى الغرب الأوروبي والأمريكي، خصوصاً بعد أن بدأ يخوض معركة تقليص نفوذ وعلاقة الجيش التركي بالسلطة، قدم هذه الخطوة على أنها استجابة لمطالب الاتحاد الأوروبي لقبول تركيا في عضويته، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك، كان الهدف هو التفرد بالسلطة، بل وأسلمة الجيش، وجاءت التجربة الانقلابية الفاشلة في العام الماضي لتعطي الفرصة كاملة للقصاص والثأر من الجيش وقياداته، وتحويله إلى أحد أدوات حزب العدالة والتنمية، ولفرض سيطرة الحزب الواحد، والقضاء نهائياً على المعارضة السياسية، والآن جاء دور تعديل الدستور والتحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي كي يتمكن رجب طيب أردوغان من أن يفرض نفسه "سلطاناً" بدون عمامة على تركيا غير عابئ بخطورة الانحدار بتركيا إلى مستنقع "الدولة البوليسية السلطوية".

عندما قررت الولايات المتحدة عام 2005 أن تتحالف مع "الإسلام السياسي" في الشرق الأوسط باعتباره القوة الوحيدة المؤهلة لتكون بديلاً للحلفاء التقليديين في المنطقة وأنظمة حكمها الفاشلة من منظور واشنطن خصوصاً بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001، اختارت أن تتحالف مع "إسلام مدني.. ديمقراطي" حسب المزاعم الأمريكية حينذاك، ورفضت كل نماذج الإسلام السياسي في المنطقة باعتبارها غير ملائمة للمهمة خاصة النموذج السعودي (التقليدي) والنموذج الإيراني (الطائفي) والنموذج الطالباني (الإرهابي)، حسب التوصيفات الأمريكية، واختارت النموذج التركي انطلاقاً من قناعة خاطئة، أو إدراك خاطئ، مرتكز على ما روجه حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة بأنه يتميز على كل نماذج حكم الإسلام السياسي بتفرده في الجمع بين الديمقراطية والعلمانية والإسلام السياسي. الآن هذا كله أخذ يتداعى أمام طموحات رجب طيب أردوغان السلطوية.

بدأت "الفقاعة" تنفجر أمام كل الإجراءات الاستبدادية لزعيم الحزب الذي يسعى إلى تحويل هذه الإجراءات من استثنائية إلى قانونية من خلال التعديلات المقترح إجراؤها على الدستور التركي، وعندما ستنفجر هذه "الفقاعة" التي كانت تخفي تحتها الانبهار والاندهاش بالتجربة "الإسلامية الأردوغانية التركية" عربياً ودولياً، فإن النموذج المرتبك سوف يسقط بسبب التورط التركي في الصراعات الإقليمية خاصة في سوريا والعراق وليبيا، وارتداد الإرهاب الذي رعاه أردوغان عليه، ولكن الأخطر هو انشطار المجتمع التركي عرقياً وطائفياً وتشظي وحدته الوطنية، وهذه هي، على ما يبدو، النتيجة الحتمية لمثل هذه التجارب المتدثرة بالدين والقائمة على الانتقائية والمفاضلة  بين المواطنين على حساب احترام مبادئ المواطنة المتساوية، والحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمواطنين.

مظاهر الانحدار كثيرة كان آخرها تلك لاشتباكات العنيفة التي وقعت داخل البرلمان منذ أيام بين نواب محسوبين على الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" والمعارضة أثناء التصويت على التعديلات الدستورية المقترحة، وقبلها كانت التفجيرات الدامية التي تحدث بين حين وآخر وكان آخرها انفجار أحد الملاهي الليلية ليلة احتفالات رأس السنة الميلادية، واعتقال صلاح الدين ديميرطاش زعيم "حزب الشعوب الديمقراطي" والزعيمة المشاركة للحزب فيفن بوكسيداغ وعدد كبير من نواب الحزب وأعضائه، ثم تورط النيابة التركية بطلب سجن ديميرطاش لمدة تصل إلى 142 سنة، وسجن بوكسيداغ لمدة تصل إلى 43 سنة، وأحكام مشابهة للنواب أعضاء الحزب المعتقلين بتهمة الارتباط بحزب العمال الكردستاني التركي المحظور والمتهم بالإرهاب، وهي تهم نفاها المتهمون، ثم التراجع الكبير في سعر الليرة التركية وإرجاع ذلك إلى مزاعم حكومية لتدخلات في الأسواق من قبل عناصر وصفتهم الحكومة بالإرهابيين، والآن جاء دور فرض تغيير الدستور وتهديد أردوغان للمعارضة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة إذا هي لم توافق على ما يريده من تعديلات، اعتقاداً منه، أنه هو وحده من يملك الشارع التركي الآن، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وأنه من يملك وحده فرض تمديد حالة الطوارئ، وإجراء الانتخابات في ظل حكم الطوارئ، ما يعطي للحكومة فرصة محاصرة أي دعاية انتخابية للمعارضة، ومن ثم الفوز الكاسح في أية انتخابات في ظل هذه الظروف التي تعمل كلها لصالح حزب العدالة والتنمية.

بسبب هذه التهديدات اضطرت المعارضة للرضوخ إلى ضغوط مناقشة البرلمان للتعديلات الدستورية المقترحة من الحكومة التركية، وبدأ البرلمان فعلاً (9/1/2017) حيث شارك 480 نائباً في هذه الجلسة صوت منهم 338 لمصلحة مناقشة مواد الدستور المقترح تعديلها لتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي حسب رغبة رجب طيب أردوغان، في حين رفض 134 نائباً هذه المناقشة، وامتنع نائبان عن التصويت، وأدلى خمسة بأوراق فارغة، واعتبر صوت واحد باطلاً، ومن ثم فقد حظى اقتراح المناقشة بالموافقة، وامتدت عملية التصويت على المواد المقترح تعديلها وتم بالفعل في جلسة السبت (21/1/2017) الموافقة داخل البرلمان على تلك التعديلات ومن ثم فإنها سوف تحال التعديلات إلى الرئيس للتوقيع عليها، ثم يعرض على استفتاء شعبي بقرار من الرئيس نفسه.

وقفت المعارضة ضد إقرار هذه التعديلات بصلابة خاصة حزب الشعب الجمهوري أمام طغيان حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية الذي تحالف بانتهازية فاضحة مع حزب العدالة والتنمية متضامناً معه عنصرياً ضد حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، وهذا التحالف هو الذي مكن أردوغان من فرض مشروعه لتعديل الدستور، الذي تعتبره المعارضة كارثة وطنية لأسباب كثيرة.

فهذه التعديلات التي تم فرضها شديدة الخطورة، فهي سوف تلغي مبدأ "الفصل بين السلطات"، كمبدأ أساسي لأي نظام حكم ديمقراطي، حيث تعطي التعديلات للرئيس والحكومة (السلطة التنفيذية) التغول على اختصاصات السلطة القضائية. فالرئيس سيعين وفقاً لما هو مقترح من تعديلات 12 قاضياً في المحكمة الدستورية من أصل 15 قاضياً، وهؤلاء القضاة هم المنوط بهم محاكمة الرئيس في حال توجيه أي اتهامات إليه، ما يعني أنه حريص على تأمين نفسه من أي مساءلة، وفرض نفسه حاكماً مطلقاً فوق السلطات، خصوصاً وأن المقترحات تشمل أيضاً أن يعين الرئيس معظم أعضاء اللجنة العليا للقضاء وهي اللجنة التي تعين القضاة، وترقيهم وتقوم بنقلهم ومحاسبتهم، كما أنه هو من يعين وكلاء النيابة.

وتعطي التعديلات المقترحة سلطات للرئيس والحكومة (السلطة التنفيذية) على البرلمان (السلطة التشريعية) أيضاً، فهو الذي سيشكل الحكومة وليس البرلمان، كما كان في النظام الحالي (البرلماني)، ولن يكون للبرلمان حق التصويت بالثقة على الحكومة، ولن تكون هناك أية استجوابات للوزراء إلا خطياً، وستكون للرئيس سلطة حل البرلمان في حال سعى البرلمان إلى إصدار قوانين أو تعديلات دستورية تحد من سلطات الرئيس.

وفضلاً عن ذلك تعطي التعديلات الدستورية المقترحة للرئيس حق أن يكون زعيماً لحزب سياسي، كما تنص على إجراء الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية معاً، ما يعني ربط نتائج الانتخابات البرلمانية بالرئاسية، ما يعني تحويل تركيا إلى دولة "الحزب الواحد" والقضاء على المعارضة، والأهم هي دولة الرئيس المطلق.

التحول بتركيا إلى دولة مستبدة سلطوية تأكدت في تبجح رئيس الحكومة بن علي يلدريم في كلمة ألقاها أمام البرلمان في جلسة التصويت على البدء في مناقشة المقترحات الخاصة بتعديل الدستور (9/1/2017)، عندما قال أنه يعتقد أن "الشعب سيوافق على التعديلات الدستورية عندما تعرض عليه ليفتح الطريق أمام تركيا لترتقي إلى مستوى الحضارات الحديثة"، مفارقة غير مسبوقة أن تكون الدولة المستبدة السلطوية هي دولة الحضارة الحديثة.. هكذا دائماً الدول التسلطية!!

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟