المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

أوروبا في مفترق طرق: قراءة في نتائج الانتخابات الهولندية

الخميس 30/مارس/2017 - 03:21 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوار

لم يشهد العالم اهتماماً بانتخابات عامة في هولندا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كتلك التي شهدتها الانتخابات العامة الأخيرة التي جرت في منتصف مارس 2017. السبب في ذلك أن الإنتخابات الأخيرة كانت مؤشراً مهماً لقياس مدى قوة التيار "الشعبوي" الجديد الذي يجتاح العالم كالوباء، وترتفع فيه شعارات الإنعزال القومي، والكراهية ضد الآخرين خصوصاً المهاجرين واللاجئين الهاربين من جحيم الحروب والصراعات المسلحة خصوصاً في أفريقيا والشرق الأوسط، والميول الحمائية التجارية والتراجع عن الإندماج العالمي والإنسحاب من ظاهرة العولمة، إضافة إلى التعصب الديني ضد المسلمين.

في الأشهر الأخيرة شهد العالم صعود التيار الشعبوي بقوة على جانبي الأطلنطي وحقق ذلك التيار نجاحين كبيرين، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وبينما اهتزت العلاقات عبر الأطلنطي وعبر العالم اهتزازاً كبيراً بعد هذين النجاحين، فقد ساد الترقب في أوروبا انتظاراً لنتائج الانتخابات العامة الهولندية في مارس ثم الانتخابات الفرنسية في أبريل، وبعدهما الانتخابات الألمانية في سبتمبر من العام الحالي. ونظراً لأن استطلاعات الرأي العام في هولندا على مدار الاثني عشر شهراً الأخيرة كانت تشير بقوة إلى تقدم الشعبويين بقيادة حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز، فقد ساد القلق في كل الأوساط الأوروبية خشية نجاح اليمين المتطرف في هولندا، وهو ما قد يعطي دفعة للمرشحة اليمينية ماريان لوبان في انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة، ثم التيار الشعبوي اليميني في ألمانيا فيما بعد. ومع أن استطلاعات الرأي العام خلال الأيام العشرة الأخيرة السابقة للتصويت في الانتخابات الهولندية راحت تشير إلى تقهقر التأييد لحزب الحرية اليميني المتطرف، فإن القلق استمر يراوح في مكانه حتى ساعات التصويت الأولى يوم 15 مارس.

ملاحظات أساسية على الانتخابات الهولندية

ومع نشر نتائج عينات المقابلات مع الناخبين بعد خروجهم من مقار لجان التصويت، بدأت في الظهور علامات مبشرة أزالت الكثير من مشاعر القلق، ليحل محلها شعور بالراحة والطمأنينة، حتى انتهت عملية التصويت وبدأت إجراءات الفرز وعد الأصوات. وكانت النتائج النهائية مطمئنة إلى حد كبير من الناحية السياسة إذ حل حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز في المركز الثاني بعدد 20 نائباً في البرلمان الذي يتكون من 150 نائباً بينما جاء حزب الشعب للحرية والديمقراطية الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي مارك روتيه في المركز الأول بعدد 33 نائباً وهو ما يجعله أكبر أحزاب البرلمان ويؤهله لقيادة عملية تشكيل الحكومة المقبلة، خصوصاً وأن حلفاءه في الائتلاف الحكومي (يمين الوسط) تمكنوا أيضاً من تحقيق نتائج معقولة. ويطمح مارك روتيه أن يتمكن خلال الأسابيع المقبلة من تشكيل حكومة قوية نسبياً تحصل على ثقة البرلمان.

لكن أكبر نتائج الانتخابات أهمية كانت فوز حزب الخضر اليساري بزعامة الشاب جيسي كلافير (30 سنة) بـ 14 مقعداً في البرلمان، متقدماً بمقدار 10 مقاعد مقارنة بما كان حققه الحزب في الانتخابات العامة السابقة عام 2012. ويعتبر الانتصار الذي حققه  كلافير، الذي دخل البرلمان للمرة الأولى وقد بلغ 24 عاماً، هو أكبر انتصار حققه أي حزب هولندي في الانتخابات الأخيرة. ولم تكن أهمية انتصار حزب الخضر اليساري فقط في أنه ضاعف قوته البرلمانية ثلاث مرات ونصف (من 4 مقاعد إلى 14)، لكن أهميته تمثلت أيضاً في أنه الحزب الذي تصدر قائمة الفائزين في العاصمة أمستردام.

وكلافير هو ابن لأب مغربي مهاجر وأم من أصل إندونيسي، اعتمد في حملته الانتخابية على وسائل التواصل الإجتماعي وعلى الإتصال المباشر بالناخبين بمساعدة كتيبة رائعة من الشباب الذين اصطفوا وراءه رافعين شعارات المواجهة ضد التيار اليميني المتطرف. وكانت لقاءات جيسي كلافير الجماهيرية تلهب حماس الناخبين بشعارات مثل: إرفع رأسك ودافع عن مصالحك، دافع عن أوروبا الموحدة، دافع عن حق المهاجرين، و دافع عن الطبيعة التي تهبك الحياة. كانت رسالة جيسي كلافير للناخبين تتكون من ثلاث كلمات هي: التسامح، المساواة، المحافظة على سلامة البيئة. وفي مواجهة تليفزيونية مع زعيم اليمين المتطرف خيرت فيلدرز رد على اتهامات فيلدرز للإسلام قائلاً: إن وجود الإسلام في هولندا ليس مشكلة، وإنما مشكلة هولندا تتمثل في وجود من هم على شاكلة فيلدرز. إن انتصار حزب الخضر اليساري يمثل الوجه الآخر الإيجابي لظاهرة تراجع الأحزاب التقليدية في أوروبا أمام تقدم التيار الشعبوي.

خسارة اليمين، وتصاعده أيضاً

وعلى الرغم من عدم تمكن حزب الحرية اليميني المتطرف من الحصول على أكثرية تؤهله لقيادة الحكومة المقبلة، فإن النتائج التي حققها الحزب، مقارنة بما حققته الأحزاب السياسية الأخرى في هولندا تبعث على القلق. لقد استطاع حزب فيلدرز الفوز بعدد 20 مقعداً في البرلمان الهولندي، بزيادة 5 مقاعد عما كان قد حققه في الانتخابات العامة السابقة. وهذا يعني أنه على الرغم من المشاعر القوية ضد شعاراته السياسية، ضد أوروبا الموحدة، ضد المهاجرين، ضد الإسلام، فقد تمكن من زيادة قدرته التصويتية في البرلمان بنسبة 30% وهو ما يجعله بشكل مباشر وغير مباشر لاعباً خطيراً في السياسة العامة الهولندية.

ويتضح من متابعة الحملة الانتخابية أن الحزب تمكن بالفعل من دفع أحزاب يمين الوسط جميعاً إلى تبني شعارات سياسية قريبة جداً من تلك التي تبناها حزب الحرية، خصوصاً فيما يتعلق بالمهاجرين. وقد جاء هذا التقدم الذي أحرزه حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز على الرغم من نسبة الإقبال الهائلة على التصويت في الإنتخابات والتي وصلت إلى أكثر من 80% من عدد الناخبين. وكان من المعتقد أن زيادة الإقبال على التصويت سيعني حرمان الحزب المتطرف من بعض المقاعد التي كان يشغلها في البرلمان.

ولذلك فإن نتائج الانتخابات الهولندية، على الرغم من أنها ساعدت على ظهور حالة من الطمأنينة بين معظم زعماء أوروبا خصوصاً ميركل في ألمانيا وأولاند في فرنسا، إلا أنها تعتبر مؤشراً على استمرار خطورة التيار الشعبوي اليميني المتطرف في أوروبا. ومن ثم، فإنه من الخطأ الاعتقاد بأن نتيجة الإنتخابات الهولندية تمثل هزيمة لليمين الشعبوي في أوروبا. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده فيلدرز بعد إعلان نتائج الانتخابات سخر زعيم الحزب اليميني المتطرف من أولئك الذين ادعوا أن حزبه خسر في الانتخابات. وقال إن حزبه استطاع إضافة 5 مقاعد إلى قوته البرلمانية ليحقق 20 مقعداً، في حين أن الحزب الذي جاء في المركز الأول، أي حزب الشعب للحرية والديمقراطية، خسر 7 مقاعد ليهبط نصيبه في البرلمان من 40 مقعداً في البرلمان السابق إلى 33 مقعداً فقط في البرلمان الجديد. وسوف يسعى حزب الحرية اليميني المتطرف الذي خاض الانتخابات مستنداً إلى ثلاثة شعارات: ضد أوروبا، ضد المهارجين، ضد الإسلام، إلى أن يشكل مع أحزاب اليمين الأخرى في البرلمان كتلة معارضة قوية سيعمل لها الائتلاف الحاكم ألف حساب. وسوف تترك أحزاب اليمين بصمتها بكل تأكيد على سياسات هولندا المقبلة خصوصاً فيما يتعلق بالمهاجرين والعلاقات مع أوروبا، وربما يضاف إلى ذلك أيضاً سياسات دمج المسلمين في المجتمع الهولندي.

ويستفيد التيار الشعبوي اليميني المتطرف في هولندا من القلق الذي يسيطر على الناخبين، خصوصاً العمال والفقراء والمهمشين، فيما يتعلق بقضايا العمل والأجور والتفاوت الإجتماعي وغيرها. وبسبب هذه المخاوف فقد استطاع اليمين الشعبوي أن يخلق ارتباطاً بين معاناة هذه الفئات وبين تدفق اللاجئين ومخاوف انتشار الإرهاب. ويشعر الناخبون من العمال والفقراء أن الحكومات المختلفة لا تأبه لمتاعبهم وآلامهم، ولا تهتم بمصالحهم، وإنما يهتم السياسيون فقط بمصالحهم ومصالح أحزابهم. ويروج اليمين الشعبوي شعارات قوية ضد المؤسسات وضد الحكومات وضد الأحزاب التقليدية التي تداولت الحكم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية متهماً إياها بأنها لم تفعل شيئاً للحد من ظاهرة التفاوت أو لرفع مستوى المعيشة الحقيقي للعمال وللفقراء. وتقترب هذه الشعارات من عقلية الفئات الإجتماعية البسيطة المهمشة التي ترى الحياة في صورة أبيض وأسود فقط.

وتشير الدراسات الإجتماعية والإقتصادية في هولندا إلى أن متوسط الإستهلاك (الإنفاق) الحقيقي لللأسرة العادية ما يزال حتى الآن أقل عما كان عليه منذ عشر سنوات، وذلك على الرغم من أن هناك أقلية محدودة جداً زادت ثروتها بمعدلات صارخة خلال الفترة نفسها. كذلك تشير هذه الدراسات إلى أن هولندا، على الرغم من كون اقتصادها يتمتع بقدرات تنافسية ومقومات قوة متنوعة، فشلت حتى الآن في الحد من فجوة التفاوت وانعدام المساواة بين الفئات الإجتماعية المختلفة، الأمر الذي بات يمثل ظاهرة متعددة الجوانب؛ فهناك التفاوت الحاد بين كبار السن وبين الشباب الباحثين عن فرص عمل ملائمة، وهناك التفاوت بين البيض وبين غير البيض، وهناك الفجوة بين أصحاب المهارات العلمية والتكنولوجية العالية وبين الأشخاص العاديين الذين تقل فرص تشغيلهم في قطاعات الاقتصاد المتقدم سنة بعد أخرى. ولهذا، فإن الرسائل الشعبوية التي يروجها سياسيون مثل ترامب وفيلدرز وماريان لوبان تجد من هؤلاء المهمشين آذاناً صاغية.

 وزاد من تأثير الشعبويين أنهم بارعون في استخدام تكنولوجيا الاتصالات الحديثة خصوصاً السوشيال ميديا، وتركيزهم على موضوعات سطحية واستخدامهم شعارات ديماجوجية بسيطة مفهومة للأغلبية المهمشة. كذلك زاد من قوة الشعبويين لجوء بعض الأحزاب والجماعات السياسية إلى التركيز في برامجها على قضية واحدة أو شعار واحد فقط، بدون ربط مع بقية القضايا العالقة التي يعاني منها الناخبون.

إن نتائج تصويت الناخبين الهولنديين في الانتخابات العامة الأخيرة تشير بقوة إلى إنهم لم يغفروا لحزب العمال الهولندي مواقفه المتخاذلة خلال فترة ائتلافه مع يمين الوسط في الحكومة، ومساندته لسياسات تخفيض مخصصات المعاشات والرعاية الصحية. وتؤكد النتائج أن حزب العمال كان أكبر الخاسرين في الانتخابات، إذ تردى تمثيل الحزب في البرلمان لينكمش إلى 9 نواب فقط مقابل 38 نائباً في البرلمان السابق، وهو ما سيجعل حزب الخضر اليساري هو أكبر الأحزاب اليسارية تمثيلاً في البرلمان.

الجالية المسلمة في هولندا

تعتبر بلجيكا وهولندا وفرنسا من أكبر الدول الأوروبية احتضاناً للمسلمين الذين توطنوا هناك ويشاركون في كل نواحي الحياة. وفي هولندا يقترب عدد المسلمين من مليون مواطن (950 ألفاً) نسبة كبيرة منهم تتألف من المسلمين الأتراك والمسلمين المغاربة. لكن أهمية وجود الجالية المسلمة تزيد في مساهمتها في الحياة العامة عندما نعرف أنها تتركز في المدن الأربع الرئيسية في هولندا. ففي العاصمة أمستردام تبلغ نسبة المواطنين المسلمين 24% من السكان، وفي روتردام تبلغ نسبة المسلمين 25% بينما تنخفض النسبة قليلاً في لاهاي وأوتريخت إلى ما يتراوح بين 13% إلى 14%. وعلى الرغم من انخفاض مستوى معيشة السكان المسلمين بشكل عام، إلا أنهم يمثلون جزءاً مهماً من العمود الفقري للاقتصاد الهولندي خصوصاً في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات.

وقد تعرضت جالية المسلمين في هولندا لضغوط شديدة خلال الحملة الإنتخابية الأخيرة، لكنهم برهنوا من خلال مشاركتهم الواسعة في التصويت على شعور عارم بالمسؤولية تجاه المشاركة في تشكيل ملامح الحياة السياسية في هولندا. وكان النجاح الباهر الذي حققه حزب الخضر اليساري بقيادته الشابة وصعوده القوي في العاصمة أمستردام علامة من علامات الإنتصار من خلال المشاركة في العملية السياسية. وكما هو الحال بين المسلمين في كل أنحاء العالم فإن نشاط التيارات الإسلامية المتطرفة لا يتوقف عند حد. كذلك لعبت الأزمة السياسية الأخيرة بين تركيا وهولندا في إشعال فتيل لمحاولة النيل من وحدة وقوة الجالية المسلمة في هولندا. لكن هذه المحاولة لم تنجح ولم تنجر الجالية المسلمة في هولندا إلى حلبة الصراع السياسي بين الحكومتين الهولندية والتركية.

خاتمة- خطر قائم

ومع ذلك فإن نتائج الإنتخابات الهولندية تؤكد أن أوروبا ما تزال عند مفترق طرق بين التيار الشعبوي اليميني المتطرف وبين الاعتدال السياسي. وعلى الرغم من نجاح الناخبين الهولنديين في وقف تقدم اليمين المتطرف عند النقطة التي أبعدته حالياً عن تشكيل الحكومة، فإن احتمال تقدم ذلك التيار ما يزال قائماً. ولم تتمكن أوروبا حتى الآن من وضع استراتيجية واضحة المعالم لمواجهة خطر الشعبوية اليمينية. وليس أمام أوروبا غير ثلاثة خيارات أو المزج بين بعضها:

 الخيار الأول هو خيار التجاهل، وهو خيار خطير يترك الطريق مفتوحاً لتقدم اليمين الشعبوي المتطرف.

 أما الخيار الثاني فهو خيار التعاون أو المنافسة على نفس الأرضية السياسية، وهو الخيار الذي اتبعه عملياً مارك روتيه رئيس الوزراء الحالي الذي راح يقلد شعارات اليمين ولكن بصياغات مختلفة في مؤتمراته الانتخابية، خصوصاً في معادة اللاجئين.

أما الخيار الثالث فهو خيار المواجهة والمقاومة، وهو الخيار الذذي تبناه زعيم حزب الخضر اليساري جيسي كلافير واستطاع بواسطته أن يحصد أصواتاً لم يكن حزبه يحلم بها ولم يكن يتوقعها أحد من منافسيه.

إذن، فاستراتيجية جيسي كلافير ستضع حزبه على أرضية سياسية صلبة في السنوات المقبلة إذا استمر تمسك الحزب بها وتطويرها، وربما يستطيع حزب الخضر اليساري أن يصبح المنافس الأول للتيار الشعبوي وأن ينتصر عليه في الإنتخابات المقبلة، خصوصاً وأن فتى أمستردام المشاكس الذي يبلغ من العمر 30 عاماً فقط ما يزال أمامه الطريق مفتوحاً للمزيد من العطاء في مجالات السياسة الهولندية. 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟