المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

معارك المغالطات: وزير الصحة وأردوغان وتمثال المطرية

الأحد 02/أبريل/2017 - 04:13 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. أحمد موسى بدوي

نعم أتفق مع القارئ في أن مفردات العنوان تبدو متنافرة لا تربطها علاقة، سوى علاقة واحدة هي موضوع هذا المقال، ونعني بها معارك المغالطات، التي تعد من أهم المعارك التي استفادت من ثورة الاتصال وتأثيرها الطاغي في تشكيل الرأي العام والمواقف السياسية للجماهير. كيف ذلك؟

المغالطات وثورة الاتصال

المغالطة، في أبسط  تعريف هي التلاعب بالألفاظ  لطمس الحقائق، وهي قياس مركب من الأوهام الغرض منه إفحام الخصم أو إسكاته أو اجباره على تغيير موقفه، أو ترويج الاشاعة أو التنصل من المسئولية. لا توجد مشكلة لدى المغالطين في اللجوء للحيل الخطابية، من أجل التأثير في الرأي العام وحشد التأييد الجماهيري في المعارك السياسية. وغالبا ما تكون هذه المغالطات كالسم في العسل، لا يستطيع الانسان أن يكشفها بسهولة، إلا إذا كان متمرسا في المنطق والقياس، لأن في داخل كل مغالطة سر غامض يخفى عن الانسان العادي يدفعه لتصديق الخطاب المفخخ. فأحيانا يستخدم المتكلم أدلة غير صادقة تقود إلى النتيجة الوهمية التي يرغب في  اشاعتها بين الناس، وفي أحيان أخرى يستند إلى أدلة صادقة يخرج منها باستنتاجات خاطئة. لكن في كل الأحوال يتم تركيب المقدمات والنتائج تركيبا صحيحا من الناحية الشكلية.

المغالطات لها تاريخ قديم قدم الوجود الانساني، لكنها بعثت من جديد في عصر العولمة وثورة الاتصال، فما من شيء يرتبط بالحياة من اقتصاد وسياسة وعلاقات اجتماعية وأفكار ومعتقدات، إلا وأصبح عرضة للاستغلال عبر مغالطات الكلمة المدعوم بالصورة المزيفة أو المختزلة. ويزداد تأثير خطابات المغالطة في المجتمعات التي تنتشر فيها الأمية، أو تلك التي  فقدت حسها النقدي، عبر نظم تعليم رديئة وتقليدية. باختصار إن أية دعاية تقوم على المغالطات المتواصلة، تجعل الجماهير ترى الفردوس جحيماً، والجحيم هو الفردوس بعينه.

الشروط  المنطقية والاجتماعية لانتشار المغالطات

هناك عدة شروط  لانتشار المغالطات في عصر العولمة، أهمها: (1)  الحبكة الفنية للمغالطة، فلا بد أن تعتمد على الذكاء والحيلة، وألا تكون سطحية وساذجة، فتنكشف في أول اختبار. (2) والشرط الثاني والأهم: وجود أتباع مؤمنين بهذه المغالطة من بعض فئات المجتمع والنخب أصحاب المصالح، فهذه النخب أو الفئات يخدعون الناس مع سبق الاصرار والترصد، وانحيازهم للمغالطة يمثل قاعدة التصديق التي يستند إليها الجمهور. (3) الشرط الأخير هو وجود أدوات اتصال وتواصل كافية لتوسيع دائرة انتشار المغالطة، وحين يتوفر ذلك، يحدث تداعي بين الناس لتصديق الأكاذيب والاشاعات والتبريريات الوهمية، والتنبؤات المزيفة، فالجماهير لديها ميل غريزي لاعتناق الرأي السائد واسع الانتشار مهمها كان رأيا فاسدا أو مبنياً على المغالطات، وهو ما يسمى بظاهرة الانصياع والإذعان للرأي العام.

  وزير الصحة المصري ومغالطة تجاهل المطلوب

أثارت تصريحات الدكتور أحمد عماد وزير الصحة، جدلاً واسعاً بسبب حديثه عن مجانية خدمات الصحة والتعليم التي انتهجها  الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وأنها المسئولة عن  تدهور المنظومتين، والخدمة الصحية مكلفة والدولة غير قادرة. إن الوزير هنا يمارس مغالطة تجاهل المطلوب، والتنصل من المسئولية. مستخدماً حيلة الدليل الصحيح وهو أن خدمات الصحة مكلفة للغاية، وميزانية الصحة محدودة. ليصل منها الى استحالة أن تكون الخدمة الصحية مجانية، وتبدأ المغالطة باستنتاج أن عبدالناصر هو المتسبب في تدهور أحوال التعليم والصحة، وليس المسئول عن الصحة في عام 2017. وتجاهل الوزير المطلوب منه بالقضاء على منظومة الفساد والإهمال المتعمد داخل المؤسسات الطبية، ومسئوليته عن استغلال الامكانات المتاحة الاستغلال الأمثل لإعادة الثقة في الخدمة الصحية الحكومية.  

لكن السؤال لماذا لم تنتشر هذه المغالطة وما الذي دفع الوزير إلى التراجع والاعتذار؟ الاجابة لأن المغالطة  فقدت شرطها الاجتماعي، فلم تجد أتباعا مؤمنين بها، بل على العكس وجدت نخبة معارضة لها من اللحظة الأولى لانطلاقها، وهي النخبة التي استفادت من فرص الحراك الطبقي الذي دشنته المرحلة الناصرية بالتوسع في البنية الأساسية للتعليم والصحة ليستفيد منها كافة الفقراء وغير القادرين، وهنا تم توظيف أدوات ووسائل الاتصال بكافة أنواعها، من أجل نقد واستهجان مغالطة وزير الصحة، ما جعله مجبراً على التراجع والاعتذار.

 تمثال المطرية ومغالطة التعميم المتسرع

الأسبوعين الماضيين، شاعت على وسائل التواصل الاجتماعي بكافة أنواعها، وفي بعض برامج التوك شو على القنوات المصرية، خبر تهشم رأس التمثال الذي تم اكتشافه في منطقة المطرية بسبب الطريقة الخاطئة التي رُفِعَ بها من موقع الاكتشاف. وتناقلت هذه الوسائل صور رأس التمثال المنفصل عن الجسد وهو ملقى على جانب الحفرة، وربط ذلك بصور للونش الذي قام بعملية انتشال الجزء المنفصل في ايحاء على بشاعة وتخلف وسائل وزارة الاثار في التعامل مع هذا الاكتشاف الكبير. إنها مغالطة التعميم المتسرع، لا أحد يريد أن يفكر في احتمال أن يكون رأس التمثال كان منفصلا عن الرأس من لحظة اكتشافه. لا أحد من القائمين في وسائل الاعلام يريد الاستماع لرأي الخبراء المصريين أو الالمان المكتشفين للتمثال والمشرفين على عملية انتشاله، ولم تتطوع هذه القنوات بإرسال مراسليها إلى موقع الحدث لتحري الحقيقة. والمحصلة حالة من الضيق والغضب تسري في جنبات الرأي العام بكافة مستوياته.

والسؤال لماذا انتشرت هذه المغالطة انتشار النار في الهشيم وفي وقت قياسي؟ لسببين: (1)  القاعدة التي روجت للمغالطة في القنوات الفضائية انطلقت من دافع الاثارة واحداث السبق، استغلالا لحالة ذهنية مستقرة في وجدان المصريين، وهي عدم الثقة في الأداء الحكومي البيروقراطي على أي مستوى. (2) وتلقف الخبر قاعدة وسائل التواصل الاجتماعي، ونعني بها تحديدا اللجان الالكترونية المنظمة بكافة توجهاتها الايديولوجية والسياسية، فإشاعة مثل هذه المغالطة يصب في خانة تأكيد فشل الدولة المصرية في الإدارة. وإثارة المشاعر الوطنية بعد أن أهدرت أجهزة الحكومة قيمة هذا الاكتشاف ودمرته يد الإهمال. وحين تنبه البعض لخطورة هذا التعميم المتسرع، بدأنا نسمع رأي الخبراء، وعلى رأسهم زاهي حواس، ورئيس البعثة المصرية الالمانية، وانجلت الحقيقة.

أردوغان ومغالطة التلويح بالعَلَم ورفع المُصْحَف

المتابع للشأن التركي، يعلم أن تركيا تمر بمنعطف سياسي خطير خلال الايام المقبلة، وهو الاستفتاء على التعديلات الدستورية المعززة  لسلطات رجب طيب أردوغان، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، لا يتورع أردوغان عن استغلال المغالطة تلو الأخرى. لكن الملفت للنظر أن مغالطات أردوغان تستوفي شروط الانتاج والانتشار التي ذكرناها، فهي متقنة الحبكة من الناحية الفنية، لديها قاعدة جماهيرية مؤمنة (أعضاء حزب العدالة والتنمية)، وتحتكر  تقريبا جميع أدوات ووسائل الاعلام داخل تركيا.

فهل كان أردوغان في حاجة إلى تصعيد الأزمة الأخيرة مع الدول الأوروبية، وكيف استغل أردوغان هذه الأزمة في الترويج لمغالطات يجني منها حشداً أكبر لتعديلاته الدستورية؟

بداية عدد الناخبين الأتراك يتجاوز 56 مليون ناخب، منهم أقل من 2 مليون  يعيشون في أوروبا، وخاصة المانيا، ما يعني أن أردوغان ليس في حاجة ملحة لأصوات الاتراك في الخارج لكي يحسم معركة التعديلات الدستورية، ولكنه يحتاج إلى الأزمة مع أوروبا لترويج المغالطات وحشد أصوات الداخل عبر متغيرات جديدة تفرضها تطورات الأزمة. وهو يختار نوع المغالطة بعناية وحرفية يحسد عليها، كيف ذلك؟

        من المعلوم أن  كتلة الرافضين لهذه التعديلات تتكون من: الغالبية العظمى من الأكراد، وجانب كبير من الاسلاميين المنتمين لجماعة الخدمة، ونسبة معتبرة من حزب الحركة القومية، وهو حزب له توجهات عنصرية ضد الأكراد. ولكي يكسب أردوغان معركة الاستفتاء، يلجأ أردوغان إلى حيلة ومغالطة  التلويح بالعلم التركي، من أجل أصحاب النزعة القومية، ومغالطة التلويح برفع المصحف والهلال من أجل جذب أصوات الاسلاميين التي تسربت من بين يديه. فكيف وظف أردوغان الأزمة لترويج مغالطاته؟

         بعد رفض هولندا مشاركة وزراء أتراك في تجمعات دعم حملة للاستفتاء على التعديلات الدستورية، أطلق أردوغان تصريحاته النارية التي تتهم دول أوروبية، بينها ألمانيا وهولندا، بانتهاج سياسة نازية عنصرية ضد الأتراك. وهنا يلجأ إلى مغالطة التلويح بالعلم flag waving ، لكي يصل إلى نتيجة وسط هذه التحديات مفادها: يتعين علينا كأتراك أن ننسى خلافاتنا البسيطة، ونصوت للتعديل من أجل أن يظل العلم التركي خفاقا.

         وفي اطار حملته لحشد التأييد للتعديلات الدستورية، استغل أردوغان قرار الاتحاد الأوروبي بحظر ارتداء الحجاب في مكان العمل، وأطلق مغالطته الثانية التلويح برفع المصحف أو الهلال، بقوله: محكمة العدل الاوروبية يا أخواني، بدأت حملة صليبية ضد الهلال المسلم. اللجوء إلى هذه المغالطة، وترويجها وتصديقها يصب في خانة التصويت بنعم للتعديلات الدستورية، لأن  الوقوف في وجه أوروبا الصليبية يحتاج إلى قائد مسلم قوي له صلاحيات واسعة، وأن على الأتراك أن يتجاوزوا مشاكلهم  العرقية والسياسية، لان الدين في خطر والصليبيون على الابواب، ولابد من التصويت لمن يضمن استمرار الاسلام في تركيا والعالم بأسره.

خاتمة القول: إن المغالطات ظاهرة قديمة، بعثت من جديد في عصر العولمة وثورة الاتصال، ولها تأثير قوي في تشكيل الرأي العام وتزييف الوعي، وأحيانا تمارس دوراً فاعلا في تدمير المجتمعات،  وأنه من المهم أن ينتبه القارئ والمثقف العضوي إلى مثل هذه المغالطات بعقل نقدي منفتح، كما ينبغي على  الشخصيات العامة بكافة أنواعها الاقتناع بأن صناعة المستقبل، لا يمكن أن تتأسس على مغالطات لتحقيق  مكاسب ومصالح مؤقتة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟