المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

انتفاضة الأسرى ونظرية الأمن الإسرائيلية

الأربعاء 03/مايو/2017 - 03:17 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمد السعيد إدريس

في فلسطين المحتلة يستويان معاً "الوطن الأسير الذي جرى التآمر عليه واحتلاله بل واستلابه تماماً، والمواطن الفلسطيني الأسير القابع في المعتقلات والسجون الإسرائيلية لا لشيء إلا أنه لم يستطع أن يخلع روحه من وطنه، فكان لابد أن يكون أسيراً هو الآخر كما هو حال الوطن الأسير.

هذه العلاقة بين الوطن الأسير والفلسطيني الأسير هي التي تكشف أسرار وخفايا كل هذا العداء الذي لم يستطع قادة الاحتلال الصهيوني إخفاؤه وهم يعلنون عمق حقدهم وبغضهم لهؤلاء الأسرى المضربين عن الطعام وانتفاضتهم الباسلة بأمعائهم الخاوية التي لم يعد لهم غيرها من وسيلة يعلنون بها التمرد على الممارسات الجائرة لسلطات الاحتلال.

فعندما يطالب وزير "إسرائيلي" كبير بإعدام الأسرى الفلسطينيين رداً على إعلانهم الإضراب المفتوح الذي صادف "يوم الأسير الفلسطيني" (17/4/2017) فإن هذا الموقف بما يعكسه من "جنون في الوعي" يفضح أحد أهم أركان "نظرية الأمن الإسرائيلية"، التي تعتبر في واقع الأمر ليس مجرد نظرية أمنية، بل هي "نظرية الوجود الصهيوني" ذاته على أرض فلسطين. كل ما فعله الأسرى الفلسطينيون أن ما يقرب من 1500 أسير من كافة القوى الوطنية الفلسطينية يقودهم الأسير القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي المحكوم بالسجن مدى الحياة خمس مرات أنهم قرروا مقاومة الاحتلال والانتهاكات التي ترتكب بحقهم وبحق وطنهم بالإضراب عن الطعام، وأن الاسم الذي اختاروه لهذا الإضراب على نحو ما ذكر مروان البرغوثي هو "إضراب الحرية والكرامة" أملاً أن يكون هذا الإضراب "خطوة جديدة في درب حريتهم الطويل".

لهذا السبب كانت دعوة "يسرائيل كاتس" وزير الاستخبارات والنقل في الحكومة "الإسرائيلية" عن حزب الليكود إلى "إعدام هؤلاء الأسرى"، وطالب، عبر صفحته الرسمية على "توتير" بضرورة إعادة تفعيل مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، والتصويت عليه في الكنيست. هذا الموقف رغم خطورته، ليس موقفاً شخصياً متفرداً لهذا الوزير، لكن يبدو أنه موقف عام وسياسة مشتركة لدى حكومة الكيان، عبر عنه أكثر من مسؤول "إسرائيلي". فقد سبق أن طالب أفيجدور ليبرمان وزير الحرب الحالي بفرض قانون يقضي بتحويل المحاكم العسكرية إلى إنزال عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين.

السبب الحقيقي وراء كل هذه العدوانية الجنونية أن الأسير الفلسطيني هو رمز صمود الوطن الفلسطيني والتاريخ الفلسطيني وهم (الإسرائيليون) داخل الكيان وهم يخططون لفرض "خيار الدولة اليهودية الواحدة" على كل أرض فلسطين، حريصون على اجتثاث الوجود الإنساني والتاريخي والتراثي للشعب الفلسطيني، وإنهاء أي صلة للشعب الفلسطيني بهذه الأرض التي هي في نظرهم حق إلهي مطلق لهم وحدهم ودون منافس.

سياسة أو دعوة قتل الأسرى الفلسطينيين، هي ذاتها سياسة قتل المتظاهرين، وهدم المباني، والتوسع الاستيطاني، واقتلاع أشجار الزيتون، ورفض دعوة حل الدولتين، كلها سياسات ذات معنى واحد هدفها إنهاء وجود الشعب الفلسطيني كي تبقى "إسرائيل وشعبها وحدها على هذه الأرض "من النهر إلى البحر". فالإنسان الفلسطيني مستهدف كما هي الأرض الفلسطينية، لذلك كان منطقياً أن يأتي هذا القمع المنهجي لانتفاضة الأسرى متزامناً مع تصديق الكنيست الإسرائيلي بالقراءتين الثانية والثالثة في جلسة استثنائية على مشروع قانون التخطيط والبناء، وفقاً لتوصيات "لجنة كيمنتس" الذي يستهدف تسريع إجراءات هدم البيوت العربية بذريعة عدم الترخيص، حيث ينص هذا القانون على "فسح المجال للتسريع عبر الانتقال من الإجراءات القضائية إلى الإدارية"، وفي الوقت نفسه "إتاحة الإمكانية لإصدار أمر إداري لوقف مخالفة البناء وفرض غرامات مالية مجحفة على من يخالف من الفلسطينيين تصل إلى ما يعادل 195 دولاراً يومياً، بدلاً من الإجراءات القضائية في المحاكم. قانون هدفه الحقيقي تصفية هدم البيوت ومصادرة الأراضي لتفريغ الأرض من شعبها، كي لا يبقى عليها إلا اليهودي فقط.

وما يحدث للفلسطينيين خارج السجون والمعتقلات من إرهاب ومحاصرة وتضييق له أصداؤه داخل السجون وهذا ما حرص المناضل مروان البرغوثي على فضحه في مقاله الذي سربه إلى صحيفة نيويورك تايمز وأعلن خلاله عن قرار بدء إضراب الأسرى وأهدافه، وهو ما أثار جنون سلطات الاحتلال على مروان وكل الأسرى المضربين، وامتد السخط إلى صحيفة نيويورك تايمز لأنها نشرت صرخة الأسير.

ففي هذا المقال كان مروان البرغوثي حريصاً على أن يؤكد أن السنوات الـ 15 التي أمضاها في السجون الإسرائيلية خولته أن يصبح شاهداً وضحية لنظام الاعتقالات الجماعية العشوائية الذي تقدم عليه المنظومة الإسرائيلية غير القانونية بحق الفلسطينيين، وإساءة معاملتهم. وفي تبريره وتوضيحه للأسباب التي دفعته لإعلان الإضراب عن الطعام قال أنه "استنفذ جميع الخيارات الأخرى وقرر مقاومة هذه الانتهاكات بالإضراب عن الطعام"، كما أوضح أن ما يقومون به كأسرى مضربين "يعتبر من أكثر أدوات المقاومة المتاحة السلمية، فهي لا تلحق ضرراً إلا بمن يشاركون فيه، وبأحبائهم، على أمل أن تساهم أمعاؤهم الخاوية وتضحياتهم في جعل أصداء رسالتهم تتردد وراء جدران زنزاناتهم المظلمة".

مقال البرغوثي جاء بمثابة مكاشفة صريحة لفضح حقيقة الاحتلال الإسرائيلي وزيف خديعة "الدولة الديمقراطية" أو "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط، من هنا كان حرصه الشديد على أن ينقل للرأي العام العالمي وللشعب الأمريكي، على وجه الخصوص، كل أكاذيب الدعايات الإسرائيلية عن تلك الديمقراطية الزائفة، والأهم أن يعيد طرح إسرائيل مجدداً على الأمريكيين والعالم باعتبارها سلطة احتلال، وهذا ما يرفضه الإسرائيليون ويعتبرون أنفسهم أصحاب الأرض الحقيقيين، وأن حروبهم في فلسطين كانت "حروب تحرير" ضد "المغتصبين الفلسطينيين".

فقد كشف البرغوثي في مقاله المذكور حقيقة أن آلاف الأسرى الفلسطينيين، بمن فيهم الشيوخ والنساء والأطفال يعانون من التعذيب وسوء المعاملة، والإهمال الطبي، بل أن بعضهم تعرض للقتل خلال احتجازه مع وجود ما يقارب 6500 سجين سياسي تعرضوا لأطول فترات احتجاز عالمياً، إذ لا تكاد توجد أسرة واحدة في فلسطين لم تتعرض لمحنة سجن أحد أفرادها أو عدة أفراد منها. كما أوضح أيضاً أن إسرائيل كانت دائماً بعيدة عن المحاسبة والعقاب لأن إسرائيل أسست نظاماً قانونياً مزدوجاً أشبه ما يكون بنظام تمييز عنصري قضائي، يمنح الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم بحق الفلسطينيين حصانة قضائية فعلية في الوقت الذي يجرم المقاوم الفلسطيني.

نشر هذه الحقائق قبيل البدء في الإضراب عن الطعام فجر موجة عاتية من الجنون الإسرائيلي خصوصاً عندما اختتم البرغوثي مقاله باعتباره أن "الإضراب الجديد هو بوصلة لحركة الأسرى التي تؤججها نضالاتهم وصراعهم من أجل الحرية والكرامة، وهو الاسم الذي اختاروه لإضرابهم". رد الفعل الإسرائيلي العنيف ضد إضراب الأسرى لم يستطع أن يتجاهل مردود مقال البرغوثي خصوصاً بعد أن حازت الحملة الدولية لتحرير مروان البرغوثي وجميع الأسرى الفلسطينيين على دعم ثمانية من حائزي جائزة نوبل و120 حكومة ومئات الحكام والبرلمانيين والفنانين في مختلف أرجاء العالم. لذلك جاء تحذير جهات أمنية إسرائيلية من اتساع الإضراب ومن أن يسيطر على الأجندة السياسية – الأمنية في إسرائيل والسلطة الفلسطينية على السواء و"حصول انتفاضة أسرى قد تتحول لاحقاً إلى انتفاضة شعبية".

هذا ما يخشاه الإسرائيليون الآن، فهم يقاتلون من أجل تشويه ومحاصرة الانتفاضة الحالية للأسرى المضربين عن الطعام، والحيلولة دون اتساعها لتشمل كل الأسرى والمعتقلين، وأن تنتقل من السجون والمعتقلات إلى المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وأن يعود الشعب الفلسطيني مجدداً إلى وحدته وإلى الانتفاض من أجل حريته، باعتبار أن هذا خطر داهم على أمن إسرائيل.

فقد ارتبطت نظرية الأمن "الإسرائيلية" تاريخياً بالأزمة الوجودية للكيان الصهيوني، بمعنى أن ما تعيشه "إسرائيل" من تهديد لوجودها "الاستثنائي" في فلسطين العربية هو الذي يحدد أركان هذه النظرية، من منطلق أن "الهجوم خير وسيلة للدفاع". فحدود التقسيم التي رسمت للكيان الصهيوني عام 1948 اعتبرت مجرد نقطة ارتكاز وانطلاق لبناء "الدولة اليهودية" التاريخية والتوراتية على كل أرض فلسطين، ومن ثم كان اعتبار التوسع في الجوار الفلسطيني أولاً "الضفة الغربية وقطاع غزة" لبناء الدولة القاعدة أو المركزية للمشروع الصهيوني، ثم الانطلاق للتوسع ثانياً في الجوار العربي، على نحو ما حدث عقب عدوان يونيو 1967 هو أفضل وسيلة لتأمين وجود الدولة اليهودية بحدود عام 1948. وبعدها أصبح التوسع سياسة أمنية معتمدة، كما اعتبر التفوق العسكري المطلق والنوعي على كل الدول العربية ركناً ثانياً في نظرية الأمن "الإسرائيلية"، وكان لابد من توفير ركن ثالث ضامن لهذين الركنين، أي قادر على حماية الأمن والوجود "الإسرائيلي" وتوفير كل متطلباته، وهذا تحقق من خلال العلاقة الفريدة من نوعها التي ارتبط بها الكيان الصهيوني بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعهدت، وعلى مدى تاريخ وجود هذا الكيان، ومع اختلاف الإدارات الحاكمة في واشنطن جمهورية كانت أم ديمقراطية، بتوفير التفوق العسكري النوعي المطلق للكيان على كل الدول العربية، ناهيك عن الدعم السياسي والإعلامي والاقتصادي.

لقد تجاوزت الولايات المتحدة حدود هذا التفوق النوعي الكامل للكيان الصهيوني وقامت بأدوار مباشرة لخدمة أهداف الكيان بالتدمير المباشر للقدرات العسكرية والإستراتيجية العربية بدءاً بالعراق عام 2003، وقبلها احتواء أدوار وقدرات دول عربية أساسية ومحورية في الصراع مع الكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات سلام على نحو ما حدث مع كل من مصر والأردن، ثم جاء الدور على سوريا، والآن جاء الدور على الشعب الفلسطيني ذاته، بدعم التلاعب "الإسرائيلي" المتعمد من الالتزام بالقرارات الدولية بهدف تجهيل القضية الفلسطينية عالمياً وتجاوزها إقليمياًَ، بفرض قضايا وملفات أخرى ذات أولوية أعلى بالنسبة لدول عربية بذاتها قادرة على تهميش أولوية القضية الفلسطينية وقادرة على إخراج دول عربية من دائرة الالتزام كطرف مباشر في صراع عربي مع "إسرائيل". وذلك بتأييد ودعم رؤى "إسرائيلية"   لا تتجاوز فقط "حل الدولتين" بل وحل "الدولة الواحدة ثنائية القومية" على نحو ما تحدث عضو الكنيست "موتي يوجاب"، فحسب رؤيته يقول "لم تكن هنا أبداً (يقصد على أرض فلسطين) أي دولة فلسطينية، وإلى الأبد لن تقوم. ومسؤوليتنا في يهودا والسامرة (يقصد الضفة الغربية المحتلة) كانت وستبقى لأمننا ولتعزيز الاستيطان في كل أرجاء إسرائيل. إن جزءاً من الرد على الإرهاب (الانتفاضات الفلسطينية) هو التأكيد على أن عودتنا إلى يهودا والسامرة تمت لترسيخ سيطرتنا والبقاء فيها للأبد".

وفق هذه الرؤية فإن المطلوب ليس قتل الأسرى فقط بل إبادة كل الشعب الفلسطيني.. كي تبقى "إسرائيل" وهذا هو جوهر النظر إلى الصراع باعتباره "صراع وجود"، أي وجود طرف واحد هو الشعب "الإسرائيلي" وفناء كامل للشعب الفلسطيني.. هكذا يخططون وهذا هو السلام الذي يريدونه، السلام الذي يحقق الأمن، والأمن الذي يضمن الوجود والبقاء لكيان يدركون في أعماقهم أن وجوده طارئ واستثنائي ولن يدوم.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟