المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

تأملات في الحوادث الإرهابية: مواجهة الخطر في عصر المابعديات

الأربعاء 03/مايو/2017 - 03:37 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمود عبد الله

إننا نعيش لحظة فارقة في زمننا المعاصر، زمن الانقسامات والتفكك وانهيار المثل التقليدية. انهارت لدينا مثل الحداثة التي لطالما حلمنا، ولم يعد بالإمكان تصور العودة للتفكير مرة أخرى فيها. ما الذي يمكن أن يفكر فيه الإنسان المعاصر وقد انهارت أمام عينيه هذه المثل الرفيعة. الآن نعيش هذه اللحظة الدامية الموغلة في قساوتها وحدتها ومظاهرها الخداعة، ولا ندري كيف السبيل للخروج منها. عالم ملي بالتناقضات، والأحداث المتلاحقة والأفكار المتضاربة، ما يخلق صعوبة بالغة على أصحاب العقول الكسولة التي اعتادت على الأنماط الجاهزة الثابتة، أن تستجيب بمهنية وحرفية وابتكار.

        لعل خطر الإرهاب هو أبرز تجلي للحالة الراهنة، يمكننا من خلاله أن نرى أنفسنا ونشاهد بعيوننا مأساتنا الحقيقية وهى تذاع على الشاشات، وتكرس لها الأقلام. خطر تستطيع أن تجد له معالم بارزة:

أولها هو خطر ليس محكوماً بمكان بعينه. فأنت لا تستطيع أن تحدد مكاناً وتقول هنا سوف يحدث حادث إرهابي. خطر قابل للحدوث والتكرار في أي مكان. كما أنه ليس محكوماً بأي زمن، إذ يمكن أن تتم العمليات في أي توقيت. ولكنه مع ذلك يعرف أهدافه التي يتوجه إليها ويتعامل معها بطريقة غير معهودة، بحيث يصيب الهدف دون غيره.

ثانيها، صعوبة تحديد الجاني. فعلى الرغم من ادعاءات السلطات في كل مكان في هذا العالم الرحب الذي نعيش فيه بأنها استطاعت القبض على الجناة، يظل ذلك مشكوكا فيه، لأن الجاني الأصلي قد قام بفعله، وانتهى الأمر. الجاني الذي تحولت جثته إلى ركام ليس قابلا للتحديد الدقيق. ولذلك تنتشر التخمينات والتوقعات. ومن ثم فالإرهاب ليس بالخطر الفردي لأنك تستطيع تحديد الجماعة المرتكبة فقط، وليس فردا بعينه، أو المشاركين، فقط هذه الجماعة أو تلك عبر ما ترسله من رسائل عبر الشبكة العنكبوتية، أو ما تقدمه من أدلة مرئية.

ثالثها أنه خطر غير قابل للتحديد المسبق. أي أن الاعتقاد بأن طريقة التعامل العقلاني الرشيد لن تكون مسعفة. أن تقول مثلاً بأن هناك طرق معينة ثابتة قابلة للتكرار والتعميم لارتكاب الفعل الإجرامي. ولكن ذلك ليس معناه تغييب الضمانات الكافية للحماية. كيف يمكن مثلا أن تجد كنيسة ماري جرجس وقد استخلصت منها قنبلة على وشك الانفجار، ولا تضع احتياطاتك الأمنية الكافية، وإلا لماذا اعتدى الأهالي على الضباط عند زيارتهم للكنيسة. لأن الأهالي ببساطة يحملون الأمن المسئولية لعدم قيامه بالتأمين الكافي لمبنى الكنيسة.

رابعها أن خطر الإرهاب ليس كما يصوره البعض فعل مجنون لمجموعة من المخابيل. بل هو خطر موجه نحو هدف محدد. ويحقق أهدافه وفق هذا المنطق الواضح للعيان، ويعرفه المتابعون لنشاط هذه الجماعات الإجرامية. فالإرهاب في أوروبا يختلف عن المنطقة العربية، باستثناء أماكن معينة. لاحظ مثلا كيف أنه يصيب المواطنين في أوروبا في الأماكن التي يقصدونها لغرض المتعة والتسلي والفرح. حيث يعيش المهاجرون الأجانب ولم يستطيعوا الاندماج في المجتمع الأوروبي على الحافة، في الضواحي، تحت نيران العزلة والاغتراب والجوع، وعدم القدرة على التكيف، والتهميش في أماكن العمل. ألم تصل الأمور إلى أسوأ مراحلها عندما تقرر إحدى المحاكم الغربية أحقية صاحب العمل في طرد أي فرد يحمل ما يدلل على هويته الدينية. كيف يمكن الحديث عن الحرية دون الإيمان بالخصوصية الثقافية. أو لست أنت حر ما لم تضر؟. بل ويمكنك أن تقول بأن المستهدفين عادة هم الجميع في المجتمع المتعدد. ففي الحالة العراقية، والعراق مجتمع الملل والنحل، تستهدف العمليات الأسواق العامة. وفي حالتنا فإن المستهدف هم الأقباط أو الأجانب. ولاحظ أن العمليات تتم في أماكن معينة يضمن بها عدم المساس بسواهم. لاحظ مثلا أن الأجانب عادة ما يقتلوا في حافلة على أحد الطرق، لكنه لا يستهدفهم في تجمع عام. كما تستطيع ملاحظة أن العمليات الموجهة للكنائس تتم داخلها لا خارجها.

  خامسها، أنه خطر يمس الجميع. فالكل دون استثناء يتأذى منه، في الراهن أو مستقبلا. العالم كله الآن يعاني من ويلات هذا الخطر، لكن الفارق في المقدرة. عالم الشمال لديه أحدث التقنيات التي تمكنه من التتبع، والفرز، والتدقيق في السجلات، والبحث، ورؤية المستقبل وتوقعه. فقبل أن تنتهي الحرب في العراق وسوريا ضد تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية، قام الأوروبيون والأمريكيون باستباق الحدث، والتفكير الجاد في تحديد سياسات مواجهة الخطر القادم، وسيناريوهات التعامل معه، حين يعود الإرهابيون إلى أوطانهم في الشمال. ثمة قوانين جرى تغييرها، وكم من المراجعات قد تمت. فعلى الرغم من الجهود الباهظة التي أنفقت فيما سبق على مواجهة الإرهاب الخارج من حروب عديدة، كان أبرزها حرب البوسنة والهرسك، إلا أن ذلك لم يؤتي ثماره، لا تزال المفرخة جاهزة لإنتاج المزيد والمزيد من مهندسي عمليات القتل والتدمير.

 سادس المعالم، أنه على الرغم من الطوابع العولمية التي تميز ظاهرة الإرهاب، إلا أن من آثارها الأكثر عمقاً، هو العودة عن مشروع الحداثة الإنساني. مشروع الحداثة ليس مشروعاً غربياً، لكنه مشروع إنساني شارك فيه البشر على مدار التاريخ البشري، لتحرير الإنسان من سطوة الجهل والتقاليد الجامدة، وإمداده بحق الحرية والإيمان بقدرته على تحقيق المستحيل، ومساواته مع غيره بقدرته على العمل الخلاق والمنتج. وبطبيعة الحال فإن المشروع الفكري للإرهاب هو مشروع مضاد للحداثة، كقوة تحرير قائمة على العقل والحرية والإيمان بقدرة الإنسان على الإبداع. ولأنه كذلك فهو ينتج آثارا تشبهه وهي التراجع عن مشروع الحداثة.

        لقد استطاع المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أن يلفت الأنظار إلى ما قدمته الحداثة من تغيير في آلية الضبط الاجتماعي. إذ عبر التاريخ الإنساني، كانت عملية الضبط تستند تارة إلى الأعراف والتقاليد، أو قوة السلطان المباشرة. ولكن مع الحداثة واكتشافات العلم الحديث، وتطور المعرفة البشرية، والفصل بين السلطات، غدت أساليب الضبط لا تعتمد على التدخل المباشر في حياة الناس، بل استخدام المعرفة في التدخل. غدت علوم السكان والأحياء أداة لضبط البشر وتحديد حدود وجودهم. ومع الوقت تبلور أسلوب الرقابة عن بعد، أي أن هذا الإنسان عاقل ورشيد، ويمكنك أن تتحكم في سلوكه عبر المراقبة من بعد دون تدخل مباشر. ولكن هذا الأسلوب الذي تسميه بعض الأدبيات المهتمة بالإرهاب باستراتيجية المواجهة الناعمة للإرهاب، يبدو في الراهن غير ممكن، لأنه ببساطة يحتاج لوقت أطول، وصبر ودأب، وإيمان في إمكانية عودة الإنسان عن فعله. فأمام أعداد القتلى المهولة، ومشاهد الرعب واستباحة الذبح على الهوية، فإن هذا يشكك على الفور في قدرة الدولة والعلم على المواجهة. أليست الدولة لديها قوة الإنفاذ التي تمكنها من مواجهة الإرهاب، أليس العلم لديه من القدرة على التنبؤ المسبق بالأحداث قبل وقوعها، كما يحدث مثلاً عن مواجهة أخطار الطبيعة. أليس العلم قادرا على تقليب الأذهان وتغيير رؤيتها وتصوراتها، فلماذا لا يستطيع أن يوقف حمى الروح الشغفة بعالم الميتافيزيقا. ومع ذلك كلما كانت الدولة والعلم أكثر تواضعا، ولم يسقط في حمى العودة إلى الأصل المتطرفة، وغلواء الإطلاق، كلما استطاعت مواجهة الإرهاب. فليس بمقدور الدولة إذا كانت صادقة مع شعوبها أن تدعي قدرتها النافذة على إنهاء الإرهاب في أي بقعة كانت، بل يمكنها أن تواجهه طول الوقت، وليس هذا دليلاً على ضعفها بل على مرونتها وعدم رغبته في خداع الجماهير.

وفي الآن ذاته على الأفراد أن يدركوا أن المواجهة الحقيقية للتطرف ليس بالعودة بالمثاليات الأولى: بأن تتصاعد حمى النزعات التعصبية، نزعات النقاء الأول، بحيث يعود الأفراد المستهدفون من القتل إلى عناصر وجودهم الأولى، يعودون إلى ديانتهم، أو أعراقهم، أو هوياتهم القومية، كل حسب نوع الخطر.

        إن الأفراد أنفسهم مطالبون أن يدركوا بأن عودتهم إلى الأصول الأولى هي إعادة إنتاج للتطرف، وإحياء غير مقصود له، وتمرير لوجوده، إنه استغلال لعقولنا وأفهامنا نحن المتأثرين أكثر من أهل الجنوب من نيرانه. ولن يكون الحل باتباع حلول التطرف نفسها لمشاكل البشرية. فليس معنى عجز الدولة عن التصدي للإرهاب أن نتخلى عن فكرة "الدولة"، وليس معنى أن يقف العلم غير قادر على تقييد حمى التطرف، أن نتوقف عن الإيمان بقدرة العقل البشري على الإبداع والمواجهة. كذلك ليس معنى أن تعجز الدولة عن المواجهة أن نتخلى عن حماية حقوق الإنسان. وهذا هو مربط الفرس، كيف نحمي حقوق الإنسان، حقه في ان يكون حرا، في الوقت الذي أكبل حقه في الحركة مؤقتا، كيف أحمي حقه في الكلام، في نفس الوقت الذي أحمي فيه حقه في البقاء، وفي الأخير كيف أحمي قانون الإنسان أمام سطوة قانون الغاب.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟