المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

موازنة عام الإنتخابات الرئاسية وتحديات النمو والغلاء والبطالة

الخميس 11/مايو/2017 - 03:16 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوار

الموازنة العامة للدولة في السنة المالية 2017/2018 تتمتع بأهمية فريدة، فهي موازنة عام الإنتخابات الرئاسية التي من المقرر أن تجري في يونيو 2018، وهي موازنة السنة الأخيرة في حكم الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في فترته الرئاسية الأولى، وهي الموازنة الأولى بعد القرار التاريخي في 3 نوفمبر 2016 بتعويم سعر صرف الجنيه الذي أسفر عن انخفاض قيمة العملة المحلية من 8.88 مقابل الدولار الواحد إلى 18.13 جنيه، بنسبة انخفاض تبلغ 104% في الوقت الحالي (مايو 2017)، كما أنها الموازنة الأولى للدولة بعد الإتفاق التاريخي للإصلاح الإقتصادي (حتى عام 2018/2019) مع صندوق النقد الدولي والحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار موزعة على 6 شرائح على مدار 3 سنوات، وهي الموازنة الختامية لبرنامج حكومة رئيس الوزراء الحالي شريف إسماعيل الذي قدمه للبرلمان للحصول على الثقة، وهي الموازنة الأولى التي يعدها من ألفها إلى يائها وزير المالية الحالي عمرو الجارحي، وهي أيضاً موازنة ترتبط بخطة تنمية الدولة في إطار استراتيجية 2030 التي تبناها الرئيس عبد الفتاح السيسي. لهذا كله فإن الموازنة العامة الجديدة للدولة تكتسب أهمية تاريخية. ومن المفترض في إطار قواعد الشفافية أن تعطينا الموازنة العامة للدولة خطوطاً مرشدة لاتجاهات النمو ومكافحة التضخم وتوفير الوظائف للباحثين عن عمل إضافة إلى جهود الحكومة في مكافحة تضخم قيمة الدين العام الداخلي والخارجي.

وسوف أقوم هنا بتحليل بعض بيانات الموازنة العامة للدولة في السنة المالية 2017/2018 استناداً إلى معايير تنبع من مقومات أهمية الموازنة، أي باستخدام مقاييس تتناسب مع عام الإنتخابات الرئاسية وما يحيط بمصر من تحديات راهنة، وبالمقارنة مع الإلتزامات الواردة في اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي، والنتائج التي ترتبت حتى الآن على قرار تعويم الجنيه، وكذلك بعمل مقابلة بين توجهات الموازنة ومستهدفاتها وبين توجهات برنامج الحكومة الحالية ومستهدفاته والتزام وزارة المالية بإصلاح مالية الدولة ووضعها على الطريق الصحيح.

وفي هذا السياق فإنني يجب أن أوضح أن هناك اختلافاً كبيراً بين أساليب التحليل السياسي وأساليب التحليل الإقتصادي؛ فقد ينفع في التحليل السياسي مثلاً استخدام عبارات خطابية وتعبيرات إنشائية مثل "الإرهاب لن يزيدنا إلا قوة" أو "إننا سنمضي إلى الأمام ولن نحيد أبداً عن طريقنا" أو "إن هذا الشعب سيهزم المؤامرات التي تٌحاك له"...وهذه وغيرها تعبيرات خطابية وإنشائية قد يحتاج إليها الخطيب السياسي لكي يشحذ عزيمة سامعيه، أو للربط بين الكلمات وبعضها البعض. لكن الحال يختلف عنه في التحليل الإقتصادي الذي يعتمد على حقائق وأرقام ومعطيات حية يشعر بها الناس حتى وإن كانوا لا يعرفون طبيعتها ولا يفهمون دينامياتها.

ولا يستطيع صانع السياسة الاقتصادية هو الآخر أن يتجاوز حدود الحقائق في معاملات السوق الداخلية والمعاملات مع الخارج، فلا هو ولا من يقوم بوظيفة التحليل الإقتصادي يستطيع القول بأن "خطر التضخم لن يزيدنا إلا عزيمة وإصراراً"، كما لا يستطيع القول بأن "اتساع نطاق العجز المالي لن يزيددنا إلا رفاهية ووفرة"! وتوجب الحقائق الاقتصادية مثلاً تعديل قواعد تخصيص الموارد بين الإستهلاك والإستثمار، ومن ثم فإننا يجب أن نحيد عن طريقتنا الأولى في تخصيص الموارد التي كانت تميل لتغليب الإستهلاك على الإستثمار. كذلك توجب الحقائق الإقتصادية تغيير نظم إدارة الإنتاج المحلي بغرض التقليل من الاستيراد ونزيف العملات الأجنبية، فزيادة الإستيراد من الخارج ليس مؤامرة وإنما هو يعكس خطأ في السياسة الإقتصادية المحلية بما يعطي أفضلية للإستيراد على الإنتاج المحلي.

وطالما أن قواعد التحليل الإقتصادي تتميز بسيادة الحقائق الحية على العبارات الخطابية والجمل والتعبيرات الإنشائية؛ فمن الضروري الكف عن الوقوف بالمرصاد لكل تحليل رصين انطلاقاً من مصالح سياسية بعينها، فالتحليل الإقتصادي يسعى إلى تقديم شروط ومقومات الوضع الأمثل، وإن كان في ذلك انتقاد للسياسة الإقتصادية، فليس غاية التحليل الإقتصادية قلب موازين السياسة، ويستطيع المسؤول عن السياسة الإقتصادية إذا تجرد من مصلحة أو منفعة أو مفسدة أن يختار الطريق الأمثل، فهو في نهاية الأمر "تكنوقراطي" من المفترض إنه يسعى إلى تحقيق الوضع الأمثل للإقتصاد ككل، لأن هذا التكنوقراطي تم إسناد المسؤولية إليه لخدمة مصالح الإقتصاد ككل، وفي مقابل هذه المسؤولية فإنه يحصل على راتبه ومميزاته المالية والإجتماعية من المال العام الذي يأتي من حصيلة الضرائب والمدخرات وربما أيضاً القروض التي يتحملها المواطنون جميعاً في نهاية المطاف.

ومن أجل أن ينجح صانع السياسة الإقتصادية في وظيفته فإن أول ما يتعين عليه أن يفعله هو أن يدرس لماذا نجح الآخرون ولماذا فشل غيرهم في إدارة السياسة العامة، ولماذا فشلت حكومات مصرية سابقة في تحقيق أهداف كانت قد اعلنتها والتزمت بحقيقها، ومن ثم أن يخطو على طريق النجاح وأن يبتعد عما أسميته دائما "إعادة إنتاج الفشل". إن أخطر ما تواجهه السياسة الإقتصادية في بلادنا هو أن "الإستسهال" أصبح أسلوب حياة مفضل لدى معظم المسؤولين، وأن مقاومة "التغيير" اكتسبت قوة هائلة، فاندفعت الأمور إلى الوراء حتى وصلنا تقريباً إلى نقطة الصفر أو نقطة الهزيمة التي كانت عندما سقط الرئيس الأسبق حسني مبارك.

ومن المدهش أن نجد أن كلاً من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يعودان إلى تكرار السيناريو الفاشل الذي رأيناه وتعاملنا معه قبل ثورة يناير والذي كان يعتمد على نشر أرقام اقتصادية مبشرة، في حين أن المواطين ومن حولهم الإقتصاد الحقيقي يدورون في حلقة من اليأس والإحتقان، وهو ما أدى إلى ثورة 25 يناير التي لم يتوقعها لا البنك ولا الصندوق، ولا حتى النظام ومنظريه الاستراتيجيين الذين رفعوا في وجه العاصفة شعار "مصر ليست تونس"!. وسوف يدعونا كل ذلك إلى مواجهة محاولات "التبسيط المخل" في عرض أرقام الموازنة العامة للدولة، وكذلك مواجهة السعي إلى إخفاء بعض التوجهات الرئيسية في الموازنة من جانب المسؤولين الذي يلجأون إلى استخدام أرقام ميتة وإضفاء الحياة عليها بأي شكل، أو تصنيع أرقام وطبخها حتى تبدو وكأنها حقيقية. كما قلت فإن التحليل الإقتصادي يجب أن يرتفع إلى مستوى الحقائق الحية للإقتصاد.

ومن الضروري أن أشير هنا إلى أن الباحث والمحلل الإقتصادي هو الآخر يمارس يمارس مهمة صعبة في مواجهة آلات وأجهزة الدعاية السياسية ومصالح السياسيين بشكل عام. ولا تنبع هذه الصعوبة من اختلاف جنس المحلل الإقتصادي عن غيره من أجناس الناس بمن فيهم السياسيين ومنظريهم، وإنما تنبع من الإختلاف بين طبيعة "الدورة الإقتصادية" وطبيعة "الدورة السياسية". وربماا في زحمة الحياة اليومية وتراكم المشاغل والمشاكل لا يشعر الخبراء والباحثون بهذا الإختلاف. إن الدورة السياسية ترتبط بآليات تجديد النظام السياسي، وهذه الآلية في الوقت الحاضر في العالم كله هي "الانتخابات"؛ فالدروة السياسية ترتبط مباشرة بـ "الدورة الإنتخابية". ولكي ينجح السياسيون والبرلمانيون في الدورة الجديدة، فإنهم يلجأون بالضرورة إلى التغطية على أخطائهم وفشلهم في الدورة السابقة، ويكرهون بشدة من يشيرون من قريب أو من بعيد إلى تلك الأخطاء. طبيعة "الدورة السياسية" إذن تفرض التحايل والنفاق والكذب. كذلك فإن "الدورة السياسية" تقتصر من الناحية الزمنية على عدة سنوات، قد تكون أربع أو خمس سنوات في العادة، وفي حالات استثنائية فإنها قد تطول عن ذلك بقليل. فهي دورة قصيرة نسبيا محدودة بعدة سنوات.

أما "الدورة الاقتصادية" فإن طبيعتها لا تنصرف إلى مصالح السياسيين ولا حتى إلى مصالح شريحة واحدة من شرائح المجتمع، بل إنها ترتبط بهيكل وآليات أداء القطاعات الإقتصادية كل. ولا تتجدد "الدورة الإقتصادية" كل أربع أو خمس سنوات، بل إنها في الأغلب الأعم لا تقل عن عشر سنوات وقد تطول إلى ربع قرن من الزمان. ومن طبيعة الدورة الإقتصادية، نظراً للتشابكات العميقة بين القطاعات إنها تحتاج دائماً إلى ضبط وإعادة تصويب المسار بشكل مستمر. وهذا يعني أن الإدارة الإقتصادية لا ينبغي أن تغفل لحظة واحدة عن متابعة ما يجري، والإصرار على تصويب المسار من أجل تحقيق أهداف التنمية خلال الدورة الإقتصادية. إن الإدارة الإقتصادية تختلف عن الإدارة السياسية في إنها لا تستطيع بسهولة الكذب على الناس أو الإدعاء بغير الحقيقة، وهي إن أصرت على ذلك فإنها تفقد مصداقيتها، ومن ثم تفقد ثقة السوق بمن فيها من منتجين ومستهلكين، فإذا فقدت الناس الثقة في الإدارة الإقتصادية فقد راحت هذه الإدارة إذن في خبر كان. وبسبب هذه الإختلافات بين طبيعة "الدورة السياسية" وطبيعة "الدورة الإقتصادية" فإن منحى خبراء الإقتصاد والمنظرين الإقتصاديين يختلف عن منحى غيرهم خصوصاً من السياسيين الذين يطمعون دائماً في تحقيق مكاسب قصيرة الأجل.  

ومن أجل أن نسير على الطريق الصحيح في تحليل الموازنة العامة للدولة 2017-2018 فإننا كذلك يجب أن نراعي عدداً من الاعتبارات المهمة التي تربط بهذه الميزانية والظروف التي تصدر فيها. وهناك على وجه الخصوص مجموعة من الإعتبارات الفنية التي يجب أن نأخذها في الإعتبار.

الدعم أقل وليس أكثر

ويجب أن أؤكد بادئ ذي بدء هنا على ضرورة ترجيح أرقام الموازنة المحسوبة بالأسعار الجارية حالياً وذلك باستخدام الأسعار الثابتة للعام 2016 وقبل إصدار قرار تعويم سعر الجنيه. وقد كان لتعويم الجنيه أثار كلية شاملة على كل قيم الحسابات القومية، سواء المتعلقة بالسوق المحلي أو بالمعاملات الخارجية، ومن ثم فإنه من الخطأ مقارنة الأرقام في الموازنة الحالية بالأرقام في الموازنة السابقة التي كانت محسوبة على أساس تقييم سعري مختلف للجنيه مقابل العملات الأجنبية الأخرى، وهو ما أنتج معدلاً للتضخم لم يكن متوقعاً طبقاً لصندوق النقد الدولي. ويعني ترجيح أرقام الموازنة الحالية باستخدام الأسعار الثابتة للعام 2016 خصم معدل التضخم وفروق أسعار الصرف من الأرقام الواردة في مشروع الموازنة للسنة المالية المقبلة المحسوبة على أساس الأسعار الجارية الحالية.

ولكي نعطي مثالاً بسيطاً في هذا السياق نشير إلى حديث السيد وزير المالية عن زيادة مخصصات الدعم في الموازنة الحالية بنسبة 30% مقارنة بمخصصات الدعم في الموازنة السابقة. هذا حديث طيب بلا شك، لكنه يقتقد إلى الصراحة؛ فأسعار المواد الغذائية الرئيسية الواردة في قائمة السلع التموينية المدعمة زادت خلال الأشهر الماضية منذ تخفيض قيمة الجنيه بنسب تترواح بين 70% إلى 100% أو أكثر، ومن ثم فإن المحافظة على القيمة الحقيقية لدعم السلع التموينية يستلزم زيادة مخصصات الدعم بنسبة زيادة الأسعار في المتوسط، ولزيادة الدعم فإن المخصصات يجب أن تزيد بنسبة تتجاوز نسبة الزيادة في أسعار السلع التموينية. وتعطي إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء صورة تفصيلية عن الزيادات في أسعار السلع التموينية، وهي زيادات تتجاوز بكثير نسبة الـ 30% في مخصصات الدعم الواردة في مشروع الموازنة. فإذا كان معدل التضخم الرسمي للسنة المالية الحالية يبلغ 35% فإن زيادة مخصصات الدعم بنسبة 30% بالأسعار الجارية يعني عملياً تخفيض مخصصات الدعم بنسبة 5%. الأكثر من ذلك أننا إذا افترضنا أن الحكومة ستحافظ على معدل تضخم في حدود 17% في السنة المالية الجديدة، فإن ذلك المعدل يتعين خصمه من قيمة المخصصات، فتكون النتيجة أن المخصصات الحقيقية للدعم في السنة المالية المقبلة إنخفضت بنسبة 22%، ولم تزد كما ورد في مشروع الميزانية.

ومن الناحية الفنية أيضاً، فإن كل أرقام مشروع الموازنة للسنة المالية الجديدة يجب ترجيحها بمعدل النمو السكاني؛ فلا يكفي أن نقول أن معدل النمو المستهدف يبلغ 4.6% (على الرغم من تواضع هذا المعدل)، وإنما يجب أن نأخذ في الاعتبار أولاً خصم معدل النمو في عدد السكان من معدل النمو الإقتصادي وذلك للحصول على معدل النمو الصافي، فإذا كان معدل النمو السكاني يبلغ نحو 2.5% فإن معدل النمو الإقتصادي الصافي يساوي 2.1% فقط. ويكون هذا هو معدل النمو الصافي لعموم الإقتصادي ولكل فئات الدخل مجتمعة. ولكن بما إننا نعيش في مجتمع تسود فيه ظاهرة التفاوت وعدم التكافؤ في توزيع الدخل، وباستخدام تقديراتي لتوزيع الدخل في مصر فإن ما لا يزيد عن 10% من الفئات الإجتماعية تحصل على ما لا يقل عن 90% من ثمار النمو. وهذا يعني أن معدل النمو الحقيقي الصافي لنسبة تقرب من 90% من المصريين لا يزيد عن 0.3% فقط. ومن ثم فإن حديث الحكومة عن معدل نمو مستهدف يبلغ 4.6% يحتاج إلى الكثير من التحليل لإجلاء الحقيقة وللحد من استخدامه في تقديم صورة وردية عن واقع غير موجود إلا في دفاتر الحكومة وتقاريرها الرسمية.

ومع ذلك، فإن الحصول على الصورة الحقيقية لا يتوقف عن ذلك الحد، فبعد ترجيح أرقام مشروع الموازنة بخصم معدل التضخم، وبخصم معدل الزيادة في عدد السكان نكون في حاجة إلى تحليل مكونات النمو. وعلى الرغم من أن الحكومة تضع في اعتبارها أن يكون النمو "مستداماً واحتوائياً"، فإن أرقام مشروع الموازنة لا تمضي إلى تحليل مكونات النمو لإثيات إنه "مستدام وإحتوائي"، ولذلك فإننا سنعفي الحكومة من ذلك ونقدم في بعض المواضع، خصوصاً فيما يتعلق بتوزيع الدخل وتوفير فرص العمل تحليلاً لمكونات أرقام النمو وبعض تفاصيل الإنفاق في الموازنة بما يبين لنا بصورة راجحة إلى أي مدي يمكن أن ينجح مشروع الموازنة في تحقيق نمو مستدام واحتوائي وعادل.

وحتى نقدم مثالاً سريعاً في هذا السياق، فإننا نشير إلى أن النسبة الأعظم من المساهمة في معدل النمو الصافي المستهدف (2.1%) سوف تأتي من قطاعات النفط والغاز ومقاولات البناء والتشييد. ومن المعروف أن النسبة الأعظم من الإستثمارات الأجنبية المباشرة تتركز في هذه القطاعات؛ فالإستثمارات العربية تتركز في قطاع البناء والتشييد والإستثمارات الأوروبية والأمريكية تتركز في قطاع النفط والغاز. وهذه القطاعات هي قطاعات كثيفة رأس المال قليلة العمالة مثل النفط والغاز، أو هي تولد فقط عمالة عارضة مؤقتة غير ماهرة مثلما الحال في قطاع المقاولات بما في ذلك أعمال الحفر والردم والرصف. ولذلك فإن نصيب هذه القطاعات في معدلات النمو يتسم بمستوى منخفض للتشغيل وكذلك لتوفير فرص العمل، مع أن هذه القطاعات تستحوذ على ما يقرب من ثلاثة أرباع الإستثمارات الأجنبية المباشرة، وعلى ما يقرب من 60% من الإستثمارات المحلية.  

هذه الضوابط الثلاثة المتعلقة بترجيح أرقام الموازنة بالأسعار الثابتة للموازنة السابقة، وبمعدل النمو في عدد السكان، وبطبيعة وتوزيع المساهمات النسبية في الإنتاج والدخل، تمثل الضوابط الرئيسية لسلامة التحليل الإقتصادي، بعيداً عن السياسة وبعيداً عن الخطابة والتعبيرات الإنشائية التي لا يحتملها التحليل الإقتصادي بطبيعته، من حيث إنه يعتمد على مكونات مادية حية تتفاعل مع بعضها ومع غيرها يوماً بعد يوم. وكما ذكرنا من قبل فإننا سنستخدم مقاييساً إضافية تتعلق بطبيعة الوقت الذي يتم فيه تقديم الموازنة والتحديات التي تواجه الدولة ككل وتواجه الإقتصاد على الأخص مثل مكافحة الإرهاب، وطبيعة الإنفاق في عام الإنتخابات الرئاسية، والعلاقة بين الموازنة وبين مشروع 2030.

مؤشرات رئيسية

تبلغ قيمة الميزانية 1488 مليار جنيه مصري بالأسعار الجارية للعام 2017. وبعد ترجيح هذه القيمة بمعدل التضخم الحالي، وبصرف النظر عن التغيرات في أسعار الصرف، فإن قيمة الميزانية تصبح 967.2 مليار جنيه وهو ما يقل عن قيمة الميزانية في السنة الماضية (2016-2017) بقيمة 288.9 مليار جنيه، أي بنسبة انخفاض تبلغ 23%. فهذه الميزانية ليست أكبر ميزانية في تاريخ مصر، وإنما هي تقل عن ميزانية العام الماضي. وتبلغ قيمة المصروفات في الميزانية الجديدة 1206 مليارات جنيه مقارنة بنحو 974.8 مليار جنيه في العام الماضي. وبعد تصحيح انحرافات البيانات بسبب معدل التضخم، فإن القيمة الحقيقة للمصروفات تبلغ 974.8 مليار جنيه، وهي القيمة ذاتها التي تم تخصيصها للمصروفات في العام الماضي، بلا زيادة أو نقصان. لكننا مع ذلك سنجد أن نسبة المصروفات على فوائد الديون الحكومية، ستزيد إلى 380 مليار جنيه مقابل 292.5 مليار في السنة السابقة، أي بزيادة تبلغ قيمتها 87.5 مليار جنيه، بنسبة زيادة تصل إلى 30% مقارنة بميزانية 2016- 2017. وهذا يعني عمليا أن قيمة الإنفاق على البنود الأخرى ستتأثر سلباً.

مبالغة في تقدير الإيرادات

وقد لجأ واضعوا الميزانية كعادتهم كل سنة إلى تضخيم قيمة الإيرادات المتوقعة. وطبقاً لمشروع الميزانية الجديدة فإن قيمة الإيرادات العامة المتوقعة للسنة المالية المقبلة تبلغ 834.6 مليار جنيه، مقابل 669.8 مليار جنيه في الميزانية التي ينتهي العمل بها في 30 يونيو 2017 ، أي بزيادة نسبتها 24.6% (وهي زيادة كما نرى تقل عن معدل التضخم السنوي بين العاملين). لكن المشكلة الأكبر تتضح في المبالغة في تقديرات تحصيل الضرائب. وتتضمن أرقام الإيرادات العامة 603.9 مليار جنيه متحصلات ضريبية في السنة المقبلة مقارنة بنحو 433.3 حصيلة ضريبية مقدرة بنهاية السنة المالية الحالية. وسوف يكتشف السادة النواب في مناقشاتهم للحساب الختامي للسنة المالية 2015/ 2016 أن حصيلة الإيرادات الضريبية الفعلية لم تبلغ هذا الرقم، وهو ما اضطر الخزانة العامة للدولة إلى الإقتراض لتغطية الفرق. وفي الحساب الختامي للسنة المالية 2014/2015 وقع الشيئ نفسه، فقد ربطت الميزانية الإيرادات الضريبية بقيمة 364.3 مليار جنيه، ولكن الحصيلة سجلت 305.9 مليار جنيه فقط، بنقص يبلغ 58.4 مليار جنيه بنسبة 16% من الإعتماد الأصلي. وقامت الوزارة بالإقتراض لتغطية هذا النقص. والحقيقة أن المبالغة في تقدير أرقام الإيرادات، وتقليل أرقام المصروفات عن الفعلي يمثلان ظاهرة مستدامة ينتهجها جهاز إعداد الميزانية العامة للدولة. ويظهر الحساب الختمي للسنة المالية 2014/2015 أيضا مبالغة ملحوظة في تقدير قيمة إجمالي الإيرادات والمتحصلات العامة التي بلغ اعتمادها الأصلي 560.9 مليار جنيه، في حين بلغت قيمتها الفعلية في نهاية السنة المالية 467.7 مليار جنيه، بنقص قدره 93.2 مليار جنيه، بنسبة تقل 16.6% عن الإعتماد الفعلي الوارد في مشروع الموازنة العامة للدولة في تلك السنة.

الأخطر من ذلك أن موظفي وزارة المالية سواء في وحدة إعداد الميزانية العامة للدولة أو في الدواوين الفرعية في الوزارت والمحافظات والشركات القابضة والهيئات وغيرها يعملون بطريقة "الإستيفاء على الورق". وهو ما يعني أنهم يبدأون من نقطة يرغبون في الوصول إليها بصرف النظر عن الحقائق، ثم يقومون بصنع الأرقام وطبخها لكي تصل إلى غايتهم المطلوبة. فلدينا إذن تشوهات خطيرة في التقارير الرسمية تؤدي إلى وجود صورتين متناقضتين للإقتصاد، صورة إقتصاد الحكومة وتظهر بشكل رئيسي في التقارير الرسمية والبيانات، وصورة اقتصاد الأهالي أو الإقتصاد الفعلي، الذي تعيشه الناس لكنه غير موثق. ومن آخر الأمثلة على هذا التباين الشديد والتشوهات ما كشف عنه الدكتور حسن عيسى رئيس جامعة عين شمس السابق ورئيس لجنة الخطة والموازنة في البرلمان بشأن الحساب الختامى لموازنة الهيئة العامة للتعمير والتنمية الزراعية عن العام المالى 2015/ 2016، حيث ذكر ممثلوا الهيئة عندما سُئلوا في اللجنة بشأن الأرقام الواردة بالحساب الختامي، أن الأرقام "أرقام وهمية تقليدية أكاديمية "مرصوصة" لا يعلمون عنها شيئا!

ولا أريد في هذا المقال أن أخوض أكثر في تفاصيل أرقام الميزانية الجديدة بأكثر مما فعلت في الفقرات التالية. وإنما أريد إعادة التأكيد على عدد من المسائل الرئيسية المتعلقة بالسياسة الإقتصادية وضرورات تغيير المسار الحالي للإقتصاد. وإذا لم نفعل، وبسرعة، فإن الوضع الإقتصادي للأسف سيزداد تعقيداً، وبدلاً من العلاج سنحتاج لعمليات جراحية، فإذا تأخرنا أكثر فربما نصبح في حاجة إلى "البتر" بدلاً من إجراء عمليات جراحية! إن العوامل الثلاثة الرئيسية التي تساعد استمرار حركة السوق (وإن كانت متعثرة ومضطربة) تظل كما هي لم تتغير، المساعدات الخليجية، والإقتراض من البنوك المحلية والأجنبية، ثم تحويلات المصريين من الخارج. ما يزال الإقتصاد المصري اقتصاداً يحركه الإستهلاك الممول من الخارج، وما يزال يعتمد أساساً على القطاعات الريعية في تحقيق بعض النمو، وما يزال عاجزاً عن توفير الحد الأدنى الضروري من الإدخار اللازم لتمويل الإستثمار. يجب أن نعمل بسرعة على نقل محرك نمو الإقتصاد إلى الإستثمار، وأن ننتقل بسرعة من الإعتماد على القطاعات الريعية إلى القطاعات المنتجة للقيمة المضافة العالية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟