المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. أحمد موسى بدوي
د. أحمد موسى بدوي

مريم فتح الباب أميرة الثانوية العامة سرد مختلف لقصة تفوقها

الثلاثاء 18/يوليو/2017 - 03:17 م
الموهوبون مثل مريم فتح الباب، كثر في هذا البلد، وكل واحد منهم وراءه قصة كبيرة بحجم موهبته غير أن النظام التعليمي في مصر، يحول دون اكتشاف هذه العقول الفذة إلا في سن متأخرة جداً، غالبا لا يشعر المجتمع بميلاد متفوق إلا مع إعلان نتيجة الثانوية العامة، وفي هذا العام حصلت مريم على المركز الأول على مستوى الجمهورية قسم علمي علوم. وتناقلت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي قصة كفاح مريم بشيء من الاستغراب والتعجب، فشاعت بين الناس تفسيرات مغلوطة تشوه هذا الانجاز. ونحن في هذا المقال نعيد سرد هذه القصة من مدخل فلسفة الأخلاق، وعلم اجتماع القيم، سرداً مختلفاً، نستكشف من خلاله الأسس الأخلاقية والقيمية الذي قام عليه هذا التفوق.  
الفخورة بمهنة أبيها والغرفة القصر    
جاء حوار مريم ووالدها في أحد القنوات المصرية، حوار كثيف بالغ الدلالة، يحتاج إلى تحليل عميق، لاكتشاف القواعد التي يتأسس عليها. أول ما يلفت الانتباه في هذا الحوار، أن مريم جسدت بكلماتها قيم  الشجاعة والصدق والاعتزاز، حيث أكدت أنها فخورة بمهنة أبيها، وتعتبر الغرفة التي تسكن فيها مع أسرتها بمثابة قصر.  إن هذا الاحساس بالفخر والرضا بالمعيشة، لا يعني الخمول والاستسلام للواقع، فتفوقها دليل على اصرارها على التقدم، لكي تحقق ذاتها وتكافئ أبويها، وتسعد أخوتها وتصنع لهم مثالا وقدوة. إن قيمة الانتماء للأسرة هو واجب أصيل تقوم به مريم بتلقائية تجاه أبوين كانا يتناوبان السهر على رعايتها، أثناء قيامها بمذاكرة  دروسها آناء الليل وأطراف النهار. الأسرة هنا قدمت لمريم واجب العون والاخلاص والتضحية، فحري بمريم أن تقدم لهما واجب الاعتزاز والفخر بالانتماء لهذه الأسرة. ومريم لا تقوم بذلك بدافع رد الجميل، وإنما انطلاقا من قيم تعلمتها داخل هذه الأسرة تنعكس وتظهر كلما كانت هناك ضرورة. فماذا نعني بالضرورة هنا؟
الضرورة هي مناسبة تسليط كل الأضواء، على مريم بعد إعلانها الأولى على شهادة الثانوية العامة، مع ما يستتبع ذلك من اقتحام لحياتها الخاصة، كيف تذاكر، ماذا تأكل وماذا تشرب، ومن تصاحب، وأين تسكن، من ادأبيها ومن أمها، الخ. وهي أسئلة مشروعة. لكن الخطورة أن تتعاطى وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مع الموضوع من باب الإثارة، فذلك من شأنه أن يلح  ضررا بالغا وأذى معنويا بهذه الأسرة العظيمة، و سوف يفسد فرحتها بالإنجاز الكبير. وقد أيقنت مريم بحسها وفطرتها السليمة كل ذلك، فأغلقت الباب الذي يمكن أن يدخل منه الأذى، فاختارت أن تجدد حبها لأسرتها بطريقتها (قوة الحقيقة وروعتها). هذا نموذج مشبع بقيم التضامن الأسري الأصيل، لا يمكن بحال التركيز على انجاز مريم المقدر دون التأكيد على انجاز الأسرة التي قبلت وفضلت والتزمت بقيم التعاون والتضحية والحب والأمل والثقة والاعتزاز والاستغناء.
البنت سر أبيها
من صور السذاجة الاعلامية منزوعة العقل والقلب، أن يفتح المجال للمزايدة على انجاز مريم وأسرتها بسيطة الحال، ويعرض البعض التبرع لمساعدة الأسرة. السذاجة التي أقصدها هنا ليست من المبادرات، فالمؤكد أن كثيرا منها حسن النية. لكن فتح المجال لذلك هو عمل يقصد به الاثارة والسبق، ولا يراع مشاعر الأسرة. لكن المدهش والمثير للاحترام والاعجاب، هو رفض سعيد فتح الباب، والد مريم، هذه التبرعات، قائلًا: "إحنا مش محتاجين حاجة من حد، مريم مكنتش عايزة تطلع في البرنامج وقعدت ثلاثة أيام أقنعها بالحضور"، لافتًا إلى أنها قبلت أن تأتي إلى البرنامج في النهاية حتى تفيد غيرها بتجربتها. فماذا يعني هذا الرد الرائع، من وجهة نظر فلسفة الأخلاق، ومن وجهة نظر علم الاجتماع؟ يعني أمرين: (1) أن مريم كانت على وعي بأن ظهورها التلفزيوني، يمكن أن يلحق أذى بأسرتها وبحياتها الخاصة كما ذكرنا، ولكنها قررت بعد إلحاح والدها، أن تستند إلى أخلاق الفضيلة، فقررت نقل تجربتها طواعية لمن يريد أن يحذو حذوها، الفضيلة هنا تتجاوز الواجب، لأن مريم غير ملزمة بحضور البرنامج، وقرارها يخرج الفعل من حيز الواجب إلى حيز الفعل الصالح أو الخيري (2) رفض والد مريم قبول أي تبرعات،  يعني أن بنية هذه الأسرة، تأسست على قواعد أخلاقية أصيلة، تستطيع أن تميز بتلقائية بين الحاجة والاستغناء. فكان الرد على هذه المزايدة، بأننا جئنا إليكم ببضاعة ثمينة، لا يمكن وزنها ذهبا، تجربة في الانجاز لا تباع ولا تشترى، وإنما هي مصدر يتعلم منه من يريد أن يتعلم. ونملك رغم بساطة حالنا قيمة الاستغناء التي يحتاجها الغني قبل الفقير.
لا تستغربوا مريم وأسرتها
من الخطورة أن تشيع حالة من الاستغراب والتعجب، بين وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، فيتناقل الناس خبر أن مريم فتح الباب، تحدت الفقر والظروف الصعبة، وحصلت على 99%، رغم عمل والدها حارسا بإحدى العقارات، وتعيش فى غرفة واحدة مع أربعة أشقاء. هذا الاستغراب والتعجب، يعبر للأسف عن مغالطة كبيرة وخرافة سلبية جوفاء.  كأن التفوق أصبح حكراً على الأغنياء دون الفقراء، ولا نصيب فيه لأبناء العمال والفلاحين. هذه الخرافة تؤكد أننا لم نعد نفهم جوهر الانجاز والبيئة التي يترعرع من خلالها. فالإنجاز لا يرتبط بالغني والفقر والوضع الطبقي، وإنما يرتبط بالعقل والارادة، ويحتاج إلى بيئة مشبعة بالحب والتضامن والاخلاص والتضحية، وقد عبرت مريم عن ذلك ببلاغة حين أشارت إلى أن أبويها غير متعلمين، لكن تفكيرهما متحضر جدًا، مستطردة: إحنا فلاحين الأصل وأفتخر بهذا، ولم ألجأ لدروس خصوصية، موضحة: "كنت بذاكر يوميا فى محل مغلق حتى الساعات الأولى من الصباح".
حكاية  أحبها عميد الأدب العربي
ولأن مريم تنتمي إلى  فصيل الموهوبين، فإني أهديها حكاية أحبها الدكتور طه حسين. كتب العميد في الثلاثينيات من القرن الماضي، عن طفل موهوب، والده كان عاملا بسيطا استبصر في ابنه أمارات الذكاء، فأرسله الى المدرسة ليتعلم أصول الكتابة، ولكنه لم يستطع أن ينفق على ولده لكي يكمل دراسته، فاستقر الحال بالطفل، صبيا في ورشة حدادة. وفي أحد أيام العمل، أبصر الطفل المعلم الذي كان يعلمه في المدرسة، فاختبئ في ركن من أركان الدكان حتى لا يراه المعلم وهو على هذه الحال، لكن المعلم كان قد لمح الصغير، فذهب لأبيه وعرض عليه أن يوظف الطفل عاملا للنظافة في المدرسة، وافق الوالد، وانتظم الطفل في وظيفته الجديدة، وبدأ يتردد على الكنيسة المجاورة للمدرسة، فتعلم الموسيقى والغناء، وكان الغناء باللغة اللاتينية القديمة، فلم يرض الطفل أن يغني كلاما لا يفهمه، فتعلم اللاتينية  تعلما ذاتيا. وحين اكتشف القس أن الطفل برع في فهم اللاتينية، ساعده على اكمال تعليمه، حتى حصل على الدكتوراه في الفلسفة، وصار أستاذا بالجامعة.  و كان وطنه محتلا إذ ذاك، فامتلئ الشاب حماسة والتف حوله بني جلدته مطالبين بالاستقلال، وأثناء الحرب العالمية الاولى، قاد جيشا من المتطوعين في صفوف الحلفاء بهدف تمكين بلاده من الاستقلال بعد الحرب، وهو ما حدث بالفعل، وإذ بصاحبنا ينتخب أول رئيس لجمهورية تشكوسلوفاكيا، وإذا بالدستور الجديد، يخصه بميزة لا يشاركه فيها أحد، فمن حقه الترشح للانتخاب مدى حياته، في حين لا يباح لغيره البقاء في الحكم إلا دورتين فقط. هذا هو توماس مازاريك، ابن العامل البسيط ، الذي امتهن الحدادة صبيا، ثم صار استاذا بالجامعة، فقائدا لنضال وطنه من أجل التحرر، فرئيسا لجمهورية تشكوسلوفاكيا.
خاتمة:
     مريم فتح الباب مثل كل  الموهوبين، لا يرضون بالدنية في حياتهم، والأسرة التي ربت هذا النموذج أسرة متشبعة بقيم الترفع والاستغناء، وقد استهدفنا من المقال تنبيه المسئولين إلى أن تكريم أميرة الثانوية العامة وأسرتها حق أصيل، لا يمنحه الأفراد المتطوعون للمساعدة، وإن حسنت نواياهم، بل هي الدولة، الوحيدة القادرة على منح هذا الحق  إن أرادت ترسيخ هذا النموذج المشع بالأمل والثقة، والدولة هي الجهة الوحيدة التي إن أعطت هذه النوعية من المتفوقين فإنهم يقبلون منها ويشعرون بقيمة انتمائهم لهذا الوطن الكبير، فهل نحن فاعلون.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟