المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

دوافع الاحتجاجات التركية... أزمة ليست جديدة ولكن متجددة

الخميس 27/ديسمبر/2018 - 02:45 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
مرﭬت زكريا

شهدت العاصمة التركية إسطنبول مظاهرات حاشدة يوم السبت 22 ديسمبر /كانون الأول لعام 2018، احتجاجاً على الوضع الاقتصادي المتدهور وغلاء الأسعار، بسبب تراجع قيمة الليرة التركية على خلفية التوتر الدبلوماسي مع واشنطن؛ حيث فرضت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من العقوبات الاقتصادية على اسطنبول بسبب احتجاز تركيا للقس الأمريكي "أندرو برونسون"، الذي تعرض للسجن بتهمة الارتباط بحزب العمال الكردستاني وجماعة "فتح الله جولن".

وعليه، تم وضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله؛ حيث تصنف تركيا هذه الحركات على أنها جماعات إرهابية. وتسببت العقوبات الأميركية في خسارة الليرة التركية نسبة كبيرة من قيمتها في مقابل الدولار، واستأنفت الليرة انخفاضها مع تطور الخلاف بين واشنطن وإسطنبول، على خلفية المخاوف بشأن سيطرة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" على السياسات النقدية بموجب رئاسة تنفيذية جديدة تمنحه المزيد من الصلاحيات.

كما كان للتضييق على الحريات والحقوق وخاصًة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، فضلاً عن الاهتمام المتزايد بالدور التركي المتنامي في دول الجوار مع اهمال الداخل أثر سلبي كبير على حياة رجل الشارع والمواطن العادي.

أولاً- تدهور الوضع الاقتصادي

تؤكد الشعارات التي رددها المتظاهرون – التي تتمثل في "عمل، خبز، حرية" " الأزمة لهم والشوارع لنا" – معاناة رجل الشارع العادي جراء غلاء الأسعار، الوضع الاقتصادي المتدهور، ارتفاع معدل التضخم، تزايد معدلات البطالة. ولذلك، قامت منظمات عمالية مثل "كونفدرالية نقابات موظفي القطاع العام" بتنظيم التظاهرات والاشراف عليها، ومن هنا شارك فيها مواطنون من جميع أنحاء الدولة (1).

في السياق ذاته، كانت قضية احتجاز القس الأمريكي وتدهور العلاقة بين واشنطن وإسطنبول بمثابة النواة لتراجع الاقتصاد التركي، على خلفية تراجع قيمة الليرة التركية وبالتالي ارتفاع مستويات الدين وحدوث انكماش اقتصادي على المدى الطويل. مما دفع وكالة "Standard and Poor” للتصنيفات الائتمانية تتوقع أن ضعف الليرة سيضع ضغوطاً على الشركات المدينة، وسيزيد مخاطر تمويل البنوك التركية، فضلاً عن أن تشديد الأوضاع المالية في تركيا وضعف الليرة التركية سيعمل على زيادة التضخم وتقويض النمو الاقتصادي.

وعليه، تعاني تركيا من عجز كبير في الميزان التجاري الخارجي؛ فالواردات أكبر من الصادرات، مما تسبب في ضعف الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، مما يدفعها للاستدانة أو محاولة تعويض ذلك عن طريق الاستثمارات الخارجية. نتيجة لما سبق، أشارت التقارير الدولية إلي ارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير منذ عام 2017؛ حيث تزايدت نسبة البطالة حتى وصلت لـ 11.1 % خلال الفترة من يوليو إلي أغسطس لعام 2018، على خلفية انخفاض سعر  الليرة التركية في مقابل الدولار الأمريكي مما أدي إلي حالة من الركود الاقتصادي(2).

ثانياً- وضع الحقوق و الحريات السياسية

بدأت تركيا حملة كبيرة من الاعتقالات و الاغتيالات و لاسيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها اسطنبول عام 2016؛ حيث أشارت وكالة الأنباء الألمانية (دويتشة فيله) إلي أن تركيا اعتقلت ما لا يقل عن 32 الف شخص في إطار تحقيقاتها بشأن حركة "فتح الله جولن" التي تحملها مسئولية الانقلاب الفاشل. كما شنت السلطات التركية حملة تطهير شملت عدد كبير من الأجهزة السيادية في الدولة بما فيها الجيش، المؤسسات التعليمية و الإعلام(3).

ومن هنا، انتقد بعض المحللون أوضاع الحريات السياسية في تركيا، التي تتمثل في قمع حرية الصحافة و لاسيما في الموضوعات التي تخص الحديث عن منع تفعيل التعديلات الدستورية التي  سيتمتع بموجبها "أردوغان" بصلاحيات واسعة بما في ذلك داخل السلطة القضائية(4).

نتيجة لما سبق، أشارت مؤسسة "Freedom House" إلي تراجع تصنيف تركيا بين دول العالم؛ حيث انخفض تصنيفها للحريات السياسية من 4 إلي 5 و الحريات المدنية من 5 إلي 6 على خلفية المحاكمات التعسفية لنشطاء حقوق الإنسان واستمرار عمليات التطهير  داخل المؤسسات الحكومية، التي جعلت جميع المواطنين مترددين في التعبير عن أراءهم بشأن الموضوعات السياسية. و من الدلائل الواضحة على ذلك، أنه بعد فشل انقلاب عام 2016، ازدادت سيطرة الحكومة على البلديات التي كانت من نصيب المعارضة عن طريق اجبار  رؤساء البلديات على الاستقالة في سياق عملية التطهير الواسعة للمرشحين المحتملين لتولى المناصب السيادية في البلاد(5).

ثالثاً- الدور التركي في الخارج

لم تخف تركيا أهدافها قط من أن يكون لها دور بارز في منطقة الشرق الأوسط، وهو هدف انتقل من الدولة العثمانية إلي الأتاتوركية. ويسير الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط على خطى الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تسعى لإبراز نفوذها في دول الجوار الاقليمي. ولكن تدخلت تركيا بعد أحداث الربيع العربي في أغلب دول الثورات ومنها مصر، تونس، العراق و سوريا(6).

في السياق ذاته، كانت سوريا من أبرز الدول التي تدخلت فيها تركيا بوصفها قضية أمن قومي، ولاسيما مع سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على نحو ثلث مساحة سوريا مما أثار قلق تركيا. و تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتحجيم نفوذ الأكراد، سعت تركيا لتوسيع نفوذها في شمال سوريا، منذ أن اطلقت عملية درع الفرات في عام 2016 . و لم يقتصر الدور التركي في دمشق على البعد السياسي، بل أمتد للتأثير من الناحية الثقافية وخاصةً على اللغة، الكتب المدرسية، لافتات الطرق والمؤسسات العامة التي انتشر التعامل فيها باللغة التركية(7).

كما ترتبط تركيا مع العراق بحدود جغرافية مشتركة مكنتها من السيطرة على الداخل العراقي و لاسيما بعد انهيار نظام صدام حسين؛ حيث نصبت اسطنبول نفسها بمثابة بوابة النفط العراقي لأوروبا في محاولة لتجاوز روسيا. كما يتم نقل ما لا يقل عن  1500 شاحنة من السلع (الملابس، الأثاث، الطعام) عبر  الحدود الشمالية بين بغداد و إسطنبول، فضلاً عن 15 الف تركى يعملون في مدينة أربيل بالعراق، وتشكل الشركات الاستثمارية التركية ثلثي الشركات الأجنبية العاملة في هذه المدينة، إلي الحد الذي جعل القنصلية التركية في أربيل تصدر حوالى 300 تأشيرة يومياً(8).

في النهاية: أدي كل ما سبق من تدهور لقيمة العملة المحلية المتمثلة في الليرة التركية و الذي أدي بشكل طبيعي إلي انخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية و ارتفاع معدلات البطالة ومن هنا، تدني معدل النمو الاقتصادي، حملة الاعتقالات الكبيرة التي شنتها الحكومة التركية منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي اتهمت فيها جماعة "فتح الله جولن" عام 2016 إلي انخفاض معدل الحريات السياسية والمدنية للمواطنين داخل الدولة والتأثير على الرأي العام، بما فيها حرية الصحافة و التعبير عن الرأي، التداعيات السلبية للدور التركي في الخارج و لاسيما في سوريا و العراق مع اهمال الداخل إلي فرض ضغوط متزايدة على المواطن العادي مما جعله يخرج إلي الشارع للتعبير عن غضبه.

على الناحية الأخرى، ارتبطت الاحتجاجات داخل تركيا بالتظاهرات التي صعدت في أوروبا خلال ديسمبر 2018 لنفس الأسباب التي تتمحور حول غلاء الأسعار والمعيشة، اتساقاً مع نظرية المد الثوري التي انتشرت في الشرق الأوسط بعد أحداث الربيع العربي في عام 2011 .

الهوامش:

1.       الألاف يتظاهرون في إسطنبول احتجاجاً على غلاء المعيشة، القدس العربي، 22/12/2018، متاح على الرابط التالي http://cutt.us/u7Q54 

2.       بالأرقام: كيف انهارت الليرة ؟ وماذا ينتظر الاقتصاد التركي، سكاي نيوز عربية، 8/8/2018 ، متاح على الرابط التالي http://cutt.us/3SGXT 

3.       ضربة جديدة للاقتصاد التركي، سكاى نيوز عربية، 15/11/2018 ، متاح على الرابط التالي http://cutt.us/9HeP 

4.       تركيا تعلن اعتقال 32 الف شخص منذ محاولة الانقلاب، وكالة الأنباء الالمانية (دويتشة فيله)، 28/9/2016 ، متاح على الرابط التالي http://cutt.us/W7iDR 

5.       افتتاحية فايننشال تايمز: أو دوغان يدهس على حريات تركيا، مصراوي، 29/4/2018 ، متاح على الرابط التالي http://cutt.us/XvGuu

6.             Turkey Profile, freedom house in the world 2018, available at https://freedomhouse.org/report/freedom-world/2018/turkey

7.       محمد الخاقانى، السياسة الخارجية التركية و البحث عن دور إقليمي جديد، المركز العربي للبحوث والدراسات، 30/3/2017 ، متاح على الرابط التالي http://www.acrseg.org/40475 

8.       اطماع تركيا في شمال سوريا: من الأرض إلي اللغة وحتى العملة، سكاي نيوز عربية، 31 /10/2018 ، متاح على الرابط التالي http://cutt.us/ZToHC  

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟