المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
آية بدر عليوة
آية بدر عليوة

منطقة التجارة الحرة وتعزيز التكامل الأفريقي

الثلاثاء 03/سبتمبر/2019 - 12:19 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات

كان  الرئيس "السيسي" قد أعلن عن بدء سريان اتفاقية التجارة الحرة بين الدول الأفريقية، خلال افتتاح القمة الاستثنائية للاتحاد الإفريقي في "نيامي" عاصمة النيجر في يوليو 2019، ولكن ما الذي تعنيه مثل تلك الخطوة وما هي انعكاساتها على دول القارة، وهل يمكن أن تؤدي إلى ما هو أعمق من اتفاق تجاري؟

في البداية نلقي الضوء على تلك الاتفاقية وما تتضمنه من أهداف وما تحمله من خطى مستقبلية، حيث تستهدف الاتفاقية ازالة الحواجز الجمركية بين الدول الخمس وخمسين للقارة تدريجيا بعدما تلتزم بخفض الرسوم الجمركية على التبادل التجاري بين بعضهم البعض خلال خمس سنوات لتصل لنسبة 90%، كما تستهدف كذلك تعزيز التجارة الالكترونية والتحول الرقمي عبر خلق نظام إلكتروني موحد للدفع، وتسعى كذلك لتأسيس مركز معلومات لرصد التجارة الأفريقية، ومن المقرر أن يتم تفعيل منطقة التجارة الحرة في 2020 كي يتاح للدول الاستعداد للتكيف مع التحولات الناجمة عن ذلك الاتفاق التجاري.  كما أن للاتفاق ثلاثة بروتوكولات ملحقية وهي البروتوكول الخاص بتجارة السلع لتيسير التجارة البينية داخل القارة وتسهيل تبادل السلع والانتاج الصناعي والزراعي، وبروتوكول تجارة الخدمات لتيسير التبادل الخدمي بين الدول، وبروتوكول تسوية المنازعات والذي يتضمن القواعد والإجراءات والاليات التي يتم اللجوء إليها لتسوية النزاعات بين دول القارة.(1) ووفقًا لتقديرات الاتحاد الافريقي فإن مثل تلك الاتفاقية من أنها أن تدفع التجارة البينية بين الدول الافريقية للزيادة لتبلغ نحو 60% بحلول عام 2022 بعدما كانت 16% فقط في الوقت الراهن قبل تفعيل اتفاقات التجارة الحرة.(2)


وتلك الخطوة ليست الأولى الساعية نحو تحقيق التكامل الأفريقي على الصعيد الاقتصادي فقد سبقتها العديد من المساعي والمفاوضات المتعثرة عبر عقود من الزمن، ليصبح مثل ذلك التكامل حلمًا بعيد المنال راود الآباء الأوائل للوحدة الافريقية قديمًا لكنه في سبيله للتحقق عبر ذلك الاتفاق وما سبقه من محاولات لتحقيق التعاون الاقتصادي جزئيا بين بعض التكتلات الجغرافية داخل القارة.
ولكن هل يمكن أن تؤدي مثل تلك الخطوة إلي ما هو أعمق من التبادل التجاري وازالة الحواجز الجمركية لتيسير التجارة البينية؟ ويمكننا الاجابة عن هذا التساؤل من خلال قراءة تجربة مماثلة وهي تجربة الاتحاد الأوروبي: حيث لم يصل لمرحلة التكامل الاقتصادي دفعة واحدة؛ إنما مر ذلك بمراحل تدريجية بدءا بتيسير تجارة الصلب وصولا لتدشين عملة قوية موحدة (اليورو). ولم يقتصر الأمر على الأبعاد التجارية والاقتصادية وحدها حيث انطلقت القارة الأوروبية نحو تأسيس كيانات سياسية تعكس الارادة الموحدة للدول الأعضاء مثل البرلمان الأوروبي، كما نجحت الدول الأوروبية في تحقيق التكامل على مستوى الشعوب من خلال منظومة (شنجن) لتيسير انتقال مواطني الاتحاد الأوروبي داخل كافة أراضيه دون اعتبار للحدود السياسية للدول.(3)

ثمة مؤشرات إيجابية تدفعنا للتفاؤل بما قد ينجم عن مثل ذلك الاتفاق التجاري من تعميق التكامل الإفريقي، حيث تتفق الارادة السياسية والاقتصادية لدول القارة وتتشارك في بعض الشئون التي قد تمثل أرضًا خصبة لتعميق التعاون والتكامل على كافة الأصعدة انطلاقًا منها، على سبيل المثال تعتبر القارة الافريقية من أهم المناطق لإنتاج وتصدير المواد الخام للتصنيع والمعادن النفيسة والمنتجات الزراعية وكذلك النفط والغاز الطبيعي، بما يشير إلى امكانية إيجاد أطر مؤسسية تحقق المزيد من التنسيق والتعاون للتعبير عن الارادة المشتركة لتلك الدول عند المشاركة في حركة التجارة العالمية بمثل تلك السلع الاستراتيجية بما يحقق الفائدة الأعظم للدول الأفريقية ويحول كفة ميزان التجارة العالمية لصالحها، كأن يتم التنسيق والاتفاق حول كميات الانتاج للحفاظ على سعر بيع وتصدير تلك السلع لحمايتها من تدني السعر في ظل غياب التنسيق المشترك حول الكميات المعروضة بما يهدر فرص الدول المصدرة لحماية أرباحها وإنتاجها.

ومجال الطاقة يعتبر أحد المجالات الواعدة لتحقيق الصحوة الاقتصادية لأفريقيا مستقبلاً خاصة في قطاعات الطاقة النظيفة الواعدة في القارة ، ونشير في هذا الصدد إلي مشروع الربط الكهربي وهو ما تسعى مصر من خلاله لأن تكون مركزًا لنقل الإنتاج الكهربي الأفريقي إلى أوروبا بحلول عام 2035.(4) بالإضافة لمسعى مصر أيضًا كي تكون مركزًا إقليميًا لنقل وتصدير الغاز الطبيعي للقارة الأوروبية عبر محطات التسييل وخطوط الغاز المصرية الممتدة بالبحر المتوسط التي يمكن التعويل عليها لتعميق التعاون بين الدول الأفريقية المنتجة للطاقة.(5)


كما أن بعض الدول الأفريقية لديها بنى تحتية متطورة تمثل قاعدة يمكن البناء عليها لتطوير الانتاج الصناعي وتحسين سبل معيشة المواطنين، ويمكن تعزيز التعاون بين تلك الدول لنقل خبراتها لباقي الدول الأفريقية بما يسهم في تعزيز التنمية الشاملة للقارة الأفريقية ويدفعها لتطوير نمط إنتاجها وسلعها التصديرية كي تصبح أكثر تنافسية في حركة التجارة العالمية باعتبارها أحد الأسواق الناشئة الواعدة في المستقبل.

بالإضافة لما تملكه القارة من طرق رئيسية تمر بها حركة التجارة العالمية وما تطل عليه من بحار ومضائق وموانئ هامة يمكن للدول الأفريقية عبر اتفاق التجارة تطوير اتفاقات تعاونية تتيح المزيد من التنسيق لإدارة وتطوير تلك الطرق والموانئ بما يعظم مكاسب القارة الأفريقية. الجدير بالذكر أن مبادرة الحزام والطريق التي تنخرط بها دول القارة تستهدف تطوير طرق التجارة المدرجة ضمن المبادرة،(6) ويمكن للدول الافريقية تحقيق أقصى استفادة من المبادرة الصينية من خلال التفاوض الجماعي عبر الكيانات المعبرة عن الارادة العامة والساعية لتحقيق المصالح المشتركة بدلاً من تفاوض كل دولة بمفردها مع الطرف الصيني.

وفي هذا السياق أيضا نشير إلى مسعي مصر لتأسيس مشروع خط سكك حديد كيب تاون-القاهرة، وهو أحد المشروعات التنموية الكبرى على صعيد القارة الأفريقية الذي يستهدف ربط القارة شمالها بجنوبها لتيسير حركة التنقل والسفر بين الشعوب الأفريقية.(7)


وتتشارك دول القارة جميعًا فيما تواجهه من خطر الإرهاب الذي يعد واحدًا من أكبر التحديات المشتركة التي تهددهم جميعًا وتستلزم جهدا وإرادة مشتركة للتصدي له وهو ما يمكن العمل عليه عبر الآليات المؤسسية المختلفة مثل الاتحاد الأفريقي، من أجل تعزيز التكامل الاقتصادي وتذليل كافة العقبات التي تواجهه بما يجعل التكامل الاقتصادي غاية ووسيلة في آن واحد للتصدي للإرهاب.  كما أن القارة الأفريقية تخطو بقوة نحو تحقيق التحول الرقمي للحاق بركب الثورة الصناعية الرابعة والاستفادة من مكتسباتها بما يوفر بيئة ملائمة لتعزيز التكامل بين دول القارة على كافة الأصعدة بالاستفادة من ثورة الاتصالات والمعلومات.(8)

وبالنظر إلى طيات اتفاق التجارة الحرة وملحقاته نجد أنه يحمل بعض المؤشرات الإيجابية التي تسهم في الحفاظ على أطر التعاون والتكامل الاقتصادي واستدامة أطر التجارة الحرة بين دول القارة، ونشير بصفة خاصة إلى آليات فض المنازعات بين الدول والتي من شأنها تقليص الصراعات والحروب وتحقيق السلام والاستقرار ومن ثم التنمية المستدامة على المدى البعيد؛ فارتباط الدول عبر اتفاقات تجارية واقتصادية وتشابك مصالحهم يقلل من فرص اللجوء للحروب والصدامات المباشرة وتفضيل اللجوء للتفاوض والحوار  والحسم السلمي للنزاعات والخلافات، وهو ما يستق مع اتفاقية الاتحاد الأفريقي لمنع ومكافحة الفساد والتي انبثق عنها المنتدى الأفريقي لمكافحة الفساد، فمثل تلك الجهود من شأنها تعزيز الاستثمار وحرية التجارة وإزالة العراقيل التي تقيدها.(9)

العراقيل والتحديات التي تعيق مثل تلك المساعي ويأتي على رأسها معدلات الفقر المتزايدة بين شعوب القارة وتفاوت معدلات التنمية فيما بينها. كما أن العديد من الدول الأفريقية تعاني من تحديات سياسية ومجتمعية داخلية تحيد بتلك الدول عن الاهتمام بالتكامل الافريقي وتجعلها توجه كافة امكاناتها وتنشغل بالشأن الداخلي المتأجج، مثل عدم الاستقرار السياسي والصراعات الداخلية التي قد تصل للحروب الأهلية، وكذلك فساد النظم الحاكمة وسوء تقديرها للمصالح القومية وعدم السعي لتحقيقها.  بما يغرق الدول في أزماتها الداخلية ويجعلها تعزف عن السعي نحو تعزيز التعاون الخارجي، والنتيجة الحتمية لهذا المأزق أن يظل مثل ذاك الاتفاق التجاري - وما على شاكلته - حبرا على ورق خالية من أي إرادة حقيقية لتصبح أطرًا شكلية للتعاون خالية من أي مضمون.

وفي المقابل نجد أن السياق العالمي في الوقت الراهن يشهد ارتدادا عن الأطر التكاملية الاقليمية والعودة للمصالح الوطنية المحدودة في ظل تصاعد تيار عالمي مناهض للعولمة بدءًا من الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" وسياساته المعرقلة للتجارة الحرة مع كافة القوى الاقتصادية الأخرى والتي من شأنها تهديد التنافسية وحرية حركة التجارة والنمو الاقتصادي العالمي. بالإضافة إلى ما يشهده الاتحاد الأوروبي من تحديات جذرية بعد إعلان بريطانيا خروجها منه والتي تعرف "بالـبريكسيت". شأن تلك التطورات الدولية قد تمثل سياقًا عالميا مثبطًا للتجربة الأفريقية الوليدة قبل خروجها للنور بما يجعل من الصعب تصور ما قد تؤول إليه مساعي التكامل الافريقي.

ولا يسعنا بالأخير سوى القول بأن المستقبل قد يشهد إمكانية الانطلاق نحو ما هو أعمق من مجرد اتفاق لتأسيس منطقة تجارة حرة بالاستفادة من التجربة الأوروبية وتعزيز التعاون عبر الأطر الموجودة بالفعل  مثل منظمة الاتحاد الافريقي للتحول نحو بلورة إرادة إفريقية مشتركة تصل إلى حد الهوية الأفريقية على المدى البعيد سياسيًا وثقافيا بالاعتماد على الجوانب الاقتصادية والسعي وراء التنمية المشتركة وتدشين عملة أفريقية موحدة مع وجود إرادة سياسية وشعبية قوية تحرص على حل كافة الخلافات ويتوافر لديها الإصرار على استمرارية التعاون واستدامته بما يسهم بالأخير في تحقيق التنمية الأفريقية وصعودها كقوة عالمية على المدى البعيد مالم تتعرقل بفعل التحديات الداخلية ومعوقات السياق العالمي.

المصادر

(1) مذكرة شارحة للاتفاق المنشئ لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، وزارة التجارة والصناعة، (ملحق)، التقرير 13 للجنة المشتركة المكونة من لجنة الشئون الاقتصادية ومكتبي لجنتي الخطة والموازنة و الشئون الأفريقية، مجلس النواب المصري، فبراير 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://www.elwatannews.com/iframe/pdf/19809428711550667882.pdf.

(2) وكالة فرانس برس، قمة الاتحاد الأفريقي: توقيع اتفاق "تاريخي" للتجارة الحرة في القارة، موقع فرانس 24 عربي، 8 يوليو 2019 متاح على الرابط التالي https://bit.ly/2xCHwwQ

(3) Group of Researchers, The historical development of European integration, Fact Sheets, European Parliament, June 2018, available at :

http://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/PERI/2018/618969/IPOL_PERI(2018)618969_EN.pdf

(4) اسلام المصري، الكهرباء: شبكة النقل الأفريقية والربط الكهربائي الإقليمي يعززان أمن الطاقة، بوابة فيتو، 13 يونيو 2019 متاح عبر الرابط التالي:                    https://www.vetogate.com/3496768

(5) آمال الشيخ، مصر مركز إقليمي للطاقة فى شرق المتوسط، الهيئة العامة للاستعلامات،  21فبراير 2018، متاح عبر الرابط التالي:

  http://www.sis.gov.eg/Story/159715?lang=ar

(6) سمر صالح، تصدرت منتدى "الصين - إفريقيا".. ما مبادرة "الحزام والطريق"؟، موقع الوطن الاخباري، 3 سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:

 https://www.elwatannews.com/news/details/3632920

(7) هناء أبو العز، تنفيذا لأجندة 2063.. قمة للسكك الحديدية فى كيب تاون بمشاركة مصر،  اليوم السابع، 25 فبراير 2019 متاح عبر الرابط التالي:

 https://bit.ly/2zmP9sc

(8) محررو بوابة روز اليوسف،  «قمة التحول الرقمي لإفريقيا» تبحث تعزيز الاقتصاد الرقمي للقارة، بوابة روز اليوسف، 15 مايو 2019، متاح عبر الرابط التالي:

 http://www.rosaelyoussef.com/news/details/449577

(9) محمد علي حسن، ما اتفاقية الاتحاد الأفريقي لمنع ومكافحة الفساد الموقعة منذ 16 عاما؟ موقع الوطن الاخباري، 11 يونيو 2019، متاح عبر الرابط التالي:

  https://www.elwatannews.com/news/details/4201394

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟