المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
أحمد نبوي
أحمد نبوي

"النهضة" التونسية ... قراءة في مسار الحركة وتجربتها في الحكم

الأحد 26/يناير/2020 - 02:09 م
المركز العربي للبحوث والدراسات

يبدأ التأريخ لنشأة حركة النهضة في تونس في العام "1972”، وذلك بنشأتها تحت مسمى "الجماعة الإسلامية" ثم تحول الاسم إلى "الجهاد الإسلامي" نهاية بــ "حركة النهضة" وهو المسمى الحالي للحركة.

                لَكِن وإن كان هذا التأريخ هو ما يصلُح زمانيًا، إلا أننا نقترح مجازًا تأريخًا آخر للحركة يُقسم تطورها لثلاث مراحل، الأولى هي تاريخ النشأة في العام "1972”، حيث وضعت اللبنات الأولى للحركة، وتتالت بعدها المؤتمرات العامة للحركة، التي صكت فيها منهجها وعقيدتها الفكرية، والثانية نقترح لها العام "2011" وما أحدثته الثورة التونسية من انفتاح مكن الحركة من الوصول للسلطة والانتشار الواسع، والثالثة في العام”2016”، وذلك في المؤتمر العاشر للحركة، وهو المعروف لاحقًا بمؤتمر الفصل بين السياسي والدعوي.

وفي هذا التقرير نشرعٌ في قراءة مسار الحركة من مرحلتها الثانية، حيث التحول من جماعة معارضة لجماعة حكم في العام "2011"، وذلك بالاشتباك مع مسارات محددة، نعتقدُ بأن الحركة قد انتهجتها في تجربتها للحكم. لننتهي باستشراف مستقبلي لمستقبل الحركة.

الأسلمة كبديل للدمقرطة

                واحدة من الخيارات الأساسية التي انتهجتها الحركات الإسلامية في تجاربها في الحكم من قديم، كان خيار الأسلمة للمؤسسات في دولها، كان هذا الخيار الإستراتيجي للإسلاموية الواصلة للحكم، سواء كان الحديث عن طالبان أفغانستان أو إسلاميو السودان أو إخوان مصر أو غيرها من تجارب. نَبع هذا الخيار من تصور أن وجود تابعين لهذه الحركات داخل أجهزة الحكم والإدارة، سيضمن لهم حماية وهيمنة على جهاز الحكم، ومن ثم استخدام هذه المؤسسات ضد الخصوم السياسيين عند الحاجة، كان هذا واضحًا في تجارب عديدة من أهمها تجربة الإخوان المسلمين في مصر، ونجاح أو فشل عملية الأسلمة ليس هو النقطة المحورية في حقيقة الأمر، لَكِن الخيار في ذاته هو الإشكال على الحقيقة.

                فلم تدرك هذه الحركات أَنَّ الأسلمة لهذه المؤسسات يصنع منها مادة قابلة للتشكيل وإعادة التشكيل مرة أخرى تبعًا لأيديولوجية النظام الحاكم، فإذا سقط الإسلام السياسي اليوم، وجاء بعده اليسار، أو الليبراليون أو غيرهم، فإننا سنكون أمام استخدام وتلون لأجهزة الدولة في كل مرة.

                أما الدمقرطة فهي الغائبة عن هذه التجارب الإسلامية في الحكم، والدمقرطة تعني هنا التأسيس لمؤسسات حكم تقف على مسافة واحدة من الجميع، ولا تُفرق بين مواطني الدولة على أي أساس غير أساس المواطنة، فلا يعنيها الأيديولوجية السياسية أو الدين أو المذهب أو العرق أو غيره. هذه الدمقرطة غابت عن أُفق الحركات الإسلامية، وتبدلت برغبة عارمة في الهيمنة وبسط النفوذ ومحاولة الحصول على القدر الأكبر من الكعكة -كعكة الوطن -. وهو الخيار الإستراتيجي الذي كان حاسمًا في فشل هذه التجارب وفي تآكل التيار الإسلامي على امتداد التجارب الإسلامية الواصلة للحكم.

                وفي تونس اليوم، ثَمَّة قطاٌع عريض يشكو اليوم مما شكا منه قطاع عريض من المصريين من قبل، من محاولات النهضة السيطرة على جميع مفاصل الدولة التونسية والهيمنة على الحكم، وهنا نحن لسنا أمام تداولية حزبية، بقدر ما نحن أمام محاولة من الأطراف المتصارعة على الحكم، لتسكين رجالات لها في جهاز الدولة بعيدًا عن اعتبار الكفاءة وأسس المواطنة.

ورغم أَنَّ النهضة وقياداتها تحاول جاهدًة دفع هذه الدعوى عنها، لَكِن يجادل البعض أن الأسلمة مفهوم متجذر داخل بنية الحركات الإسلامية، يأخذ أحيانًا معنى التمكين، وهو خيار إستراتيجي للإسلام السياسي، لا تنفع معه تصريحات النفي أو المناورات السياسية في لحظات المِحن.

النهضة والفَصل بين الدعوي والسياسي

                نعتقد بأن هذا التحول الذي أُقر في المؤتمر العاشر "2016" هو الأهم للحركة في أعوامها الأخيرة، لما له من آثار مستقبلية قد لا تضح معالمها في القريب، إذ تتعلق ببنية الحركة الداخلية وأسسها التي بُنيت عليها، ولهذا التحول تُنسب كثيٌر من الإخفاقات الحالية والتآكل الشعبي للحركة في الداخل التونسي كما رأى بعض المحللين. [1] في حين رأى البعض في التحول انطلاقة جديدة للحركة خاصة وأنها أقرت فيه بمبدأ التخصص في العمل السياسي وترك العمل الدعوي والخيري للمجتمع المدني. [2]

                فقد ظلت الحركات الإسلامية في ربوع العالم العربي والإسلامي، تُصدرُ لعقود خطابًا نصيًا، يُعلي من قيمة النص على الواقع وقراءته، خطاٌب يميل إلى أحاديات جامدة، تفتقر للديناميكيّة. فمع الإسلاموية نحن دائمًا أمام ثنائيات من قبيل الإسلام والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الإسلام والعلمانية، الدولة القومية والخلافة، وهكذا. ظلت هذه الثنائيات حائطًا صلبًا يمنع الإسلام السياسي من رؤية الواقع، لَكِنه في المقابل ضمن لهذا التيار موقعًا بين جماهير تميل إلى الحدية التي تريح الذهن من عِبْء التعقيد والتجريد، فـ"الإسلام هو الحل" سيكون شعارًا جيدًا، لأنه ببساطة يُلبي حاجات نفسية سريعة يحتاجها المَرْء في عالم الثابت الوحيد فيه هو التغير بلغة هرقليطس، وإن كان السؤال الأهم سيبقى كيف يتم إنزال هذا الإسلام على الواقع؟ وهو السؤال الذي رغم ما رأى فيه الإسلاميون لعقود مضت من بداهة لا نحتاج معها إلى كثير جُهد، كان هو السؤال نفسه الذي فشلت كل الحركات الإسلامية على طول القُطر العربي في الإجابة عنه، ومعه فشلت تجاربها في الحكم. النهضة التونسية ليست استثناءً من ذلك كما يرى البعض، فالحركة ومع وصولها للحكم في العام "2011" ورغم نجاحها في تسيير المسار الديمقراطي مع بقية الأطراف التونسية الفاعلة، إلا أنها فشلت على مستويات اقتصادية ومجتمعية في الإجابة على أسئلة الواقع وفشلت في دعواها ودعوى التيار الإسلامي الكبرى في تطبيق الشريعة الإسلامية.

                فصلت النهضة إذا بين السياسي والدعوي كما فعل العدالة والتنمية في تركيا والمغرب، وهو ما يمكن اعتباره تخفيفًا يسببه الخجل من قول: الفصل بين الديني والسياسي، لأن الحديث عن هذا الفصل هو في الحقيقة حديٌث عن العلمانية كما تصورها الإسلاميون لعقود، وكرسوا لنقدها جُل أدبياتهم.

                ورغم أَنَّ البعض قد يتصور أنه لا علاقة تربط هذا التحول في توجه النهضة في العام "2016" والتآكل الحادث حاليًا داخل الحركة وفشلها في تمرير حكومة "الحبيب الجملي" إلا أننا نحاجج ب أَنَّ ثَمَّة علاقة وثيقة هنا، نعزو إليها تآكلات النهضة في الفترة الأخيرة، وتآكل جزءًا كبيرًا من قواعدها الجماهيرية، بل وانشقاق بعض قادتها مثل زياد بومخلاء وهشام العريض وعبد اللطيف مكي، ونعتقد هنا بأَنَّ هذا النزيف سيستمر في الفترة القادمة، إلى أن يترسخ ما بدأه الغنوشي من فصل، أو تتحلل الحركة إلى أحزاب صغيرة.

في الانعتاق من إرث الإخوان المسلمين

                يطرح فصل النهضة بين السياسي والدعوي، سؤالًا مهمًا حول علاقة النهضة بجماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر، وبشكل عام علاقتها بالإسلام السياسي، وهو السؤال الذي بادر الغنوشي بالإجابة عنه حين صرح: “مصطلح الإسلام السياسي لم يعد مبررًا في تونس، ونفضل عبارة مسلمون ديمقراطيون". [3]

                هذا التصريح يأخذنا في الحقيقة لنقطة مهمة تتعلق بتعقُل المسار الحالي للإسلام السياسي في المنطقة، فرغم الجدل الحالي حول نهاية الإسلام السياسي من عدمه، إلا أننا يمكن  أَنَّ نرى فيما يفعله النهضة وقائده ومنظره راشد الغنوشي زفرة ذبيح، يحتفظ بفرصه في البقاء، فالإسلام السياسي اليوم يعيش موجة تراجع حادة، تصل إلى تنبؤ البعض باستئصاله نهائيًا من المنطقة العربية، هذه الموجة من التراجع نعتقد أنها مهدت الطريق للنهضة بأخذ هذا المسار المهادن للغرب فيما عُرف بموجة دعم الإسلام التقدمي، ولتوجه المنطقة العام الرسمي والشعبي، الذي يرفض قطاع كبير منه أشكال الإسلام السياسي التقليدية.

                وهنا يُطرح سؤالٌ آخر لا يقل أهمية، حول طبيعة هذا الانعتاق، هل هي مُوَاءَمَة سياسية مؤقتة، ونزولًا على رغبة التيار العام؟ أم هي مراجعة فكرية حقيقية تنبع من قراءة الواقع الحالي للحركة؟ ينافح الغنوشي عن أن التحول هو تطور طبيعي لمسار الحركة الذي أخذ مسارات مختلفة في عقوده الأربعة الأخيرة. في حين يرى البعض الآخر أَنَّ التراجع الأخير للنهضة إنما هو خطوات إستراتيجية للخلف الغرض منها تخفيف الضغط عن الحركة، وفي نفس الوقت تفاديًا لسيناريوهات أخرى مجاورة تخشى الحركة من تكرارها.

                لَكِن من الجدير بالملاحظة، أَنَّ محاولات النهضة في الانعتاق من إرث الإخوان المسلمين، والحديث عن أَنَّ الجماعة مجرد حليف وليست مرجعية، يأتي ضمن موجة تنتشر في عموم حركات الإسلام السياسي في المنطقة، يتصدرها العدالة والتنمية في تركيا والمغرب. لَكِن في الحقيقة يعتقد الكثير من المحللين في غرائبية هذه الدعاوى، لأَنَّ ما يجمع هذه الحركات كما يرى البعض ليس مجرد مواقف وتصريحات هنا وهناك، بل بُنى فكرية وعقائدية وأدبيات ترسخت على مدار عقود خلت، ولا يمكن الانعتاق منها بهذه السهولة التي قد يتصورها البعض، كالغنوشي مع حركة النهضة.

                هذه الصعوبة في الانعتاق من الإسلام السياسي التقليدي، تُفسر التآكل في صفوف النهضة في تونس، الذي اعتَبَر بعض من أفرادها الانعتاق خيانة لمسار الحركة، وانتكاسة عن مبادئها، وهو ما يحاول الغنوشي نفيه منذ المؤتمر العاشر وإلى اليوم مع كل مناسبة.

قراءة في مستقبل الحركة

                بناءً على المعطيات الحالية، وبقراءة المشهد التونسي، يبدو أننا أمام حالة من التراجع العام التي تعيشها الحركة في الداخل التونسي. خاصة بعد فشل النهضة الأخير في تمرير حكومة الحبيب الجملي. وترى الباحثة في شؤون الجماعات الإسلامية الفة يوسف، أَنَّ "هذه الخسارة ليست الأولى ولَكِن هي الأكبر والأقسى، وتبقى نسبية لأَنَّ (النهضة) تملك العدد الأكبر من المقاعد في مجلس النواب". [4]

                وتواجه النهضة خطر التشرذم، بعدما جرى الاعتراف بما لا يقل عن 50 حزبًا سياسيًا، البعض منه ذو توجهات إسلامية صريحة قد تنافس النهضة في قاعدتها الشعبية التقليدية. وتواجه النهضة أيضًا البروز غير المتوقع كما يرى البعض للحركة السلفية الشبابية، وبخاصة حزب التحرير. وهو التنامي المرجح زيادته بعد الفصل الأخير للنهضة بين السياسي والدعوي. [5]

                لَكِن يبقى السؤال الأهم حول مستقبل النهضة، يتعلق بهل يقبل المجتمع الإقليمي والدولي بالنهضة في شكلها الجديد أم لا؟ وهذا السؤال تُجيب عنه السنوات القادمة، لَكِن الحركة ممثلة في قائدها الغنوشي، لا تألو جهدًا في الدفاع عن توجهها الجديد، وذلك بزيارات مكوكية يقوم بها الغنوشي لدول عديدة للتبشير بالنهضة كحركة تقدمية حداثية، يمكن التعامل معها كحزب سياسي مدني يقبل بالدولة القومية وبقواعد اللُعبة الديمقراطية.

خلاصة

                رغم  أَنَّ كثيٌر من الباحثين في شؤون الحركات الإسلامية يعتبر النهضة الحركة الأكثر ديناميكية على الساحة العربية في الوقت الراهن، وذلك لتقديمها البرجماتية السياسية في صراعاتها الداخلية، واستفادتها من دروس الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة، لَكِننا نعتقد بأَنَّ مسار الحركة أخٌذ في الأفول، ونرى هذا الأفول ذات أفقين الأول: إقليمي يتعلق بالأفول العام للإسلاموية في المنطقة وجاذبيتها المتراجعة، لما رآه الشارع العربي من فشل الإسلاموية في تجارب الحكم المختلفة، والتي قادت مجتمعاتها إلى حالات من الفشل الكلي تضافرت معها عوامل وفاعلون آخرون.

                والأفق الثاني: هو أفق نظري ومعرفي بالأساس، فمشكلة الإسلام السياسي لا تقع خارجه، أي في الدول التي حكمها، بقدر ما تقع بداخله، أي في المشروع الإسلامي بذاته.  فالمشروع بالأساس وكما يرى البعض هو مشروع متهافت، بٌني على أوهام وتصورات يوتوبية، لا تمت للواقع بصلة، إنما هي تراكيب لفظية وشعارات اختلقتها الحركة لحشد التأييد على مدار عقود، و أَنَّ المشروع نفسه به من التناقضات ما يستحيل معها تطبيقه على أرض الواقع، إذ هو في حقيقته مجموعة من الشعارات المطاطة التي لا يتلازم معها برامج تطبيقية يمكن إنزالها على أرض الواقع، ويستشهد هؤلاء بتجربتي الحكم اللّذَيْن قادتهما حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس، إذ  أَنَّ الحركتين قد فشتلا في تحقيق ما أُطلق عليه المشروع الإسلامي من عقود، بل إننا وعلى العكس من ذلك رأينا ارتدادات جوهرية عن هذا المشروع لن يكون أخرها فصل النهضة بين السياسي والديني كما يقول البعض، بل ربما يصل الأمر لقطيعة كاملة مع الإسلام السياسي مستقبلًا.

قائمة المراجع

 [1] تونس: حركة النهضة تقر الفصل بين نشاطاتها الدينية والسياسية خلال مؤتمرها العاشر، فرانس 24، 23 مايو 2016، يمكن قراءة المقال كاملًا على الرابط التالي: https://2u.pw/dsfGK

[2] المرجع السابق

[3] الغنوشي: حركة النهضة الإسلامية "تخرج من الإسلام السياسي"، دويتشه فيله، 19 مايو 2016، يمكن قراءة المقال كاملًا على الرابط التالي: https://2u.pw/Ogm6K

[4] باسل ترجمان: تونس... أسئلة عن مستقبل حركة "النهضة"،12-1-2020، إندبندنت عربية، يمكن قراءة المقال كاملًا على الرابط التالي: https://2u.pw/dlm6y

[5] رجاء البصلي: مستقبل حركة النهضة في تونس،20-4-2011، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، يمكن قراءة المقال كاملًا على الرابط التالي: https://2u.pw/jjeIE

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟