المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
ريم عبد المجيد
ريم عبد المجيد

تداعيات "كورونا" .. هل يقضي الفيروس على العولمة؟

الخميس 19/مارس/2020 - 02:26 م
المركز العربي للبحوث والدراسات

     ركزت عديد النظريات الاجتماعية على العولمة كتحول واضح في الأبعاد المكانية والزمنية للحياة الاجتماعية. وبشكل أكثر تحديدًا، يجادل المنظرون الاجتماعيون بأن سرعة الحياة الاجتماعية على مدى العقود القليلة الماضية قد ازدادت إلى حد كبير بحيث أصبحت المسافة الاجتماعية "مضغوطة" أو ملغية، كما رأى روبرتسون الذي عرف العولمة بأنها انضغاط العالم. على سبيل المثال، سمحت التقنيات الرقمية مثل الإنترنت بالتواصل فعليًا مع أي شخص في العالم في أي وقت "In Real time”. وقد اتفق المنظرين على أن التقدم في تكنولوجيا الاتصال، والانتقال إلى نمط " post-Fordist" من الإنتاج والاستهلاك الاقتصادي هما العوامل الرئيسية المؤدية إلى انضغاط المسافة ومن ثم استشراء العولمة. ففيما يتعلق بتكنولوجيا الاتصال، أصبح الناس يتفاعلون في العالم الرقمي، عبر الأقمار الصناعية، أو الهاتف، والانترنت، وذلك حتى في الدول الفقيرة، وفيما يتعلق بالاقتصاد فإن الانتقال إلى نمط " post-Fordist" يُشير إلى الابتعاد عن الإنتاج الضخم للسلع في مكان واحد، فأصبح لدينا ما يسمى المصنع العالمي، واقترن هذا التحول في الاستهلاك أيضًا.

ويشير مصطلح "انضغاط المسافة والوقت" الذي صاغه ديفيد هارفي أحد منظري العولمة، إلى الطريقة التي يؤدي بها تسريع الأنشطة الاقتصادية إلى تدمير الحواجز والمسافات المكانية. فيرى هارفي أن رأس المال يتحرك بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، حيث إن إنتاج وتداول وتبادل رأس المال يحدث بسرعات متزايدة باستمرار، وخاصة بمساعدة تكنولوجيا الاتصالات والنقل المتقدمة، فالوقت الذي تستغرقه المؤسسات للانتقال من الإنتاج إلى التبادل إلى الربح يكاد يكون غير موجود، وهذا هو انضغاط الوقت والمسافة في النشاط الاقتصادي الذي هو القوة الدافعة للعولمة.

     النتيجة الثانية لإلغاء المسافة والوقت –بجانب تسارع إنتاج وتداول وتبادل رأس المال- هي اختفاء الحدود المادية، أي اختفاء قدرة الدولة القومية على السيطرة على حدودها بل واختفاء الدولة القومية نفسها لتحل محلها دولة متعددة الثقافات. ففي هذا الصدد رأى Castells أننا نعيش في مجتمع شبكي Network Society والذي تتكون بنيته الاجتماعية من شبكات مدعومة بالإلكترونيات الدقيقة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي سمحت له بنشر نفسه على نطاق واسع متجاوزًا العلاقات والتنظيمات والتفاعلات الاجتماعية التقليدية، متجاوزًا أيضًا الحدود المادية بشكل يمكن الأشخاص من التفاعل في ذات الوقت، مع إلغاء المسافات. بحيث يصبح مجتمع الشبكي هو الشكل الجديد للتنظيم الاجتماعي في عصر المعلومات، ليحل محل المجتمع الصناعي. ويتميز هذا المجتمع بمرونته وقابليته للتوسع وللبقاء، مع عدم التمركز فهو يضم مجموعات كبيرة متنوعة الثقافات ومع ذلك يبقى قادرًا على التكيف، وتزداد فيه أهمية المعلومات والمعرفة.

ومع انتشار فيروس كورونا في أغلب دول العالم لوحظ وجود تداعيات خطيرة على العولمة إلى حد قول البعض إنه سيقضي عليها نتيجة قيام عديد الدول بإغلاق حدودها، وقف التبادلات التجارية ووقف حركات التنقل منها وإليها بحيث أصبحت معزولة عن غيرها من الدول، بما يشير إلى عودة المسافة والوقت كما كانا مسبقًا بعد أن تم انضغاطهما أو إلغاءهما إن صح التعبير، وكذلك عودة الدول القومية والحدود المادية مرة أخرى بشكل أكثر قوة من ذي قبل. ومن هذا المنطلق سيتم عرض انتشار فيروس كورونا في دول العالم، وتداعياته على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعولمة.

انتشار كورونا:

يستمر ما يسمى بفيروس كورونا (COVID-19) في الانتشار. في جميع أنحاء العالم، أصيب بالفعل أكثر من 82000 شخص وتوفي أكثر من 2800 منه (اعتبارًا من 27 فبراير 2020). في الصين، تم عزل ملايين الأشخاص. ومنذ يناير، تم إلغاء 200 ألف رحلة طيران على مستوى العالم ومئات سفن الحاويات راسية. يتم إغلاق المدارس في اليابان (ثاني أكبر اقتصاد في آسيا) حتى نهاية مارس، وفي إيطاليا، فرنسا، مصر وغيرهم من دول العالم. في كوريا (ثالث أكبر اقتصاد في آسيا)، أصبحت أحزمة العديد من الشركات في حالة جمود ويزداد عدد المصابين بسرعة (1،596). لأول مرة هناك حظر تجول في أوروبا وإيطاليا لـ 50،000 شخص وإغلاق للحدود الأوروبية كاملة. هناك أيضًا مرضى في أمريكا الجنوبية وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، إيران، مصر، فرنسا وغيرهم من الدول. ومنعت الكثير من الدول مثل الولايات المتحدة وأستراليا بالفعل المسافرين من الصين من دخول البلاد في نهاية يناير. كما يتم استبعاد المواطنين والأشخاص الذين يحملون تصاريح إقامة دائمة. ومع ذلك، عندما يعودون إلى البلاد، عليهم أن يذهبوا إلى "الحجر الصحي الذاتي" لمدة أسبوعين. تأثرت أكثر من 32 دولة في جميع قارات العالم بالفيروس الذي يستمر في الانتشار في جميع أنحاء العالم.

البعد الاقتصادي: تراجع الاقتصاد العالمي وتحول نمط الانتاج:

مع عولمة الاقتصاد التي بدأت بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، كان هناك تقسيم عالمي للعمل ونمط معين للانتاج " post-Fordist" وفيه تقوم الشركات العالمية بانتاج السلع في أكثر من دولة، بحيث يتم شراء الخامات من منبعها الأصلي بأرخص الأسعار، ويتم تصنيعها حيث يوجد عمالة رخيصة وأسواق استهلاكية كبيرة، وتتحرك سلاسل التوريد عبر القارات في فترات متقاربة للغاية - "انضغاط الوقت والمسافة". على سبيل المثال، تحتوي السيارة العادية حاليًا على قطع غيار من 35 دولة مختلفة يتم تركيبها في جميع أنحاء العالم، وينطبق الشيء نفسه على الهواتف التي تشتريها في مصر التي قد تكون عبرت 15 حدًا على الأقل في وقت شرائها. هذا الوضع إلى وجود ترابط كبير بين دول العالم اقتصاديًا، فإذا حدثت اختناقات في أي دولة، تتأثر جميع الدول والذي يُعرف بتأثير الدومينو. هذا ما أدى إلى تعثر الاقتصاد العالمي بسبب انتشار فيروس كورونا في الصين بشكل أساسي. على سبيل المثال كان لانتشار فيروس كورونا في إيطاليا –إحدى أهم الدول اقتصاديًا- آثارًا خطيرة ليس فقط عليها ولكن أيضًا للشركات الألمانية، فقد أوشكت إيطاليا على الإفلاس بما أثر على أكثر من 1500 شركة ألمانية لديها فروع فيها.

وفي هذا الصدد، ظهرت تنبؤات عدة بأن الاقتصاد العالمي سيعاني من أضرار جسيمة في جراء انتشار فيروس كورونا الحالي. ففي بداية العام، بدا الاقتصاد العالمي في حالة جيدة، وتوقع صندوق النقد الدولي في مطلع يناير بانتعاش النمو العالمي لعام 2020 (1)، ولكن تفشيCovid-19  قد غيّر كل هذا. ففي الصين، نتيجة تعطيل النشاط الاقتصادي ضمن إجراءات مكافحة الفيروس، اخفض معدل النمو إلى ما دون معدل النمو الرسمي للعام الماضي 2019، البالغ 6.1٪. وخلال الاجتماع الأخير لوزراء مالية مجموعة العشرين، راجع صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو في الصين إلى 5.6 في المائة للعام الحالي (2)، وسيكون هذا هو أدنى مستوى منذ عام 1990.

ولأن الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل أكبر على الصين أكثر من أي وقت مضى، يمكن أن يتباطأ النمو العالمي إلى حد كبير. ففي عام 2003، كانت الصين تساهم بنسبة 4 في المائة فقط في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أما اليوم، أصبحت تساهم منفردة بنسبة بلغت 17 في المائة (3). بالإضافة إلى ذلك، فإن الاضطرابات في الصين ستقوض الإنتاج في مكان آخر لأن العديد من سلاسل التوريد العالمية تتقارب مع الصين. ومن المرجح أن يكون مصدرو السلع - بما في ذلك أستراليا ومعظم البلدان في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط - هم الأكثر تضررًا لأن الصين أكبر عميل لهم. هذا لا يعني أن الضرر سيقع عليهم فقط، بل على جميع الشركاء التجاريين المهمين. كما أن الدول المصابة بالفيروس مثل فرنسا،بريطانيا، إيطاليا، الولايات المتحدة، وغيرهم اللاتي تراجع نموهم اقتصاديًا سيؤثرون على باقي الدول كما أثرت الصين. ومن المرجح أن ترتفع تكاليف النقل بجانب انخفاض التجارة عبر الحدود بما قد يؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي وبالتبعية العولمة في بعدها الاقتصادي إذا لم يتم احتواء الخطر الذي يشكله فيروس كورونا.

هذه الأضرار المتحملة ستدفع الشركات إلى تغيير نمط الانتاج واستبدال الانتاج الوطني المحلي بالانتاج العالمي بحيث تصبح أكثر استقلالية عن الاقتصاد العالمي. بعبارة أخرى، ستقوم بالتركيز الجغرافي لتصنيع المنتجات عبر إعادة مصانع الانتاج إلى الدولتها الوطنية بما يقضي على فكرة المصنع العالمي ويكسر سلاسل التوريد. هذا يؤثر بشكل أكبر على الدول الصناعية الكبرى حيث سيعود الانتاج الصناعي بشكل متزايد إليها بعد أن كانت تنتج خارج حدودها في الدول النامية، كما سيتعين عليها خلق بدائل للحد من التبعية بما سيرفع تكلفة الانتاج بعد أن كانت قليلة بفضل المصنع العالمي بما قد يدفعها إلى خفض الانتاج ومن ثم سيتراجع نموها اقتصاديًا.

البعد الاجتماعي الثقافي: عودة الحدود المادية وإلغاء الفعاليات

ركيزتا العولمة هما حرية وسرعة انتقال الناس والبضائع التي ازدادت بشكل متسارع نتيجة التقدم التكنولوجي الهائل الذي جعل العالم كله قرية واحدة، وجعل سكانه أجمع أفرادًا في مجتمع واحد أطلق عليه منظري العولمة "المجتمع الشبكي" الذي اختفت فيه الحدود المادية للدول. ولكن انتشار فيروس كورونا بسبب حرية وسرعة الانتقال أجبر الحكومات على السيطرة على حدودها وإغلاق معابرها في وجه الأجانب. فسرعان ما أغلقت كوريا الشمالية وروسيا حدودهما مع جمهورية الصين الشعبية بعد انتشار فيروس كورونا فيها ومن المفارقات، أن الاثنين من أقرب أصدقاء الصين الدوليين. وقامت دول مثل اليابان وأستراليا ونيوزيلندا وسنغافورة وإيطاليا والولايات المتحدة بفرض قيودًا على السفر.

ومع تفاقم عدد المصابين بالفيروس وتسارع انتشاره في كثير من الدول، اتجهت الدول إلى منع الانتقال منها وإليها وأغلقت حدودها. فأعلن الاتحاد الأوروبي عن إجراءات جديدة للحد من الحركة بين الحدود داخل الاتحاد الأوروبي بعد أن كان ينتقل المواطن إلى أي دولة داخل الاتحاد بحرية، مع قيود مبدئية ستستمر لمدة 30 يومًا. وأعلنت روسيا، التي تشترك في حدودها مع دول مختلفة في الاتحاد الأوروبي، إغلاقها للحدود أيضًا مع الصين وإيران وبولندا وألغت جميع الرحلات الدولية حتى شهر مايو. وأعلنت المملكة المتحدة عن المزيد من القيود على السفر، وكذلك كندا (4). واستمرت عمليات إغلاق الحدود عبر أمريكا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي ضمن إجراءات مكافحة انتشار الفيروس، فأعلنت كولومبيا بعد التنسيق مع البرازيل وبيرو والإكوادور منع الأجانب من الدخول ومنع المواطنين من مغادرة البلاد بدءًا من 17 مارس وحتى 30 مايو (5). وقامت بنجلاديش، الكويت، قطر، عمان، بوتان، تركمنستان، بحظر دخول المسافرين من الاتحاد الأوروبي، وحظرت اليابان، طاجيكستان، جزر المالديف، أنتيغوا وبربودا وجزر البهاما ومونتسيرات، سانت فنسنت وجزر غرينادين، أنغولا والكونغو وموريشيوس وسيشيل دخول المسافرين من الصين وإيران وإيطاليا. وأغلقت باكستان أجزاء من حدودها. وفرضت بعض الدول الأفريقية مثل إثيوبيا، أوغندا، بنين، بوتسوانا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، رواندا، موزامبيق، جزر القمر، إيريتريا الحجر الصحي على المسافرين الذين كانوا في الدول المتضررة (6).

لم يقتصر الأمر على إغلاق الحدود بل وإلغاء الفعاليات الرياضية والثقافية العالمية والمحلية. فعلى الصعيد المحلي قامت دول مثل فرنسا بحظر الأنشطة الثقافية والرياضية والتجمعات الكبيرة، فتم إغلاق متحف اللوفر في باريس ومتحف الفن الحديث في نيويورك والتي أوقفت عرض 31 مسرحية وعرض موسيقي لمدة شهر، وألغت إيطاليا وإيران الأحداث الرياضية. وعلى الصعيد الدولي تم إلغاء العديد من رحلات السياحة وإغلاق المناطق الأثرية بجانب تأجيل الفعاليات الرياضية فقامت الفيفا بتأجيل التصفيات الآسيوية لأس العالم لعام 2022. كما تم تعليق بطولات الدوري الرائدة في أوروبا، وتم تعليق حلبة التنس للرجال لمدة ستة أسابيع ، وأغلقت NHL في أمريكا الشمالية (7).

الهوامش:

(1)      Josh Zumbrun, “IMF Predicts Global Economy Will Rebound in 2020,” The Wall street journal, 20\1\2020, available at: https://www.wsj.com/articles/imf-predicts-global-economy-will-rebound-in-2020-11579525201.

(2)       “IMF downgrades China GDP growth outlook to 5.6%,” Nikkei Asian Review, available at: https://asia.nikkei.com/Spotlight/Coronavirus/IMF-downgrades-China-GDP-growth-outlook-to-5.6.

(3)      Huileng Tan, “Analysts are cutting their China GDP forecasts amid coronavirus outbreak,” CNBC, 4\2\2020, available at: https://www.cnbc.com/2020/02/05/china-gdp-2020-banks-trim-forecasts-amid-outbreak.html.

(4)      Ingrid Lunden, “To slow coronavirus spread, EU countries and Russia join the list of countries officially closing their borders to all but essential travel,” Techcrunch, 16\3\2020, available at: https://techcrunch.com/2020/03/16/coronavirus-europe-russia-travel-ban/.

(5)      Jacqueline Charles, Jim Wyss, And Jimena Tavel, “More border closures in Latin America, Caribbean as coronavirus cases spike,” Miami Herald, 16\3\2020, available at: https://www.miamiherald.com/news/nation-world/world/americas/haiti/article241245186.html.

(6)      Antonia Wilson, “Coronavirus travel updates: which countries have restrictions and FCO warnings in place?,” The Guardian, 17\3\2020, available at: https://www.theguardian.com/travel/2020/mar/16/latest-updates-countries-coronavirus-travel-restrictions-fco-warnings.

(7)       “Sporting events around the world cancelled due to coronavirus,” France 24, 13\3\2020, available at: https://www.france24.com/en/20200313-sporting-events-around-the-world-cancelled-due-to-coronavirus.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟