المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الجيل الثاني للدبلوماسية .. تدافع الهويات في السياسة الخارجية

السبت 21/مارس/2020 - 11:55 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. ياسر عبد الحسين - عرض: وحدة الدراسات الاقليمية

يشكل موضوع الهوية موضوعا ساخنا وحاسما ومقلقا في المجتمعات وخصوصا تلك التي تعيش التحولات الانتقالية وحتى المجتمعات شبه المستقرة، نعم بالضرورة، ليس موضوع الهوية بجديد، لكن الجديد في سياق ذلك أصبحت الجماعات والمكونات تعتقد أن هوياتهم لا تحظى بالاعتراف الكافي، ولهذا تجد الفرصة الكبيرة في عالم اليوم، مع موجات العولمة المتزايدة، وضعف فكرة الدولة الوستفالية، تصاعد الاستثمار السوقي في ظل هذه الظروف لتكون فرصة تاريخية لتلك الجماعات، في ظل تتفكك المجتمعات الديموقراطية إلى شرائح تستند إلى هويات ضيقة بالمقابل ضعف الهوية الوطنية أو غيابها وتأثيره على السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي.

                وبهذا الصدد صدر حديثاً كتاب ( الجيل الثاني للدبلوماسية: تدافع الهويات في السياسة الخارجية) للباحث والدبلوماسي العراقي الدكتور ياسر عبد الحسين عن دار الرافدين للطباعة والنشر في بيروت،  وهو يمثل دراسة علمية شاملة، تنقل القارئ في عوالم الدبلوماسية، حول مفاهيم الجيل الأول الذي نسجته أوراق ميكافيلّي التي كتبها على طاولة مكتبه في فلورنسا، إلى الحقيبة التي يحملها الدبلوماسي مترنيخ، فضلاً عن السطور التي طبعها في رحلاته جورج كينان، إلى  رؤى هنري كيسنجر،  لكي تنقله إلى عالم الجيل الثاني الذي يمثله عالم الدبلوماسية اليوم، والذي تحتل فيه دبلوماسية الهوية دوراً كبيراً، حتى أصبح المواطن فيها عضواً هاماً في الهيئة الدبلوماسية بالتراضي.

                ما يطرح في هذا الكتاب (عبر 12 فصل و و41 مبحث) هو  محاكاة لأنماط صنع القرار في السياسة الخارجية، على مستوى دول العالم من خلال (نحن/هم)، ويمثل بوابة فهم معاصرة مفيدة للمتابعين و الباحثين والدبلوماسيين في سياق اكتشاف عالم اليوم عبر دراسة نماذج متعددة مثل (الولايات المتحدة، روسيا، ايران، تركيا، العراق، اسبانيا) عبر اكثر من خمسين مقابلة، ويرسم معالم الكتاب صعوبة المهمة على عاتق الدبلوماسي في عالم الجيل الثاني، وهو يجد أمام الميكرو الدبلوماسي المكون الاجتماعي الهوياتي او القبلي في أكثر الأحيان بدل الخرائط الكبرى جغرافيات صغرى ذات سيادة محلية فردية أو فئوية من نمط لم تعتده البشرية من قبل، ولذلك لتحديث السياسة الخارجية وصناعتها لا بد من تشخيص دقيق لهذا التيار العالمي، وممارسة التأثير على هامش المناورة، في حرب قادمة لن تزول بسرعة بفعل سياسات الهوية التي بدأت تجتاح العالم.

                وعموماً، فإن الجيل الثاني المطروح في الكتاب والذي يمثل عالم الدبلوماسية اليوم، والتي تحتل فيها دبلوماسية الهوية أي كانت فردية أو جماعية دوراً كبيراً، حتى أصبح المواطن فيها عضواً هاماً في الهيئة الدبلوماسية بالتراضي، لانقصد بهذا العصر انتهاء كلي للمعايير السابقة، لكن تطور كبير في وسائلها وفي قدرتها على الولوج والعمل في المجتمعات والدول لتحقيق اهداف الدبلوماسية.

                ولكون دبلوماسية الجيل الثاني هي اداة من ادوات السياسة الخارجية، والأخيرة هي من الشؤون السيادية الكبرى لأية دولة مستقلة، وبحكم عالمنا المعقد اليوم أصبح الحديث عن صنع القرار في السياسة الخارجية لابد ان يأتي وسط حركية متناغمة مع ثورة التغيرات العالمية الحاصلة في عالم اليوم، وباتت عملية صنع القرار في السياسة الخارجية لا يحكمها عالم الاسرار مثل الصندوق الاسود بقدر ما اصبحت علنية وتفصيلية تعرض امام الشركاء أو امام الراي العام، مما يشكل تحدي جديد لنظريات صنع القرار في السياسة الخارجية على المستوى البنيوي كما يرى الدكتور ياسر عبد الحسين، أي بمعنى اخر أن تأثير الشعوب والمجتمعات عبر هويتها ورأيها السياسي له تأثير كبير‏ في صنع القرار على مستوى السياسة الخارجية، وبالتالي ثمة أتجاه جديد واسع يؤسس لتعددية المصادر في صناعة القرار الخارجي، حيث ان وجود التنوع في الهويات المجتمعية سوف يجعل هناك حالة جديدة على مستوى العمل الدبلوماسي، وهو انتقال صنع القرار أو التأثير فيه من عملية متبادلة بين القاعدة الشعبية الى النخبة السياسية، والعكس صحيح في هذا الاتجاه.

                يعتمد كتاب الجيل الثاني للدبلوماسية على الفحص الهوياتي برز في دراسة السياسة الخارجية عندما تم تقديمها لأول مرة بواسطة المدرسة البنائية في العلاقات الدولية، بالرغم من عدم وجود  توافق في الآراء بشأن الهوية وأنعكاساتها على السياسة الخارجية، بعض الباحثين يحققون في هوية الدولة، كيف أنها تؤثر في عمليات السياسة الخارجية بينما تتأثر في الوقت ذاته بالهياكل الدولية، ويستخدم آخرون مفهوم التعريف لفحص ما تعنيه السياسة الخارجية لتشكيل القواعد السياسية الحديثة، فيما لا يزال الآخرون يسعون إلى الجمع بين منح الهوية البنائية جنبا إلى جنب مع مقاربات أكثر رسوخا في تحليل السياسة الخارجية كما جاء في الأمثلة العملية في الكتاب.

الجيل الثاني للدبلوماسية

يحدد الدكتور ياسر عبد الحسين أهداف الكتاب عبر السعي للسلام ومنع العنف وهو أصل رسالة العمل الدبلوماسي، و محاولة فهم الآخر ويمثل هذا الموضوع مفتاح نجاح السياسة الخارجية، وكذلك تحويل واستثمار الهويات كمصدر قوة للدول، من خلال توظيف ادارة التنوع بالطريقة المثلى.

                فالمعيار العالمي المتبع اليوم في كلاسكيات الأدبيات السياسية، بأن معيار الهوية الوطنية هو الذي يشكل عنصر قوة واسناد للدولة من خلال رسمها لملامح صياغة السياسة الخارجية، فالدولة القومية القوية التي ترتكز فيها صناعة السياسة الخارجية على ملامح هويتها الوطنية، وكأنها البوتقة الصاهرة لكل القوميات والاثنيات والمكونات الاجتماعية بالمقابل فان ضعف هذه الهوية، سيكون بلا شك العصا الكبيرة التي تهدد قوة الدولة ومكانتها الخارجية بما فيها سياستها الخارجية، وسلوكها مع الوحدات الدولية.

                بالمقابل، فان دبلوماسية الجيل الأول قد اهملت بشكل واضح ازمة كبرى تتعلق بملف الهويات والاقليات، حيث ان لهذا الملف اهمية متزايدة وحساسة في ظل عالم يعرف اليوم بتجارة الاقليات، وبالتالي نصبح امام مفترق طرق: اما فتح هذا الموضوع المصيري وغلقه، أو الانتظار على باب الامل لعل هذا الجرح يندمل بالطي والكتمان، وبسب عجز نظام الدولة بشكل عام عن التحديث في الجسد السياسي، اصبحت ثمة رؤى ترى ان وجود تعدد الهویات الدینیة، واللغویة، والقومیة، والأثنیة داخل المجتمع الواحد هو نقطة ضعف في جسد الدولة وليس مصدر قوتها، وهذا سياق اصبح يفكر به معظم دول الشرق، بينما في دول اخرى ليس هذا التنوع الا مصدر قوة، خصوصا عقب مرحلة التحول من الدولة - الامة الى دولة المكونات، وهذا التحدي برز مع سياق ما يعرف بالربيع العربي 2011.

                حيث يعتقد المؤلف بأن ثورة التغيير في بنية النظام العالمي، جعلت ثمة تحول في طبيعة الدبلوماسية الجديدة للجيل الثاني، والتي اسماها ي هذا الكتاب بدبلوماسية (الموجة الرابعة)، حيث ان التحول الجديد في انعكاس العلاقات المجتمعية البينية على مستوى سلوك الفواعل، فتح للدبلوماسية اتجاه جديد نسميه بالميكرو الدبلوماسي Micro-diplomatic، بعد ان فقدت الدول عملية احتكار هذه الوظيفة، مع بروز المجتمعات المحلية والجهورية والشبكات الاجتماعية والاقتصادية، بل تحول الفرد الى نحو اكثر مشاركة عبر دبلوماسية عابرة للسياقات الثقافية التقليدية، لتصبح ذات مسار اجتماعي دقيق، وشامل ياخذ كافة الابعاد الاقتصادية والاجتماعية عبر نظام حوكمة عالمية، وهذا بشكل عام ما نطلق عليه اسم الجيل الثاني للدبلوماسية.

                إن هذه الدبلوماسية الميكروية التي يصفها هذا الكتاب تتحرك في فضاء واسع، له امتدادات منفتحة لن تستوعبه كلاسكية اتفاقية فيينا في العمل الدبلوماسي اليوم، وهي بالنتيجة ليست دبلوماسية عامة أو دبلوماسية التأثير، بل ان دبلوماسية الجيل الثاني اشمل لكونها تسهم في محاولة استثمار الهوية في خلق اتجاهات العمل الجديدة في السياسة الخارجية، ولهذا يقول المؤلف في بلد واحد قد توجد بناية واحدة لوزارة الخارجية، لكن في الحقيقة هناك عدة سياسات خارجية، ليس من باب تنويع المواقف، بل حالة فقدان السيطرة في بنية الدولة اليوم، هذا الأمر يتطلب حوارا اجتماعيا مفتوحا بين المختصين وهذا ما وجدته في هذا الكتاب عبر محاورة ومراسلة عدد من المختصين والباحثين من أجل وضع صورة جديدة لمعالم دبلوماسية الجيل الثاني.

                حاول هذا الكتاب بحث كلمة السر التي يجب أن تصبح المفتاح لمشكلات الجيل الثاني، والتي التفت إليها البعض، بشكل ثانوي، والتي تصح ان تصبح شيفرة الحل في الفهم والتحليل والاستيعاب لمعادلة الهوية، ان كل موجات ألأزمات و دوامات الحروب والصراعات في عالم اليوم، تكاد تخفي سببا اعمق يتعلق بازمة التصور التي تجعل الرؤية غير واضحة ومتزنة من قبل صناع القرار والدبلوماسيين والمستشارين، لأن الفشل في قراءة الأخر سوف يجعل العالم الهوبزي يصل الى تسونامي العنف المترامي في كل قارات العالم السبع، وكلمة السر التي ربما تصلنا بالعالم اليوم الى فهم اخر بعيدا عن العنف.

صورة المؤلف مع ملك
صورة المؤلف مع ملك إسبانيا

يقدم الكتاب وجهة نظر بأن الأنهر القديمة التي كان يبحر فيها الدبلوماسي في الجيل الأول أصبحت غير قادرة على المسير والمرور عبر القنوات الدبلوماسية التي كانت تصلح في العصور السابقة، ولسنا مع إلغاء هذه التقاليد والأصول الدبلوماسية، وبذات الوقت فإن عدم التحديث وتوسعة القنوات سيجعل الأداة الدبلوماسية عاجزة عن الاستيعاب لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، لذلك نكون بحاجة الى صناعة دبلوماسية نشطة وفاعلة في الجيل الثاني كما عبر عنها هنري كيسنجر Henry Kissinger إنها مراكمة صبورة لنجاحات جزئية  بالمقابل تزاحم في العمل الدبلوماسي وفي رجالاته ونظرياته يقف امامها الدبلوماسي بكل حيرة فالمحلي بات عالمي والعالمي بات محلي.

                هذا الكتاب يمثل محاولة لدعوة كل الدبلوماسيين وصناع القرار والمستشارين الى اعادة قراءة العالم من زاوية الهوية بعيدا عن الملائكة والشياطين والخير والشر، بل فهم كما هو واقع، لنصل الى مرحلة تعيد قراءة التاريخ الانساني في مرحلة الجيل الثاني، هذا العالم الذي يعيش الدعوة الى الوحدة والانسجام وفي ذات الوقت يزيد التباعد ويكثر التفاعل، ولهذا نكون امام المزيد من الدول الفاشلة عبر خلق دويلات جديدة، أو الارتداد نحو الهويات القومية امام موجة رجال الشرفات من الشعبويين، وامام هذه الصورة القاتمة لا يكفي التفرج من عبر النافذة او محاولة لغلق النوافذ لمنع دخول هواء التغيير، هذه المعركة ليست بين اليسار واليمين، انها مرحلة تحول قد نكون امام صدام الهويات.

                من الجدير بالذكر ان هذا الكتاب هو الخامس للمؤلف الحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة بغداد فضلاً عن عمله في السلك الدبلوماسي حالياً فقد صدرت له كتب عدة مثل ( القيادة في السياسة الخارجية الامريكية بعد الحرب الباردة) وكتاب (السياسة الخارجية الايرانية ) وكتاب ( الحرب العالمية الثالثة داعش والعراق وادارة التوحش) وكتاب (منطقة الفراغ في العلاقات الدولية).

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟