المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
مرﭬت زكريا
مرﭬت زكريا

رؤية استشرافية ...مستقبل النظام الدولي بعد الحرب الروسية الأوكرانية

الإثنين 27/مارس/2023 - 10:44 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات

كشفت عدد من التقديرات عن أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ألقت بظلالها على النظام الليبرالي العالمي الحالي، وإنه من المتوقع أن يضعف هذا النظام القائم على التعددية القطبية بسبب عودة منظور الجغرافيا السياسية القائم على توسع الدول نحو الاستحواز على مزيد من الأراضي للحصول على القدر الأكبر من الموارد الذى يؤمن لها هدفها الرئيسي المتمثل في تحقيق مصلحتها الوطنية وضمان استمرار بقائها.

                ومع ذلك، يؤكد عدد من الباحثين على أن انهيار هذا النظام الليبرالي العالمي لا يعنى الإنزلاق نحو الفوضى، على خلفية وجود محددات يمكنها أن تضمن نوعاً من الاستقرار النسبي تتمثل في الاعتماد الاقتصادي المتبادل والعلاقات عبر الوطنية بين دول العالم.

 وفي هذا السياق، من المتوقع أن يكون للحرب الروسية ضد أوكرانيا والتنافس المتزايد بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تأثير عميق على مستقبل التنظيم السياسي العالم. وبالتالي، فإن الآمال الغربية المعقودة على نظام دولي قائم على الديمقراطية وسيادة القانون والتعاون متعدد الأطراف - والذي فقد الفاعلية في السنوات الأخيرة - يبدو الآن غير واقعي تماماً. ومن المحتمل أن يسفر كل ذلك في مجمله عن إضعاف القدرة على مواجهة التحديات العالمية المتمثلة في تغير المناخ، وتصاعد معدلات الفقر، والتهديدات الصحية المتمثلة في انتشار الفيروسات المعدية.

ويمكن تفصيل أهم محددات التغير داخل النظام الدولي على النحو التالي:

أولاً- انتهاء نظام ما بعد الحرب الباردة

كان الخطاب الغربي حول السياسة الدولية حتى عام 2008 يتمحور حول نظاماً عالمياً ليبرالياً قائماً على القواعد يرتكز على اقتصاديات السوق والديمقراطية والدبلوماسية المتعددة الأطراف. واعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي نفسيهما المروجين الرئيسيين لمثل هذا النظام، الذي كانا يأملان أن يشمل في نهاية المطاف معظم دول العالم. لكن يبدو أن رغبة الولايات المتحدة الأمريكية  للقيادة العالمية قد تضاءلت جزئياً لأسباب داخلية، وأخرى خارجية تتضح في  الحرب في أفغانستان والعراق.

وفي غضون ذلك، واصلت الصين صعودها الاقتصادي والسياسي وأصبحت قوة تكنولوجية وتجارية رائدة، وتشير التوقعات إلى أن ازدهار الصين المتزايد، بالإضافة إلى الدعاية القومية والحشد العسكري المستمر، من المؤكد أن يؤدى ذلك  في مجمله إلى أن تصبح القوة المهيمنة في آسيا. وفي الوقت نفسه، تحولت روسيا إلى قوة مراجعة، الأمر الذى اتضح من حربها في جورجيا في عام 2008، وضمها لشبه جزيرة القرم في عام 2014، وحربها في أوكرانيا في عام 2022، وهنا يتضح أن القيادة الروسية ترغب في استعادة بعض المناطق التى خسرها الإتحاد السوفيتي في التسعينات،  وإنشاء مناطق نفوذ قوية.

ومن ناحية أخرى، أدى تراجع المشاركة الدولية لواشنطن إلى توسيع مساحة المناورة للدول الإقليمية في الجنوب العالمي - من بينها مصر والهند وإيران وباكستان والمملكة العربية السعودية وتركيا – والذين أصبحوا لاعبين حازمين بشكل متزايد في السياسة الدولية. الأمر الذى اتضح في تشكيلهم لتحالفات جديدة، وتعزيز نفوذهم السياسي والاقتصادي والعسكري، الأمر الذى أسفر عن صراعات إقليمية في بعض الأحيان من أجل الهيمنة، مما أجبر هذه الدول  على الإتجاه نحو  البحث عن الأمن إما بالتحالف مع قوى أكبر أو الموازنة بينها.

ومع ذلك، فإن الجغرافيا السياسية ليست التحدي الوحيد لها العالم المنظم نسبياً؛ لقد وثقت المنظمات غير الحكومية الدولية أكثر من خمسة عشر عاماً من التراجع الديمقراطي. ووفقًا لمؤسسة فريدوم هاوس المعنية بقياس الديمقراطية، يعيش حوالي 38% من سكان العالم حاليًا في بلدان "غير ديمقراطية"، بالإضافة إلى أن العولمة بدأت تفقد زخمها، ووسع الإنترنت بشكل كبير من فرص نشر الدعاية والمعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، فضلاً عن توظيف المعلومات بشكل متزايد لخدمة الجغرافيا السياسية، وتقويض العمليات الديمقراطية والتلاعب بالرأي العام. وفي مواجهة هذه التحديات، يتعرض النظام المتعدد الأطراف لضغوط شديدة، الأمر الذى يفرض تداعيات قد لا تبدو هينة فيما يتعلق بمواجهة التحديات عبر الوطنية.

ثانياً- مزيج من النظام والفوضى

رغم ضعف النظام الدولي الحالي بشكل واضح، يبدو أنه من غير المحتمل أن تكون هناك إعادة هيكلة أساسية للنظام الدولي؛ حيث يتطلب الأمر حدوث كارثة عالمية أخرى حتى تكون هناك بداية جديدة مماثلة لما حدث عندما تم إنشاء الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه، فإن الانتكاس التام إلى عالم هوبز من المنافسة الأنانية غير المقيدة أمر غير مرجح أيضاً، الأمر الذى يكشف عن إنه سيترنح بين النظام والفوضى. ويأتي ذلك، إنطلاقاً من أن التحديث والعقود الماضية من الاقتصاد الليبرالي أدت لظهور شبكة كثيفة من العلاقات والاعتماد المتبادل بين الدول، وهي روابط لا يمكن التخلي عنها إلا بتكلفة باهظة؛ حيث  تدرك الغالبية العظمى من الحكومات أن التعاون الدولي يظل أمراً حيوياً لمستقبل رفاهية بلدانها وأن هذا التعاون يتطلب إطاراً مؤسسياً وقانونياً.

وعليه، يبدو أن الاتجاهات الاقتصادية والسياسية الحالية تشير إلى الإتجاه نحو نظام دولي عالمي أكثر مرونة، مما يترك مجالًا أكبر لسياسات القوة واستمرار الدول في الحفاظ على سيادتها الوطنية. لكن المؤكد أن هذا النوع من النظم لن يكون قادراً على الاستجابة بفاعلية للتحديات الكبرى عبر الوطنية. وعلى وجه الخصوص، ستجعل هذه الديناميكيات من الصعب مواجهة أزمة المناخ، والتي تعد بمثابة التحدي الأكثر إلحاحاً  خلال السنوات القليلة القادمة.

ثالثاً- ثنائية أم تعددية قطبية؟

من المتوقع أن يكون للنظام الدولي  - قيد التشكل -عدة مراكز للقوة، لكن المحتمل أن تهيمن الانقسامات الحالية على شكل السياسة الدولية لعدة سنوات، الأمر الذى يتمثل في التقاء  الغرب "غير الجغرافي" من ناحية وتعميق الشراكة بين الصين وروسيا من ناحية أخرى.

وفي هذا السياق، تعتبر الصين وروسيا نفسيهما في طليعة الصراع ضد الهيمنة العالمية الغربية، الأمر الذى اتضحت أبرز ملامحه في حرصهما على توسيع الشراكة مع بقية دول العالم في هذا الإطار؛ ففي اجتماع القمة الأخير لدول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في يونيو 2022، تناقش كل من الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لصالح توسيع المجموعة إلى بريكس +، وكإنه يبدو الأمر أن بدت بكين مهتمة بشكل خاص بتطوير هذه الشراكة إلى قوة موازنة لمجموعة السبع (G7) ، وهو الأمر الى يأتي على خلفية تقدم الأرجنتين وإيران والمملكة العربية السعودية بالفعل بطلب للحصول على عضوية في مجموعة بريكس.

ومن المرجح أن تصبح روسيا معتمدة بشكل متزايد على الصين بعد أن أضعفتها العقوبات الغربية، الأمر الذى يجبرها على التوافق مع المصالح الاستراتيجية لبكين، وفي مواجهة المنافسة المتصاعدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون لدى الصين حافز كبير لإبقاء روسيا إلى جانبها، حتى لو كان ذلك يستلزم مزيدًا من تعميق انفصالها عن الغرب.

رابعاً- نظام لبيرالي أم تحكمه مجرد قواعد؟

أصبحت الإشارة إلى "النظام العالمي الليبرالي" في مقالات العلاقات الدولية أكثر ندرة، بينما تم استخدام عبارة "النظام القائم على القواعد" بشكل متكرر، ومع تكرار رواية تراجع الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، يبدو أن النظام الدولي "القائم على القواعد" بات أكثر واقعية.

ورغم إنه تم التأكيد على أن السياسات الاقتصادية الليبرالية من شأنها أن تسرع التنمية الاقتصادية في جميع أنحاء العالم وأن المزيد من الازدهار  الاقتصادي سيؤدي بدوره إلى خلق طلب لا يمكن كبته على الحرية السياسية، لكن يظهر النموذج الصيني رؤية مغايرة بإنه يمكن أن يترافق الازدهار الاقتصادي المتزايد مع تعزيز السيطرة المركزية.

ختاماً: يمكن القول إنه مع اقتراب حقبة ما بعد الحرب الباردة من نهايتها، يبدو  الإبقاء على نظام عالمي ليبرالي وقائم على القواعد وكأنه حلم أكثر من كونه حقيقة واقعية. ومع ذلك ، هناك قدر كبير من عدم اليقين بشأن ما سيحل محله؛ حيث  لا تقترح كل من الصين وروسيا، نموذجاً بديلاً للوضع الراهن، بل تهدفان إلى توسيع نفوذهما في ظل النظام الدولي الحالي.

لكن المؤكد إنه مع اشتداد الخصومات الجيوسياسية، والعودة لتعزيز السيادة الوطنية، والحمائية الاقتصادية المتزايدة أن ذلك من شأنه إن يقوض الأنظمة التعاونية التي تم تأسيسها على مدى عقود. وهو الأمر الذى يكشف عن تبدد الآمال في انتشار الديمقراطية وسيادة القانون على الصعيد العالمي، لكن الانزلاق إلى الفوضى الدولية لا يزال مستبعداً تماماً. لقد تباطأت العولمة ولكن لن يتم عكسها بالكامل. وسيظل الترابط الاقتصادي والتواصل الدولي يتطلبان قدراً كبيراً من التعاون المؤسسي. وبالتالي فإن النظام متعدد الأطراف الحالي الموروث من فترة ما بعد الحرب الباردة سوف يستمر، لكنه سيواجه بلا شك تحديات كبيرة تتمحور ملامحها حول سيادة سياسات القوة وعقد الصفقات.

وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول إنه سيكون هناك تحديات قد لا تبدو هينة  للتعامل مع بعض القضايا العالمية الإشكالية مثل تغير المناخ، وتدهور التنوع البيولوجي، وفشل الدولة القومية، وانعدام الأمن الغذائي، والفقر، والتهديدات الصحية العالمية. وإذا لم يستطع العالم أن يتكاتف للاستجابة بفعالية لهذه التهديدات، فسيتبع ذلك بالتأكيد مزيد من الاضطرابات والتشرذم. وبالتالي، يمكن القول أن هناك حاجة ملحة للحد من ديناميات التفكك الحالية وإعادة تنشيط وتقوية محددات الحوكمة العالمية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟