اتجاهات التغيير: ماكرون واليمين المتطرف في انتخابات الجمعية الوطنية

أقدم ماكرون على أكبر مجازفة منذ وصوله
إلى السلطة في عام 2017، بإعلانه حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية
مبكرة، في قرار أثار صدمة كبيرة في فرنسا في ضوء فشله في الانتخابات الأوروبية التي
تم إجراءها في 9 يونيو بمواجهة التجمع الوطني؛ حيث يواجه ماكرون صعوبات في تطبيق
برنامجه منذ أن خسر الغالبية في الجمعية الوطنية في الانتخابات التشريعية الأخيرة
في يونيو 2022، وفي ضوء ذلك، تواجه فرنسا خلال الفترة القادمة مجموعة من التحديات
الداخلية والخارجية بعد إجراء جولتين من الانتخابات في 30 يونيو و7 يوليو.
وفور الإعلان عن حل البرلمان، رحبت
زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني الفرنسية ماري لوبان بدعوة ماكرون لإجراء
انتخابات مبكرة؛ حيث ينظر البعض إلى هذه الدعوة باعتبارها مقامرة تتسم بالتهور،
وخطوة قد تفضي إلى وصول اليمين المتطرف وتوليه مقاليد السلطة السياسية في البلاد. من
ناحية أخرى، يريد ماكرون استعادة السيطرة على السياسة الفرنسية، بيد أن استطلاعات
الرأي لا تشير إلى أن ذلك هو ما سيحدث. ولم يكن ماكرون بحاجة إلى الدعوة لانتخابات
الجمعية الوطنية (البرلمان) لأنها أجريت في يونيو 2022، ولم يكن من المقرر إجراء
تصويت آخر حتى عام 2027، بيد أنه أصر على أن هذا هو الحل الأكثر مسئولية خاصة بعد فوز
حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بزعامة جوردان بارديلا ومارين لوبان
على ائتلاف "التجديد" بزعامة ماكرون في الانتخابات البرلمانية الأوروبية.
وتستحوذ هذه الانتخابات على أهمية
كبيرة فيما يتعلق بالقضايا محل النقاش وتأتي على رأس هذه القضايا الأزمة
الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة، وتقديم حلول لمعالجة التضخم وتحسين القدرة الشرائية
للمواطنين. كما تحتل قضايا الهجرة والأمن حيزًا كبيرًا
من النقاش، كونها من أكثر المواضيع إثارة للجدل في فرنسا حاليًا، وستكون محور صراع
بين رؤية اليمين المتشددة ونهج اليسار، بالإضافة إلى مناقشة السياسة الأوروبية
خاصة في ظل التوترات الدولية المتصاعدة وفيما يتعلق بموقع فرنسا في الاتحاد
الأوروبي ودورها العالمي.
اتجاهات التعامل
تتألف الجمعية الوطنية (البرلمان) من
577 مقعدًا، بما في ذلك 13 مقاطعة خارجية و11 دائرة انتخابية تمثل المغتربين
الفرنسيين في الخارج، وللحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان يحتاج الحزب إلى
289 صوتًا؛ حيث لم يستحوذ ائتلاف ماكرون إلا على 250 مقعدًا
في البرلمان المنتهية ولايته وكان عليه حشد الدعم من الأحزاب الأخرى في كل مرة
للتصديق على قانون. في حين شغل حزب
التجمع الوطني 88 مقعدًا في البرلمان المنتهية ولايته، بيد أن استطلاعات الرأي تشير
إلى أنهم قد يتجاوزون 200 مقعد.
وضمن هذا السياق وامتدادًا للتعامل مع هذه التحديات وما أفرزته
نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، يبدو أن ماكرون كان يفكر منذ أشهر في الدعوة
إلى إجراء انتخابات، بيد أن فرنسا مشغولة حاليًا بالاستعداد لفاعليات دورة الألعاب
الأولمبية في باريس خلال الفترة من 26 يوليو إلى 11 أغسطس، ومن الواضح أن الرئيس
الفرنسي أراد كسر الجمود، بعد إخفاقه في تأمين أغلبية مطلقة في انتخابات الجمعية
الوطنية في يونيو 2022، وأصبح إقرار القوانين بمثابة عقبات تواجهه، وهو ما دفعه
إلى فرض إصلاحات على قانون التقاعد دون إجراء تصويت، بينما كانت قواعد الهجرة
الأكثر صرامة تتطلب دعم التجمع الوطني.
ومن ناحية أخرى، ثمة احتمال أن يفوز حزب "التجمع
الوطني" بالسلطة في فرنسا للمرة الأولى، بزعامة جوردان بارديلا البالغ من
العمر 28 عامًا، وفي البرلمان بزعامة مارين لوبان التي خاضت الانتخابات الرئاسية
ثلاث مرات وخسرت في كل مرة. بيد أنها كانت تفوز في كل
مرة بمزيد من الأصوات، وتشير استطلاعات الرأي الآن إلى أن حزبها قد يصبح الأكبر في
فرنسا، دون أن يحصل على الأغلبية المطلقة، كما تشير استطلاعات إلى تحالف يساري
واسع النطاق، يضم أحزابًا من اليسار المتطرف. وقال بارديلا خلال عرض لبرنامجه الانتخابي نحن مستعدون للحكم، واعتبر
أن التجمع الوطني هو الحزب الوحيد القادر الآن وبشكل معقول على تحقيق تطلعات
الفرنسيين. كما أنه يعتزم حظر مناصب حساسة للغاية عن المواطنين من حاملي الجنسية
المزدوجة، بموجب مرسوم سيحدد قائمة بتلك الوظائف.
من جهة ثالثة، للمرة الثانية في تاريخها منذ عام 1936 توحدت قوى
اليسار الفرنسية بعد خسارتها وانقسامها في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي؛ حيث تخوض "الجبهة الشعبية الجديدة" ائتلافًا
يضم الاشتراكيين، والخُضر، والشيوعيين، وفرنسا الأبية، كما أنهم وعدوا بإلغاء
إصلاحات ماكرون المتعلقة بالتقاعد والهجرة، ويستند برنامجهم على فكرة مفادها إما
اليمين المتطرف، أو نحن، كما أعلنت الجبهة القطيعة مع ما أطلقت عليه سياسة
الليبرالية الجديدة والاستبداد السابقة، وجاء هذا التجمع بين هذه الأحزاب لمنع حزب
لوبان من الفوز بالانتخابات التشريعية.
متغيرات عديدة
في ظل أجواء مشحونة وسط توقعات بفوز
كبير لليمين المتطرف، يبدو معسكر الأغلبية الرئاسية بزعامة ماكرون الأكثر ضعفًا
بين الكتل الثلاث المتنافسة؛ حيث أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن برنامجي اليمين
واليسار المتطرفين يؤديان إلى حرب أهلية، في حين دافع زعيم اليمين المتطرف جوردان
بارديلا -الأوفر حظًا في استطلاعات الرأي- عن جدية برنامجه وأكد استعداده لحكم
فرنسا.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن الجولات الانتخابية تتم بصورة معقدة؛
حيث تستبعد الجولة الأولى جميع المرشحين الذين فشلوا في الحصول على 12.5 في المئة
من الأصوات، كما أن أي شخص يحصل على 50 في المئة من الأصوات بنسبة مشاركة لا تقل
عن ربع الناخبين المحليين يفوز تلقائيًا، ويحدث ذلك في عدد قليل من الدوائر
الانتخابية. أما الجولة الثانية فهي
عبارة عن سلسلة من جولات الإعادة يخوضها اثنان أو ثلاثة أو أربعة مرشحين في بعض
الأحيان، وقد ينسحب بعض المرشحين قبل 7 يوليو لإعطاء حليف فرصة أفضل تهدف إلى منع
منافس من الفوز، على سبيل المثال اليمين المتطرف.
ومن ثم فإن نظام الجولتين يعني أنه لا
يوجد شيء واضح المعالم، وحتى لو وصل حزب التجمع الوطني إلى الجولة الثانية في عدد
كبير من الدوائر الانتخابية، فمن الممكن أن يلجأ الناخبون إلى التصويت التكتيكي
لإقصاء الحزب
من جانب آخر، وبغض النظر عمن هو الطرف الفائز، أعلن ماكرون أنه
لن يستقيل من منصبه الرئاسي. وأنه في حال خسر حزبه،
وفاز حزب التجمع الوطني أو الجبهة الشعبية الجديدة، فإن هذا سيسمح بدخول فرنسا إلى
نحو ثلاث سنوات من التعايش بين هذه الأحزاب، أو بمعنى آخر تقاسم السلطة، وهو ما
يعني أن يرأس زعيم أحد الأحزاب الدولة ويدير حزب آخر الحكومة. وهذا هو ما حدث بالفعل في
الماضي، عندما كانت السياسة الداخلية في يد رئيس الوزراء والحكومة، والسياسة
الخارجية والدفاع في يد الرئيس وهو الأمر الذي حدث في أعوام 1986-1988 و 1993-1995
و 1997-2002.
في الختام: تشهد فرنسا مشهد سياسي يتسم بالتحولات العميقة والتوترات
المتصاعدة، فمنذ الانتخابات الرئاسية في 2022، شهدت فرنسا انقسامات حادة في
خريطتها السياسية، وهو ما أدى إلى تشكل
ثلاث كتل رئيسية تتنافس على قيادة البلاد، ومن المتوقع أن تثير نتائج الانتخابات المخاوف
من تشكيل أول حكومة من اليمين المتطرف في تاريخ البلاد، من خلال تشكيل جمعية وطنية
تهيمن عليها ثلاث كتل متنافرة لعام على الأقل، وهو ما سينعكس على طبيعة الأوضاع في
الداخل والخارج في ظل ما تشهده من أحوال اقتصادية متردية واشتعال الحرب في كل من
أوكرانيا وغزة وقبل شهر من دورة الألعاب الأولمبية في باريس. وأن صعود اليمين وفق
هذا السيناريو من شأنه إضعاف فرنسا وأوروبا أثناء الحرب.