المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الثلاثية الغامضة: الإعلام الدينى والإرهاب وإشكالية الإصلاح

الأربعاء 23/أبريل/2014 - 11:26 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
نبيل عبد الفتاح

الإعلام الدينى تعبير عام، وفضفاض، وسائل، وذو نطاقات متسعة تشمل أدوات، ومواد إعلامية عديدة، بعضها مرئى ومسموع ومكتوب وأخرى تتصل بالثورة المعلوماتية والاتصالية الجديدة على الفضاء النتى، والقنوات التلفازية القضائية. من هنا نبدو أمام ظاهرة انفجارات إعلامية دينية تمس العقائد والشرائع والقيم والمذاهب، والتاريخ الدينى، إسلامياً كان أم مسيحياً أو يهودياً، ثم الأديان الوضعية على اختلافها: البوذية والشنتوية، والبوزية الهندوسية، والأفريقية، وغيرها من أديان الأهالى الأصليين في أمريكا اللاتينية، وفى غينيا الجديدة، واستراليا ونيوزيلندا.. الخ.

ثمة ظواهر جديدة في إنتاج وتوزيع المعرفة والعقائد والقيم والأخلاقيات الدينية، وثمة حوارات تتم أحياناً، وسجالات داخل المظلة الكبرى للدين الإسلامى أو المسيحى في أحيان أخرى، أو في إطار العلاقات المذهبية السنية والشيعية، أو السجالات، والعلاقات المسكونية، أو الصراعات، والمنافسات داخل الأسواق الدينية في أحيان ثالثة. ظواهر سلبية عديدة كالتداول القدحى، والإزدراتى للأديان والعقائد والمذاهب والشخصيات، بما يؤدى إلى التعبئة الدينية السياسية، وإلى بروز ظواهر العنف الدينى المادى، أو الرمزى، أو السياسى ذى الوجه الدينى داخل ذات العائلات الدينية والمذهبية الكبرى، أو بين بعضها بعضاً.

إن التراجع النسبى لحالة الحوارات الدينية – الدينية، والمذهبية- المذهبية في عالم ما بعد 11 سبتمبر 2011، والانتفاضات الثورية العربية يشير إلى ظاهرة الاحتقانات الدينية- السياسية والثقافية، وبروز حروب رمزية وعقائدية باردة حيناً، وساخنة أحياناً أخرى كما حدث في أعقاب محاضرة بابا الفاتيكان بندتكوس السادس عشر في عام 2006 عن العقل والإيمان، بكل ما أثارته من ردود أفعال صاخبة وجماهيرية والاعتداءات المتكررة على المسيحيين العرب في أكثر من بلد عربى. الإعلام بات يلعب أدواراً سلبية في بث المقولات والأخبار والتحقيقات والمحاضرات التى تتناول القضايا والأفكار والأسئلة والإشكاليات الدينية، على نحو متسع ومكثف ومؤثر على صناع القرارات السياسية، والمؤسسات الدينية الرسمية واللا رسمية، والحركات الإسلامية السياسية والكنائس.. إلخ.

فى إطار هذا العالم المعولم وسياقاته المتغيرة، والعنيفة والدموية، لاسيما فى منطقتنا، يثار سؤال بين الحين والآخر: هل الإعلام الدينى يصنع إصلاحاً أم إصلاح يصلح الإعلام؟ سؤال عام، وربما موشى ببعض الغموض وينطلق من قلب التوترات والالتباسات والعنف الرمزى والخطابى، والاغتيالات، والعربات المفخخة، والانتحاريين والاستشهاديين- أياً كانت التسمية والوصف ومنظور الرؤية السياسية والفقهية-، والقتال المذهبى- المذهبى، والعرقى، والقومى، بأطروحات فقهية ومذهبية، ولاهوتية، يبدو فى مناطق عديدة فى عالمنا، وفى منطقتنا، كما فى سورية والعراق، ولبنان، والأراضى الفلسطينية والسودان.. إلخ بعد الانتفاضات الثورية العربية.

والإجابة عن هذا السؤال العام والصاخب الذى يطرح فى الجدالات والسجالات السياسية والدينية فى مصر تحديداً، يتطلب تناول ما يلى:

 

وظيفة الإعلام الدينى، هى إنتاج وتوزيع خطابات ومواد وموضوعات دينية محضة إسلامية، ومسيحية ورؤى، وسلع دينية تنتمى إلى أديان وضعية عديدة

أولاً: الإعلام الدينى: ضبط مفهوم، وحقل متسع وسائل:

الإعلام الدينى، تعبير عام يشير إلى الأجهزة الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية والنتية التى تبث مواداً إعلامية: أخبار وتحقيقات ومقالات ومقابلات ورسومات وكاريكاتير، وبرامج متلفزة أو مسموعة، أو أخبار، ومقابلات، وتحقيقات.. إلخ. والوظيفة التى تقوم بها هى إنتاج وتوزيع خطابات ومواد وموضوعات دينية محضة إسلامية، ومسيحية ورؤى، وسلع دينية تنتمى إلى أديان وضعية عديدة، والتى تتناول قضايا ومقولات ورموز دينية، تتصل بالعقائد، والجوانب التشريعية، وعلم الكلام والفلسفة والفقه وأصوله ومدارسه والأخلاق، والتاريخ ووقائعه ورموزه من رجال الدين، أو النزاعات التى تتصل بالدين فى عمومه وقراءاته وتأويلاته وقضاياه على اختلافها. وثمة من المواد ما يتصل بالعقائد المسيحية، ومذاهبها الثلاثة الكبرى: الكاثوليكية، والبروتستانتية، والأرثوذكسية، وما تفرع عن هذه المذاهب، من مدارس لاهوتية، وتأويلية عديدة، تناسلت من بعضها بعضاً، وتنافست، وتصارعت على قانون الإيمان المسيحى، وتأسست عليها لاهوتيات عديدة، وتعاليم الآباء... إلخ. وهى المواد الدينية، أو السياسية التى تتداخل معها مكونات دينية، تنتمى فى الغالب إلى الإسلام، والمسيحية على اختلاف مذاهبها.

المواد الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والنتية تتمايز عن الكتب، والبحوث الأكاديمية التى قد تختلف نسبياً فى اللغة أو الاصطلاحات العلمية، والمفاهيم التى تتصل بالعلم الدينى ومناهجه وأساليبه التحليلية، إلا أنها قد تتداخل مع بعض ما يطرح فى الإعلام الدينى المرئى والمسموع والمكتوب فى الصحف والمجلات، بما فيها المجلات الأكاديمية. من هنا كان المعيار المائز بين ما يعد من قبيل الإعلام الدينى، أو يخرج عنه، هو أداة طرح وبث وتوزيع المادة الدينية وشكلها، والتى تتم عبر الأدوات الإعلامية كالصحف والمجلات، والإذاعات- التى تشتمل على مواد دينية، أو متخصصة فى الشئون الدينية-، والتلفزة الأرضية أو الأقنية الفضائية. والكاسيتات والأقراص المدمجة ومواقع التفاعل الاجتماعى والمدونات على شبكات الإنترنت، أياً كانت، مثل برامج مخصصة للدين الإسلامى أساساً، والمسيحى عبر الفضائيات المسيحية. أو برامج تتناول بعض القضايا والشخصيات والمؤسسات الدينية الرسمية أو الأهلية، أو الجماعات الإسلامية السياسية، ويدخل ضمن ذلك مناقشة ظواهر اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو طقسية أو صحية أو تعليمية أو أمور تتصل بالزى وأنظمته وأساليبه وبها عنصر ومكون دينى اياً كانت وظيفته فى هذا الإطار، كل تناول أو إسناد للدين الإسلامى، أو المسيحى فى عمومهما أو فى تفصيلاتهما أو تواريخهما، يتم التعامل معها عبر أداة إعلامية، ووفق قواعدها المهنية يدخل ضمن مفهوم الإعلام الدينى.

إن المؤثرات السلبية للإعلام الدينى الإسلامى والمسيحى، باتت مؤثراً على الأسواق السياسية، والفاعلين السياسيين والمنظمات الأهلية، والمؤسسات الدينية الرسمية، والطوعية

التعريف آنف الذكر يبدو عاماً، ومتسعاً، ومرناً، بحيث يشمل كل تناول إعلامى لمادة أو سؤال أو قضية أو إشكالية أو شخصية أو تاريخ دينى، فى العقائد، والشرائع، والتأويلات، والتفسيرات والأخلاق والقيم، والتراثات، والفلسفات والفتاوى.. الخ.

لا شك أن اتساع نطاق وأدوات الإعلام الدينى- بمفهومه العام والتفصيلات المتفرعة عنه-، يشير إلى ظاهرة الحضور المكثف والضاغط والمؤثر للسلطات والأجهزة الإعلامية التى تؤثر على الإعلام الدينى، ومن ثم فرض تحيزاتها الدينية والمذهبية والفقهية واللاهوتية، بل والشخصية إزاء بعض الشخصيات أو ضدها من حيث التحبيذ أو الترويج، أو النقد والذم أو الحياد.. إلخ. من هنا يبدو الدور المؤثر الذى بات يلعبه الإعلام الدينى، لاسيما على المستوى الفضائى المتلفز، والأرضى، وبروز القنوات التلفازية الدينية الفضائية الإسلامية والمسيحية فى المنطقة، وطابعها السلفى التقليدى والجهادى والمحافظ والمتشدد الغالب مع استثناءات معتدلة محدودة، والأهم هو تأثيرها على الوعى الدينى، والثقافة الدينية عموماً للمسلمين والمسيحيين فى المنطقة العربية. وثمة نمو بارز للدور الذى يلعبه الإنترنت ومواقع التفاعل الاجتماعى والمواقع الدينية وغرف الدردشة فى إنتاج النزعة القدحية و السجالية والنزاعية حول الأديان بعضها بعضاً، لاسيما الإسلام والمسيحية، بل وداخل كل ديانة بين مذاهبها، ورموزها، وشخصياتها، وإنتاجها الفقهى والتفسيرى والتأويلى واللاهوتى.. إلخ.

إن المؤثرات السلبية للإعلام الدينى الإسلامى والمسيحى، وتأثيرهما فى الأسواق الدينية، وانعكاساتهما سواء على المستوى السياسى- الدينى، أو المستوى الدينى- الدينى، والدينى- المذهبى بات مؤثراً على الأسواق السياسية، والفاعلين السياسيين والمنظمات الأهلية، والمؤسسات الدينية الرسمية، والطوعية، والأخطر على التماسك الداخلى فى بلدان المنطقة، خاصة فى ظل مجتمعات ودول انقسامية على أسس دينية وطائفية، وعرقية، ومذهبية، وقومية، ولغوية.. وغالبها الأعم لا تزال تحكمه روابط ما قبل قومية، بل وحتى تلك التى بها روابط قومية أصابها الوهن الشديد، والتآكل وعدم التجديد للهياكل، والقواعد، والقيم السياسية المنظمة لها لاسيما فى أعقاب ما سمى مجازاً بالربيع العربى.

من الملاحظ تزايد خطورة الدور الانقسامى والنزاعى لغالب الإعلام الدينى، فى بث التناقضات بين جمهور المستهلكين للمواد الإعلامية الدينية أياً كانت، على أسس معيارية وقيمية وعقائدية وتأويلية ازدادت خطورة الإعلام الدينى التلفازى وأسواقه العولمية والإقليمية والوطنية قبل وبعد الانتفاضات الثورية العربية المجهضة فى بعضها، فى عديد الأشكال:

1- صعود دور الجماعات السلفية الجهادية، وتنظيم القاعدة ونظائرها وأشباههما فى المنطقة العربية، وبعض الدول الأفريقية- مالى ونيجيريا على سبيل المثال- وسعيها إلى إشاعة الفوضى والاضطراب السياسى، من أجل الوصول إلى بناء الدولة الإسلامية وفق المفهوم السائد لديها، وبكل انعكاسات ذلك على وضع الأقليات الدينية والمذهبية فى مجتمعات متعددة الأديان والمذاهب.

2- الدور الدعوى للإيديولوجيا الدينية المذهبية، فى نشر الأفكار الراديكالية وسط بعض الشرائح الاجتماعية الشابة، لاسيما من بين بعض أبناء الفئات الوسطى – الوسطى والصغيرة، والشعبية فى مصر، أو وسط بعض أبناء شبه جزيرة سيناء ممن عانوا من التهميش التاريخى، والعزلة، فى ظل أزمة الانتماء الوطنى وانعكاساتها على نظام الشرعية السياسية.

3- وظيفة التجنيد، والتعبئة والحشد لبعض الفئات الشابة السابق الإشارة إليها، وهو ما يكشف عنه تحليل قوائم المقبوض عليهم من المشاركين فى بعض هذه الجماعات.

4- أداة لتعليم بعض الشباب سابق الإشارة إليهم، على تكنولوجيا العنف والإرهاب، من إعداد قنابل المولوتوف، والتفجيرات عن بعد، وتفخيخ السيارات، أو التدريب على استخدام بعض الأسلحة.

5- أداة لبث خطابات ومواقف بعض الجماعات الإرهابية، وردودها على مواقف الحكومة المصرية السياسية والأمنية والدنية الرسمية.

6- تبادل الرسائل المشفرة مع كوادرها وشبكاتها العنقودية داخل مصر وخارجها.

لا شك أن مظاهر خطورة دور الإعلام الدينى – النتى والمرئى- لا تقتصر فقط على الحالة المصرية، وإنما تمتد إلى عديد البلدان العربية، وغيرها لأنها جزء من عولمة السوق الدينى عموماً، وعولمة الإعلام المرئى والمسموع ومتعدد الوسائط.

من هنا صعوبة الإجابة عن سؤال: من الذى يصلح من؟، الإصلاح السياسى والاجتماعى والدينى الشامل أم إصلاح الإعلام، وأياً منهم الذى يؤثر على إصلاح الآخر؟

استخدامت الدول والحكومات العربية للإعلام الدينى فى سبيل إضفاء شرعية دينية إسلامية على سياساتها الإقليمية والداخلية

ثانياً: أزمة الإعلام الدينى فى مصر

1- أزمة الإعلام الدينى، هى جزء رئيس من أجزاء الأزمة الكبرى للعقل الإسلامى العربى، والعقل المسيحى العربى. لاسيما الأرثوذكسى المصرى، وإنتاجه الخطابى الكلامى واللاهوتى والفلسفى، والفقهى، والتأويلى، والمعيارى، والمنهجى. ومن أبرز تجلياتها، الاتجاه الغالب فى إعادة إنتاج منظومات ومعايير وأساليب بحث وتفسير فقهى، ولاهوتى تنتمى إلى مدارس فقهية تاريخية. لا شك أن هذه النزعة التقليدية، المحافظة لدى بعض رجال الدين الإسلامى، ترمى إلى التأكيد على نزعة أصولية متزمتة، حولت بنيات المذاهب الفقهية، وتفسيراتها وتأويلاتها، ومراجعها إلى منظومات فوق تاريخية، ومن ثم إلى تقليد فقهى يعاد إنتاجه للإجابة على أسئلة جديدة فى الإيمان والعقيدة، وظواهر الحياة المركبة على المستويات السياسية، والقيمية، والاقتصادية، والاجتماعية والشخصية، والأسرية، والحريات، والخصوصية، والحواس والمشاعر، ورؤى العالم والآخرين.. الخ.

2- إن المفارقة بين منظومات التقليد الفقهى واللاهوتى، وبين أسئلة اللحظة التاريخية-، ومن ثم احتياجاتها-، هى التى تجعل العقل الإسلامى، والدينى والمسيحى والأرثوذكسى المصرى- تحديداً- مستقيلاً عن إنتاج اجتهادات عصرية، وحداثية وما بعدها، كى يقيم جسراً بين الإيمان الدينى، والإجابة على تفسير الأسئلة والسياقات والمتغيرات والاحتياجات الإنسانية والمجتمعية، والروحية للإنسان المصرى والعربى عموماً وتفسيرها فى ضوء تحولات العصر على وجه الخصوص.

3- يعانى غالبية المصريين والعرب من عذابات الأسئلة والواقع اليومى المتخم بالالتباسات، والتهتكات والأزمات المركبة، وصعوبة المعاش، وهيمنة الخوف من الجوع، والعنف السلطوى، والطائفى، والرمزى، والسياسى. ان غالبية المصريين يخايل بعضهم هواجس وأنياب وجحيم السجون، والتعذيب وديكتاتورية الذكورة السياسية والدينية الإسلامية والمسيحية والاضطرابات الأمنية واختلالات سياسات التوزيع الاجتماعى، وشيوع أنماط متعددة من الفساد السياسى والإدارى والأخلاقى، وعنف بعض الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية، وعودة التسلطية السياسية والقمع العنيف للأجهزة الأمنية. إن الخوف والعنف اللذين يسيطران على وجدانات غالب المصريين – والعرب- وحواسهم، وسلوكهم، جعل من اللجوء إلى الأديان وأسواقها أمراً ضرورياً وملحاً بحثاً عن توازنات نفسية وروحية فى ظل انهيار الإيديولوجيات السياسية الوضعية. إن التنافس الضارى داخل الأسواق الدينية، يعد من أبرز ظواهر الحالات الدينية الإسلامية والمسيحية فى مصر، وبعض دول المنطقة فى العقود الأخيرة، ويجعل السياسة الدينية الرسمية، ومؤسساتها موضع شكوك وانتقادات وجحد لشرعيتها الدينية، كتابع للسلطة السياسية التسلطية ومبرر لسياساتها القمعية.

4- إن الحالة النفسية شبه الجماعية لغالب المصريين تبدو مترعة بالخوف والكراهية. والألم والقلق، وبعد 25 يناير 2011 وما بعد، فى ظل مراحل الانتقال الثلاثة، وما انطوت عليه من اضطرابات أمنية وسياسية، وحركة متلاحقة من الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى انتشار العنف الاجتماعى ذو الطبيعة الجنائية والسياسية والدينية، وانتهاك الحريات الدينية للأقباط وبعض المسلمين، على نحو أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية، والسياسية فى ظل غياب التوافق على الحد الأدنى من القيم والقواعد المؤسسة للوفاق الوطنى على عمليات الانتقال السياسى من التسلطية السياسية إلى ما بعدها. لا شك أن هذه البيئة السياسية المضطربة أدت إلى تفاقم مشكلات الاندماج والتكامل الوطنى. فى ظل هذه الأوضاع الانتقالية المترعة بمصادر التهديد للأمن الداخلى والقومى، تراجع وضع الاقتصاد المصرى على نحو أدى إلى انتشار العوز والمرض والجهل وتدنى نوعية وكم التعليم، وتراجع الطلب الاجتماعى- السياسى على المعرفة، وأدوار المثقف النقدية. لا شك أن ذلك ساهم فى إنتاج طلب شبه جماعى على القيم والمقولات الدينية العقائدية والتى تمس الإيمان والسلوك، والحريات الشخصية.. الخ. من هنا ساهم هذا الطلب الاجتماعى والاقتصادى والسياسى على الدين من الأفراد والأنظمة السياسية والجماعات الإسلامية السياسية، والمؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية والمسيحية، وهو الأمر الذى أدى إلى بروز عدد من المتغيرات نرصد بعضها تمثيلاً لا 

حصراً فيما يلى:

أ- اتساع نطاق الأسواق الدينية والمذهبية، نظراً لاتساع الطلب السياسى- الاجتماعى على المقولات والمعانى والتبريرات الدينية لسياسات وأنماط سلوك اجتماعى، وسياسى، واقتصادى، شبه جماعى، أو شخصى، أو حكومى أو حزبى أو من جماعات تسوغ خطاباتها السياسية أو المذهبية بالأسانيد والمقولات الدينية. الخ.

ب- بروز احتياج موضوعى إلى عرض دينى يشتمل على خطابات ووعظ وتفسيرات وتأويلات وفتاوى ومعانى دينية من بعض منتجى الخطابات الدينية والمذهبية أياً كانت، كى تتفاعل على نحو فعال مع الطلب الدينى المتزايد. من ثم دخل دعاة ووعاظ من المؤسسات الدينية الرسمية، وفى هذا الإطار تزايد الإنتاج الدينى الذى يوزع عبر وسائل الإعلام الجماهيرية والجديدة الفضائية والنتية –مواقع التفاعل الاجتماعى-، والأقراص المدمجة والكاسيتات. وثمة تعدد وتنوع فى منتجى المواد الإعلامية الدينية، فى شكل مؤسسات وشركات وأشخاص، وتمويلات من بعض الدول والحكومات النفطية لدعم مكانتها الإقليمية، وإضفاء شرعية دينية على سياساتها الخارجية، وعلى نظمها العائلية والقبلية والعشائرية. وثمة تمويلات للإعلام الدينى وأجهزته من جماعات دينية إسلامية سياسية، أو منظمات دينية مسيحية رسمية، أو غير حكومية تدعم الإعلام الدينى المسيحى فى منطقة الشرق الأوسط، والإعلاميين المسيحيين العاملين فى أجهزة الإعلام المختلفة.

ج- بروز وعاظ دينيين تقليديين مسلمين وقساوسة ورجال أكليروس مسيحيين، ونستطيع أن نلمح فى خطاباتهم سمات المحافظة والتزمت باسم الحفاظ على العقيدة والشريعة واللاهوت المسيحى. ومن ناحية أخرى، النزعة الأرثوذكسية حول قانون الإيمان وتعاليم الآباء، وبروز سلاح المحاكمات الدينية، ضد قساوسة وأساقفة من الأقباط الأرثوذكس وبعض السجالات القديمة من بعض الاساقفة الأرثوذكس إزاء البروتستانتية، كما حدث فى مصر.

د- بروز نمط من الدعاة الجدد "الكاجوال"، الذين يرمون إلى تلبية طلب مختلف من أجيال جديدة من الشباب، الذى يعانى من ألم الأسئلة والتناقضات بين الإجابات النمطية و الخطابات والفتاوى التقليدية الرجال المؤسسة الرسمية ووعاظها، ومن لف لفهم، وبين واقع حياتهم ومشاكلها وأسئلتها، واحتياجاتهم الروحية والإيمانية. ويلاحظ بعد 25 يناير 2011 وما بعد، تراجع دور هؤلاء بعد وصول جماعة الإخوان للسلطة، والحضور السياسى، لبعض الجماعات والأحزاب السلفية، وغيرهم من السلفيات الجهادية.

هـ- ثمة تشابهات بين نمط الوعظ الكاريزماتى فى الكنائس البروتستانتية فى مصر، ونمط الوعظ والإرشاد الدينى الإسلامى لبعض الدعاة الجدد. ولا شك أن تزايد دور الدعاة الجدد فى المنطقة يعود إلى تركيزهم على بعض الجوانب الروية، والأخلاقية والقيمية عموماً، لاسيما مع فئات اجتماعية تنتمى إلى بعض شرائح الفئات الوسطى العليا، والوسطى – الوسطى المدينية أساساً فى مصر، ثم تراجع دورهم بعد الانتفاضة الثورية المصرية المجهضة.

و- الملاحظ أن خطاب الدعاة الجدد لا يركز على المسائل السياسية والشرعية، والحريات العامة والشخصية، ولا يتصدى لمشاكل الثروة وتراكمها ووظائفها الاجتماعية.. الخ!

ز- استخدام المنظمات الإسلامية السياسية الراديكالية- التى تمارس العنف، والإرهاب- الأجهزة والفضاءات الإعلامية الجماهيرية فى بث وتوزيع خطاباتها، وتعليماتها لكوادرها عبر الشفرات – Codes-، والترويج لمواقفها الإيديولوجية الدينية، والسياسية على أوسع نطاق، ومن أبرزها قنوات فضائية، ومواقع على الفضاء النتى العولمى، وذلك على نحو ما سبق لنا الإشارة إليه سلفاً.

ح- استخدام الدول والحكومات العربية للإعلام الدينى فى سبيل إضفاء شرعية دينية إسلامية على سياساتها الإقليمية والداخلية، ولمحاولة الترويج لدعمها للدعوة الإسلامية على نحو ما تفعل الحكومة السعودية، وبعض "رجال الأعمال" الموالين لها.

ط- استخدام وسائل الإعلام الدينى، فى الترويج للأسانيد الدينية الإسلامية الداعمة لخطابات السياسة الرسمية، وإضفاء المشروعية عليها، ناهيك عن إسباغ الشرعية الدينية على السياسات الاجتماعية، وأحياناً نقائضها كما فى الحالة المصرية، من دعم الإسلام والمسيحية للتأميمات، والقطاع العام والتخطيط المركزى، والاشتراكية، والسياسات الاجتماعية والزراعية، والإصلاح الزراعى، فى المرحلة الناصرية، ثم النكوص عن هذا الاتجاه الإيديولوجى فى عهدى السادات ومبارك فى أسلمة السياسات والاستراتيجيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتبرير للقطاع الخاص، والأسواق الحرة، والباب المفتوح، والخصخصة، والعودة إلى الرأسمالية مجدداً.

8- ساعدت بعض أجهزة الإعلام عموماً والدينى خصوصاً على تزايد النزعة التعبوية لمستهلكى المادة الإعلامية الدينية، وترويج أبعادها السياسية والعقائدية والنزاعية بين أبناء الأديان والمذاهب بعضهم بعضاً تحت مظلات ذات الدين أو المذهب أو المدرسة الفقهية، واللاهوتية. ومن ثم ساعدت بعض أجهزة الإعلام عموماً والدينى خصوصاً فى اتساع النزاعات السجالية، والازدراء الدينى، ومن ثم نمو الكراهية على أساس دينى، والتشويهات المتبادلة، والأخطر دعم صور نمطية متبادلة يشوبها السلبية، والطابع القدحى المباشر، أو غير المباشر، وذلك عبر الإيماءات، والذم الناعم والمهموس فى الإنتاج السجالى المبثوث والموزع عبر الأجهزة الإعلامية عموماً والدينية على وجه الخصوص.

9- المساهمة فى تنميط المعرفة والوعى الدينى شبه الجماعى، مع تراجع الطابع الشخصى- ولا أقول الفردى نظراً لأزمة ميلاده المستمرة ككائن اجتماعى وسياسى ذا إرادة مستقلة.. إلخ – للتجربة الدينية والروحية. ومن ثم غياب الطابع الفردانى والشخصانى للتجارب الدينية، وحلول التمثيلات الخشبية للدين، أى مجموعة الطقوس والمقولات والكلشيهات الدينية البرانية التى تعبر عن ظاهريات العقيدة والإيمان والسلوك الدينى بديلاً عن عمق التجربة ومثابراتها ومجاهداتها الذاتية الواصلة إلى الإيمان المعتدل والحر والمتسامح.

10- اتساع سوء التفاهم بين أهل وأتباع الأديان والمذاهب في المنطقة عموماً. وفى مصر بين المسلمين والأقباط بوجه خاص، بسبب نقص المعرفة الدينية بذات الدين والمذهب، وبين المصريين المسلمين إزاء المسلمين، وبين المسيحيين إزاء مواطنيهم المسلمين، لصالح الكلشيهات، والصور النمطية الشعبوية، والفلكوريات عن ديانة ومذاهب الأديان الأخرى. والاخطر هو اختزال التنوع الإسلامى والمسيحى فى كتلتين مذهبيتين إسلامية ومسيحية، دونما معرفة عميقة لجذور وتطورات التضاريس التاريخية والاجتماعية والسياسية. والمذهبية، والثقافية داخل أتباع الدينين. ولا شك أن الإعلام الدينى، لاسيما الجديد- الفضائى، والنتى ومواقعه التفاعلية الاجتماعية كالتوتير والفيس بوك.. الخ- ساهم فى ازدياد الذم والقدح، ونشر الكراهية وعدم التسامح.

11- السلطة الإعلامية الدينية الرسمية، والمحجوب عنها الشرعية القانونية، تستخدم كوادر مبتسرة التكوين المهنى، أو المعرفى، أو عناصر تستخدم الآلة والأدوات الإعلامية فى الترويج الوعظى والدعاوى الإعلامية، وفى الترويج للخطاب الدينى الإيديولوجى والسياسى حول الدين وظواهره وعقائده ومعاييره، من منظورات احادية متزمتة فى الغالب، والاستثناءات محدودة فى هذا الصدد.

12-يلاحظ أن مواقع التفاعل الاجتماعى، وبعض القنوات الفضائية الدينية، باتت تلعب أدواراً سلبية فى العلاقات الدينية بين الإسلام والمسيحية، وداخل كل ديانة بين المذاهب الرئيسية الكبرى، السنية والشيعية والأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية. أن الحروب المذهبية داخل عالم الإسلام، تشكل غطاءات للصراعات السياسية الإقليمية بين الدول الإقليمية الكبرى، على نحو أشاع الفرقة والشقاق بين أبناء الديانة العظمى، وتراجع المسعى التاريخى للتقريب بين المذهبين الكريمين السنى والشيعى، والذى قاده فى مصر الأمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، ود. محمد عبد الله دراز، والشيخ القمى الإيرانى الشيعى وصحبهم من دعاة التقريب.

الأخطر فى الحرب المذهبية، هى تبنى بعض الدول لها، كجزء من المحاور الإقليمية وغطاءاً لها، وتحول المذهب الدينى إلى سياسة أمنية وخارجية لبعض دول المنطقة، ومن ثم انعكس ذلك سلباً على التكامل الداخلى، وظهور بعض الانتهاكات للحرية الدينية لبعض المواطنين، وتسويغ ذلك من بعض رجال الدين والأحزاب الدينية السياسية فى بعض هذه البلدان. أن بعض الاعتداءات الدامية على بعض المواطنين المصريين الشيعة، هى تعبير عن هذا النمط من الضغوط السياسية المذهبية التى تمارسها بعض الجماعات الدينية السياسية، وبعض الشيوخ والدعاة. من ناحية أخرى كشفت بعض ردود الأفعال الغاضبة عن احتياج موضوعى وسياسى ودينى لمراجعة بعض السياسات الدينية الرسمية واللا رسمية.

 

ثالثاً: جدل الإعلام الدينى، والإصلاح: من يصلح من؟

بعد الانتفاضة الثورية المصرية –25 يناير 2011 وما بعد-، طرح على استحياء مسألة تثوير القيم والثقافة الدينية السائدة، إلا أن هذا الاتجاه المحدود داخل قلة قليلة من النخبة المثقفة سرعان ما توارى فى ظل الصراع السياسى بالإسلام وعليه، بين بعض مكونات النخبة المصرية السياسية والمثقفة الليبرالية واليسارية، وبين جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات والأحزاب السياسية الإسلامية الأخرى، ومشايخ الحركة السلفية.

تراجع شعار التثوير للفكر الدينى، وللدولة ومؤسساتها لاسيما الدينية الإسلامية. يمكن القول أن تحليل العمليات السياسية والدولتية فى أعقاب 30 يونيو 2013، وحتى إقرار الدستور الجديد للبلاد فى 2014، تشير إلى عودة خطاب الإصلاح السياسى مجدداً على الساحة السياسية المصرية تحت غطاء ثورة 30 يونيو 2013 و"ثورة" 25 يناير 2011.

أن تحليل سياسات الانتقال، تشير إلى عودة مضطردة حتى الأن لإعادة تشكيل النظام السياسى، على نحو إصلاحى أكثر من كونه ثورياً وراديكالياً على مستوى الأبنية الإيديولوجية والإعلامية والمؤسسية.

من هنا نستطيع القول أن مواجهة العمليات الإرهابية، وموجاتها المتلاحقة من قبل الدولة المصرية والسلطة الانتقالية، أعادت إلى المواجهة الحاجة إلى سياسة الإصلاح الذى سيبدو جزئياً فى المرحلة الأولى فى أعقاب انتخاب رئيس الجمهورية، ومجلس النواب القادم، واستكمال خارطة الطريق.

من هنا يطرح سؤال إصلاح الإعلام لمواجهة الإرهاب والفكر والخطابات الدينية الراديكالية والجهادية على النحو التالى:

هل الإعلام هو الذى يصنع أو ينتج الإصلاح؟ أم أن الإصلاح هو الذى يؤدى إلى إصلاح الإعلام؟

لا يمكن الزعم بأن الإجابة بسيطة مثل سؤالها أيهما يؤدى إلى التأثير على الآخر، لأنه يعكس رؤية أحادية للإصلاح ومجالاته المتعددة.

ثمة جدلية بين الإصلاحات الفرعية، والإصلاحات الشاملة التى تتأسس على فلسفة إصلاحية تؤطر الرؤى والمفاهيم والسياسات والاستراتيجيات التى تمس المثال الإصلاحى المأمول، ومجالاته الدستورية والقانونية واللائحية والإدارية، والإعلامية، والثقافية، والدينية، والتعليمية، والصحية، والاقتصادية، والاجتماعية... إلخ. وإلى عمليات الإصلاحات الجزئية داخل كل قطاع ومجال فى إطار المنظومة الإصلاحية القطاعية، أو الكلية الشاملة الدستورية والسياسية والقانونية والتنظيمية بالأساس، بوصفها أحد الركائز الرئيسية للإصلاح الإعلامى عموماً والإعلامى الدينى على وجه الخصوص.

إن الإصلاحات الشاملة تضفى التكامل والتساند النسقى بين القطاعات والمجالات المراد امتداد الإصلاحات إليها، خاصة أن الإصلاح السياسى والدستورى، ذو أهمية استثنائية، لأنه حال إجرائه يمس مسألة توزيع القوة والسلطة داخل النظام، وأجهزة الدولة، ومن ثم مسألة تنظيم وهيكلة السلطات الثلاث والتوازن، والفصل المرن بينها. ومن ناحية أخرى، دور مؤسسات المشاركة السياسية. وإعمال مبادئ المشروعية الدستورية، ودولة القانون، ودور المواطنين فى اختيارهم لقادتهم، وفى المساهمة فى إنتاج التشكيلات البرلمانية ومن ثم الإنتاج التشريعى والرقابى بشكل غير مباشر عبر صناديق الاقتراع.. إلخ.

الأهم والأخطر يتمثل فى دور المواطنين فى الاختيار، والرقابة، والحراك السلطوى للنخب السياسية والحزبية.. إلخ. من ناحية أخرى، الإصلاح الدستورى والسياسى، يؤدى إلى دعم حقوق المواطنين وحرياتهم العامة والشخصية، وواجباتهم، ومن ثم دعم مكانة المواطن والحالة المواطنية فى ظل مبادئ الشفافية وإعمال قواعد المسئولية السياسية والقانونية "للطبقة السياسية" فى البلاد. يبدو لى- وارجو ألا أكون مخطئاً- أن تنامى الحالة المواطنية، وميلاد المواطن، ومن ثم ثقافة المواطنة والديمقراطية، يجعل من الإصلاح الدستورى والسياسى، أبرز محركات السياسات والعمليات والاستراتيجيات الإصلاحية فى القطاعات الأخرى.

دعم ثقافة المواطنة والديموقراطية يؤدى إلى خلق بيئة سياسية وإعلامية تدفع نحو حالة يتداخل فيها الجدل والسجال والحوار حول الدين والفكر الدينى وتفسيراته، وتأويلاته البشرية وإصلاحه، لاسيما إذا كانت قيم وقواعد المواطنة الدستورية، تحد من تحيزات الدولة وأجهزتها بما فيها الإعلام لصالح ديانة بعض مواطنيها إزاء ديانة مواطنين آخرين أو بعض المذاهب دون أخرى داخل ذات الدين. من ناحية أخرى، الدولة القومية الحديثة، بوصفها شخصاً معنوياً لا تأخذ مواقف سلبية إزاء الأديان وإنما تتسم بالحياد الإيجابى لنها تقف ضد اتخاذ الدين معياراً أو أداة للتمييز بين مواطنيها، بل إن الحياد الإيجابى، يدفع الدولة والسلطات السياسية والحكومية إلى دعم المؤسسات، والثقافة الروحية والدينية، وعلى التدخل لمنع أى تمييزات على أساس دينى أو مذهبى بين مواطنيها أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية. من ناحية أخرى، تعلى الدولة القومية الحديثة، من سلطان العقل وحريات الرأى والتعبير، والصحافة، والبحث الأكاديمى، والإبداع... إلخ.

من هنا تشكل الدولة الديمقراطية الدستورية – دولة القانون الحديث- التى تحمى الحقوق والحريات العامة والشخصية، أحد المحركات السياسية الأساسية لإصلاح النظام الإعلامى وأجهزته عموماً، والدينى على وجه التحديد.

لا يمكن إصلاح الإعلام عموماً والدينى خصوصاً فى ظل بيئة سياسية مضطربة وقمعية، وعدم الاستقرار الأمنى والسياسى

أن النظام الديمقراطى، والثقافة السياسية والقانونية الديمقراطية التى تقوم على إعلاء حريات الرأى والتعبير، والإبداع، والمبادرات الفردية والجماعية، ومن ثم يخلق بيئة سياسية إعلامية تؤدى إلى الإبداع، والنقد، والجدالات، والسجالات التى تؤدى إلى ممارسة رقابة الصحافة والرأى العام والصحفيين على "الطبقة السياسية"، وعلى أعمال سلطات وأجهزة الدولة والحكومة وسياساتها وقراراتها المختلفة. من ثم الإصلاح السياسى والتعليمى والدينى والثقافى يؤثر على نوعية ومستوى مستهلكى  الخطابات والمواد الإعلامية الدينية على اختلافها، ومن ثم يرفع من مستوى وعيهم السياسى والدينى، ويغدو قادراً على التمييز والفرز بين السلع الدينية الإعلامية على اختلافها، ويصبح المستهلك طرفاً مؤثراً فى معادلات السوق الدينى عموماً، والإعلامى تحديداً، وفى الاختيار بين الخطابات والمواد، والمنتجين والترجيح بينهم، بما يؤثر على مكاناتهم وذيوعهم الإعلامى، أو حجب الدعم عن بعضهم بانخفاض الطلب على إنتاجهم الدينى الإعلامى.

ثمة جدل بين بيئة الإصلاح السياسى والدستورى، والشامل، وبين التأثير على النظام الإعلامى عموماً، والدينى على وجه الخصوص، خاصة فى ظل تدهور مستوى ونوعية الإعلام الدينى، الذى يتسم بعدد من السمات السلبية التى نشير إلى بعضها على سبيل التمثيل فيما يلى:

1- ضعف بعض مستويات الكادر الإعلامى الذى يعمل فى حقل الإعلام الدينى من حيث التكوين المهنى الاتصالى، أو الثقافة والتخصص الدينى فى ظل أزمة الاحترافية والمهنية فى الإعلام المصرى المرئى والمكتوب والمسموع.

2- النزوع السلفى المحافظ، والميل إلى التشدد تحقيقاً للنفوذ، والمكانة فى سياقات دينية، ومد دينى محافظ، وهى ظاهرة تمتد إلى عقود سابقة على الانتفاضة الثورية المصرية فى 25 يناير 2011 وما بعد، ويلاحظ تزايدها وعنفها بعد وصول جماعة الإخوان المسلمين، وبعض الأحزاب السياسية السلفية إلى البرلمان، وتفاقم الاحتقانات السياسية والدينية والمذهبية بعد رحيل هذه القوى الإسلامية السياسية عن السلطة بعد حل البرلمان، وعزل رئيس الجمهورية السابق د. محمد مرسى عن موقعه الرئاسى.

3- بروز بعض مقدمى برامج من رجال الدين المتشددين، من ذوى التكوين الدينى الأصولى- اللاهوتى، والفقهى الإسلامى-، الذين يطرحون خطابات دينية متشددة تحقيقاً للرواج، ولبناء مكانة وسلطة دينية لاهوتية وفقهية على أتباع ديانتهم أو مذهبهم خاصة فى ظل سيطرتهم على البرلمان المصرى، ومقعد الرئاسة الأول فى مصر..

4- التنافس بين مقدمى البرامج الدينية، والضيوف، فى التشدد والصرامة، وبين بعضهم بعضاً بحثاً وراء الذيوع والانتشار عبر الفضائيات العربية العامة والدينية.

5- الميل السجالى فى الخطابات الدينية على الفضائيات كإحدى استراتيجيات تعبئة غالب الجمهور، والرواج عن بعض عوام المتدينين ذوى المزاج الدينى المتشدد والحاد.

6- الخلط بين السياسى وتبريراته الدينية، والمصالح التى يتدثر بها الخطاب.

إن السمات السابقة وغيرها التى تسم الإعلام الدينى تمثل عائقاً بنيوياً إزاء الإصلاح الدينى. ومن ناحية أخرى، بروز أزمة المؤسسات الدينية ومحافظتها، وخضوع بعضها- الإسلامية- للسياسة ومصالحها وضغوطها بما يؤدى إلى عدم تطويرها وإصلاحها مؤسسياً، ومن حيث تجديد الإنتاج التعليمى، والإفتائى والدعوى، والفقهى.. إلخ.

من ناحية أخرى، المؤسسات المسيحية والأرثوذكسية المصرية تتأثر بالضغوط المرتبطة بالسياقات الداخلية والإقليمية والعولمية للمد الدينى الإسلامى عموماً، وبالعنف السياسى والاجتماعى المادى والرمزى والخطابى الذى مارسته بعض الأحزاب والجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية على وجه الخصوص، ومن ثم مالت إلى دعم عناصر المحافظة داخلها، وهيمنة السلطة الدينية المتشددة والراديكالية، وهو ما أثر على جمود غالب خطاباتها الدينية اللاهوتية، وإعلامها الدينى.

7- الحريات السياسية، والفكرية، لاسيما حرية الرأى والتعبير والتدين والاعتقاد تؤدى إلى التأثير النسبى على الإنتاج الفقهى واللاهوتى المحافظ عموماً، ومن ثم على المواد الإعلامية الدينية.

من ناحية أخرى، تساهم السياسة الدينية الإصلاحية عموماً- التى تمس المؤسسات الدينية الرسمية، وإصلاح بنية الفكر الدينى، والخطابات الدينية بوجه عام- فى التأثير على دعم إصلاح الإعلام الدينى. من الشيق أيضاً أن نشير إلى أن إصلاح النسق الإعلامى الدينى، من حيث الأدوات، والأساليب الإعلامية، والأهم، طبيعة الخطاب الدينى الإعلامى من السلفية والمحافظة والتزمت، أو التحريضى إلى الحرية والتسامح والعدالة والأخوة الإنسانية، سيؤدى إلى تطوير وإصلاح الإعلام الدينى. من ناحية أخرى، استبدال معايير وأساليب التجنيد الإعلامى العشوائية والعفوية، وبالوساطة أحياناً السائدة فى التجنيد الوظيفى للعمل فى أجهزة الإعلام الدينى، -واعتماد معايير مهنية مختلفة تعتمد على المهنية والكفاءة والجدارة، والاعتدالية-، وهو ما سوف سيؤدى إلى إحداث تحول إيجابى فى الإعلام الدينى السائد مصرياً وفى بعض البلدان عربياً.

 

رابعاً: خاتمة: الإصلاح هو الحل:

لا يمكن إصلاح الإعلام عموماً والدينى خصوصاً فى ظل بيئة سياسية مضطربة وقمعية، وعدم الاستقرار الأمنى والسياسى، ومن ثم سيؤدى تطوير هذه البيئة إلى تهيئة الأجواء إلى العودة إلى المسار الديمقراطى الإصلاحى. أن تطوير وإصلاح بنية الإعلام الدينى الرسمى، والخاص لن تحدث  دونما حريات ديمقراطية وإصلاحات دستورية وسياسية، كما أن إصلاحاً سياسياً بلا إصلاحات إعلامية عموماً، ودينية خصوصاً، لن يؤدى إلى دعم السياسات والعلميات الإصلاحية عموماً، خاصة فى ظل عودة أجهزة الإعلام المصرية تحديداً إلى بعض الخطوط الحمراء إزاء الحريات الفكرية والسياسية والأكاديمية والإعلامية، وبروز بعض الأنياب الأمنية القمعية، وبعض الحنين السلطوى لدى بعض أجهزة "الدولة العميقة"فى مصر إلى وضع الحريات السياسية والإعلامية تحت السيطرة منعاً ومنحاً، نعومة وقسوة، بعد تراجع الحراك الثورى نسبياً. من أجل الإصلاح السياسى. ومن المرجح أن يستمر الإعلام الدينى مستمراً فى أزمته، لأن السوق الدينى عموماً، والإعلام الدينى خصوصاً ميداناً لرهانات رسمية ولا رسمية تدور حول الهيمنة السياسية باسم الدين والمذهب على روح المصريين، وغيرهم فى هذه المنطقة من العالم.

فى هذا الإطار يمكن إبداء بعض المقترحات لتطوير الإعلام الدينى فيما يلى؟

1- إعداد تقرير سنوى حول "الإعلام الدينى، رؤية تقويمية" تعده بعض مراكز البحث الاجتماعى والسياسى، أو بعض المنظمات الأهلية المعنية بعدم التمييز بين المواطنين لأسباب دينية، أو مذهبية. يتناول ويركز هذا التقرير الذى يمكن أن يكون سنوياً أو نصف سنوى أو ربع سنوى على تناول نقدى وأكاديمى ومهنى لمستويات الممارسة المهنية، وكفاءة كل جهاز إعلامى واتصالى ومعلوماتى. من ناحية أخرى، تقويم المادة وفق مؤشرات تتصل بمدى التجديد فى الفكر الدينى الإسلامى، والمسيحى، أو سيطرة نزعة الجمود والنقل... ويمكن دراسة المواد الإعلامية من حيث الانتهاكات الماسة بحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية دراسة تحليلية ورصدية حول القيم الدينية التى يتم بثها، من حيث الترويج للكراهية والازدراء بالأديان والعقائد، أو تركيزها على حرية العقل الدينى، والتسامح، والحريات، والعدالة.. الخ.

سيصدر مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام تقرير عن حالة الحرية الدينية فى مصر، بعد الانتفاضة الثورية المصرية من 25 يناير 2011 إلى 25 يناير 2014.

2- إعداد ورش عمل للجماعة الإعلامية العاملة فى المجال الدينى- المرئى والمسموع والمكتوب والنتى- لمناقشة قضايا التجديد فى الفكر الدينى، وحول المشاكل الطائفية وأسبابها ومواقفها ودور الإعلام الدينى فى تهدئة وتخفيض مصادر التوتر والعنف ذى الوجوه الدينية والمذهبية.

3- ورش عمل تدريبية على الأصول المهنية الدولية فى العمل الإعلامى.

4- إعداد كتاب يتضمن المصطلحات والتعبيرات الدينية والمذهبية التى تحضُ على الكراهية وأشكال العنف والتمييز الدينى والمذهبى، وتحليل لجذور وأسباب تراكم هذا النمط من نصوص وخطابات الكراهية وسياقاته وأسئلته وصراعاته الظاهرة والمضمرة والمصالح التى تدور فيما وراءها.

5- وضع قاموس للمصطلحات المهنية التى تستخدم فى التعبير الإعلامى عن أوضاع الحروب الدينية والمذهبية ونزاعاتها، وأسبابها، دعماً للموضوعية فى التناول، وبحيث لا تتحول بعض التوصيفات وأحكام القيمة المعيارية لأحد محركات تغذية الكراهية الدينية والمذهبية.

6- إعداد ورش عمل رسمية، ومن بعض المنظمات الطوعية المعنية بحالة الإعلام لتدريب، وتأهيل وإعادة تكوين الإعلاميين الشباب، ومن أجيال الوسط حول إصلاح الإعلام الدينى.

7- وضع مواثيق شرف أخلاقية حول الممارسة المهنية والأحترافية للإعلام الدينى المرئى والمسموع والمقروء والفنى.

8- ورش عمل حول تجديد وإصلاح الفكر الدينى للدعاة ورجال الدين المسلمين – أياً كانت مذاهبهم- والقسوس والقمامصة ورهبان الدين المسيحى الأرثوذكسى.

9- إنشاء مواقع نتية للكتابات الدينية الإصلاحية أياً كانت، والتطور فى الفكر الدينى الإصلاحى المصرى والعربى الإسلامى، وكذلك المسيحى.

10- تشجيع بعض دعاة إصلاح الفكر والإعلام الدينى على النشاط من خلال مواقع التفاعل الاجتماعى للرد على الخطابات السلبية الداعية للكراهية والتمييز الدينى، من خلال لغة تدعم الحوار الدينى والمذهبى.

11- إعداد كتب مدرسية مبسطة لمراحل التعليم المختلفة تطرح قيم التعايش الدينى والمذهبى، وقبول الآخر فى إطار قيم ومبادئ وحقوق المواطنة فى الدولة الحديثة وقانونها، وكذلك فى أصول الأديان والمذاهب المختلفة لاسيما الإسلام والمسيحية. أن خطاب المساواة والمواطنة والتسامح والحرية الدينية والتعايش فى القيم الإسلامية الفضلى، والمسيحية السمحاء وهو ما سيساعد على تطوير البيئة الدينية والتعليمية والإعلامية، ويؤدى إلى التخفيف من وطأة الاحتقانات وحروب الكراهية والعقائدية الدينية والمذهبية فى مصر وغيرها من البلدان العربية.

ما سبق قد يشكل بعض من خطاب الماينبغيات المعيارى، لكنه يمثل مجموعة من المهام يمكن القيام بها، سواء من النخبة الحاكمة، والسلطة السياسية لاسيما بعد استكمال خارطة الطريق.

من ناحية أخرى يمكن أن تشكل برنامج عمل لبعض المنظمات الطوعية الدفاعية فى مجال الدفاع عن الحريات الدينية ومواجهة الفكر الدينى ذو النزعة الإرهابية الذى يدعم ويغذى إيديولوجيات بعض الجماعات السياسية الإرهابية فى مصر وغيرها من البلدان العربية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟