فى حياة الأمم والشعوب ثمة أساطير مؤسسة، تلعب دوراً مهماً فى تعزيز الانتماء ودعم موحدات الوعى والوجدان والتماسك، تشكل هذه الأساطير إطاراً ناظماً للوعى والشعور ومرجعية للانتماء،
ومدونة للسلوك والنظرة للذات وللآخر على حد سواء، فالأمة الفرنسية مثلاً يتركز رصيدها الحضارى الحديث على الأقل على أسطورة «الحرية والإخاء والمساواة»، وهى الشعارات الثلاثة التى رفعت لواءها الثورة الفرنسية، وكذلك الأمة الأمريكية أيضاً تستلهم تاريخها ومكانتها من أسطورة «الحرية» وتحقيق الأحلام فى الثراء والغنى وتحقق الذات الفردية.
وبصرف النظر عن واقع هذه الأساطير، وما انتهت إليه فى الواقع، من تفاوتات طبقية كبيرة، واستلاب الفرد فى ظل النظم الحاكمة، وخضوع اختياراته لمؤسسات واحتكارات إعلامية وغير إعلامية، تتولى صياغة وتحديد اختيارات الفرد ووعيه، فإن ذلك لا يقلل من أهمية هذه الأساطير فى حياة الأمم والشعوب، ليس لأنها فقط تحولت لاعتقاد الناس والمواطنين فى صحتها وتمركزهم حولها، إلى حقيقة فى الوعى والشعور والواقع، بل أيضاً لأن متطلبات الحياة والعيش المشترك كأمة يقتضى ويتطلب انتظاماً وتوافقاً حول هذه الأساطير التى يعاد إنتاجها ويتوارثها جيل بعد جيل.
والأمة المصرية ليست استثناء من تاريخ الأمم والشعوب، بل هى فى قلب هذا التاريخ، أى أنها تمتلك مجموعة من الأساطير التى صاغت وجدانها ووعيها بذاتها كأمة، والتى تحدد إطاراً عاماً للانتماء إليها وتعين مكانة الأمة المصرية فى مواجهة الأمم الأخرى.
من بين هذه الأساطير التى تمتلكها مصر تبدو وبقوة أسطورة قوة النسيج الوطنى المصرى وتماسكه عبر التاريخ، ذى الطبقات المتعددة، والانتقالات النوعية التى شهدها فى مراحله المختلفة من المرحلة الفرعونية إلى المرحلة اليونانية ثم الرومانية ثم المسيحية ثم الإسلامية وصولاً إلى المرحلة الراهنة.
ومما لا شك فيه أن أسطورة قوة وتماسك النسيج الوطنى المصرى تمثل أقوى الحقائق التاريخية، ليس بفعل تحول هذه الأسطورة عبر الروح المصرية إن صح التعبير إلى اعتقاد راسخ فى الوعى والوجدان، ولكن أيضاً لأنه يبدو واضحاً جلياً فى تحولات التاريخ المصرى القديم منذ توحيد القطرين على يد مينا أو توحيد الوجه البحرى والوجه القبلى بعباداتهما المختلفة، وكذلك فى التاريخ الحديث عبر التعايش المشترك بين الأقباط والمسلمين وتداخل القديسين مع الأولياء الصالحين فى المقابر والتبرك من قبل جمهرة المصريين بأولئك وهؤلاء.
فى أحداث الفتنة الطائفية التى تقع فى مصر وكذلك الفتنة القبلية التى وقعت مؤخراً فى أسوان، يتم استحضار أسطورة النسيج الوطنى بشكل واع وغير واع، تعود المخيلة الجماعية للمصريين نخبة وجمهوراً لخطاب النسيج الوطنى المتماسك الذى يستعصى على الفتنة وتداعياتها، ويصعب اختراقه من قبل دعاة الفتنة بشكليها الطائفى والقبلى.
بيد أن استدعاء أسطورة النسيج الوطنى فى حالات الفتنة يبدو وكأن هذا النسيج معطى تاريخى سرمدى وأبدى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تؤثر فيه المحن والفتن والظروف، أو كأنه يتميز بقدرة على المقاومة تفوق تأثير جميع المستجدات والظروف فى كافة الأزمنة والأمكنة، أو كأن هذا النسيج الوطنى ثابت لا يتعرض للتغيير والتغير بفعل صلابته الذاتية وبعيداً عن تدخلنا ووعينا للتأثير فيه.
من المهم فى هذا المجال أن ندرك أن هذا النسيج الوطنى القوى والمتماسك شأنه شأن أي ظاهرة اجتماعية أو تاريخية يخضع لقانون التغير، وهو الأمر الذى يستدعى ترميمه وصيانته عبر خطاب واع جديد، يستوعب المتغيرات والمستجدات التى من شأنها التأثير فى قوة هذا النسيج بالسلب، وتعيين السبل والمسالك التى تعزز وتحافظ على قوة النسيج الوطنى وتمنحه المنعة والمناعة والحصانة الضرورية لاستمراره بذات القوة.
من الضرورى أن يستوعب خطاب النسيج الوطنى طبيعة التغيرات الداخلية والخارجية التى من شأنها التأثير فيه، وإحداث ثقوب فى النسيج الوطنى وإدراك طبيعة المخاطر التى بمقدورها التأثير السلبى فى قوة وتماسك المجتمع، داخلياً يتعين إصلاح نظام الدولة وترجمة هذا الإصلاح إلى نمط محدد لتوزيع وتنظيم وإنتاج الثروة والمعرفة والثقافة وشروط الحياة كافة وإعادة إنتاج نظام للتوزيع والإنتاج يواكب المضمون الجديد للدولة أى المضمون الديمقراطى والحقوقى، فالمجتمع يريد دولة قوية تطبق القانون وأن تكون قوتها فى المجال الصحيح أى دعم دولة القانون والحريات ورعاية مبادرات المجتمع المدنى وتعبئة الطاقات من أجل التنمية، يريد المجتمع دولة تقوم بوظائفها فى الحماية والأمن وتوفير سقف للحماية الاجتماعية أى دولة عادلة وقادرة على حشد الجهود من أجل التنمية المستدامة، لقد دخلت الدولة المصرية أخيراً ومنذ ثورة 25 يناير فى طور غير مسبوق أضعف سلطتها وهيبتها وتراجع تطبيق القانون الحديث وعادت الولاءات القبلية والتقليدية والعرفية لتتجاوز الإطار القانونى الحديث.
أما على الصعيد العالمى فثمة تغيرات تمارس تأثيرها ليس فقط فى مصر والشرق الأوسط بل فى العالم أجمع يتمثل أهمها فى «العولمة» التى استهدفت توحيد القيم وأنماط الإنتاج والاستهلاك والثقافة على الصعيد العالمى، وهو الأمر الذى دفع بالجماعات والأقوام المختلفة للعودة إلى الأصول الأولية الدينية والقومية والتحصن فى هذه المواقع خوفاً على مصيرها وتفككها فى ظل العولمة والهيمنة السائدة.
استيعاب طبيعة هذه التغيرات وتقصى تأثيرها وتداعياتها على النسيج الوطنى، يجئ فى مقدمة أولويات الخطاب المتعلق بالنسيج الوطنى، وعلى رأس هذه الأولويات رفض الركون إلى مقولة ثبات النسيج الوطنى، وافتراض قابليته للتأثر بالظروف المحيطة داخليا ًوخارجياً، ثانية هذه الأولويات تأكيد أن النسيج الوطنى لا يقوى أو يتقوى إلا عبر إرادتنا وتدخلنا كمواطنين ودولة لكى نمده بمصادر جديدة للقوة والتماسك، ثالثة هذه الأولويات ابتكار قنوات جديدة للتواصل بين مكونات المجتمع ورفض الجدر العازلة غير المرئية بين هذه المكونات وأخيراً وليس آخراً اعتبار التغيير فى النظام التعليمى والتربوى حجر الزاوية فى ترميم وتدعيم النسيج الوطنى عبر إعادة تأكيد مفاهيم المواطنة والدولة الحديثة والديموقراطية وحقوق الإنسان والتصالح مع تاريخنا ككل واحد لا يتجزأ ورفض مخاصمة حقبة منه على حساب تزكية حقبة أخرى. نقلا عن الأهرام