فى الحوار الذى أجراه وزير الخارجية المصري، السيد نبيل فهمي، فى الولايات المتحدة منذ أيام قليلة، مع إحدى القنوات التليفزيونية الأمريكية، قال الوزير، ما معناه ان العلاقة بين مصر والولايات المتحدة ليست كنزوة اليوم الواحد، بل هى أشبه بالزواج. أثار هذا التصريح تعليقات كثيرة اضطر وزارة الخارجية المصرية إلى إصدار توضيح له، وتأكيد أن التصريح لم ينقل بدقة، وأنه فى الحقيقة قال كذا وكذا، وكان يقصد كذا وكذا.
لفت نظرى أن هذا الذى حدث، سواء صدور هذا التصريح، أو ما أثاره من تعليقات، شيء نادر الحدوث فى حياتنا السياسية منذ قامت ثورة 25 يناير 2011، بل حتى التعليقات التى صدرت حول هذا التصريح، لم تتطرق إلى إثارة أسئلة مهمة مثل: ما الذى دفع وزير الخارجية المصرية إلى إصدار تصريح من هذا النوع؟ هل كان مجرد فكرة عابرة، أم كان الوزير يشعر بسبب أو آخر بضرورة الإدلاء بمثله؟ وإذا كان الوزير قد أخطأ باستخدام مثل هذه التعبيرات لوصف علاقة مصر بالولايات المتحدة، فمن يا ترى الشخص الذى يخشى الوزير أن يعاتبه أو يؤنبه؟ هل هو رئيس الوزراء؟ السيد إبراهيم محلب، أم رئيس الجمهورية السيد عدلى منصور؟ أم شخص آخر؟ وإذا كان هناك فعلا مجال للعتاب أو التأنيب فما هو سبب هذا العتاب أو التأنيب؟ ماهو بالضبط نوع العلاقة الحالية بين مصر والولايات المتحدة التى أخطأ الوزير أو أصاب فى اختيار الوصف المناسب لها؟
هذا هو نوع الأسئلة، الذى أصبح نادرا جدا منذ قامت ثورة يناير 2011 إن معظم ما نقرأه فى الصحف منذ قامت هذه الثورة، وما نسمعه فى حوارات التليفزيون يعطى انطباعا وكأن مصر جزيرة معزولة عن العالم، ما يحدث فيها يتقرر طبقا لتصاريح إيرادات داخلية، وقرارات تصدر عن إرادة حرة. لا عجب أن تخرج من هذا وذاك ونحن نعلق أهمية أكبر من اللازم مثلا على نتائج الحوارات التى كانت تدعى إليها القوى السياسية المختلفة عقب الثورة، (فلا تنتهى فى الحقيقة إلى أى نتيجة)، وكذلك نعلق أهمية أكبر من اللازم على صياغة هذه المادة أو تلك من مواد الدستور ضاربين الصفح عن العوامل الحقيقية التى تحدد فى النهاية ما إذا كان الدستور كله سوف يجرى العمل به بالفعل.
لا يمكن أن يكون هذا التجاهل للعوامل الخارجية صائبا، وقد كان من الواجب أن ننتبه إلى ذلك من تطور الأحداث منذ 25 يناير 2011، فهل كان الامتناع عن ضم بعض الثوار إلى مجلس رئاسى يقوم بالحكم بعد الثورة، قرارا مصريا صميما، نابعا عن إرادة حرة؟ هل كان اختيار رؤساء للوزراء، واحدا بعد الآخر من خارج الثوار المناضلين، نابعا من اعتبارات داخلية بحتة؟ وما التفسير الحقيقى لعدم بذل أى جهد لاستعادة الأموال التى نهبها النظام السابق؟ وهل كانت الطريقة التى أجريت بها محاكمات رجال النظام السابق هى الطريقة المتوقعة فى محاكمة نظام فاسد عقب ثورة شعبية؟ لا نهاية فى الحقيقة لما يمكن طرحه من أسئلة من هذا النوع.
هل يذكر القراء مثلا الأزمة التى وقعت بين المجلس العسكرى الذى كان يحكم مصر لمدة سنة ونصف السنة عقب ثورة يناير، وبين الحكومة الأمريكية، والتى حدث خلالها القبض على ابن وزير أمريكى فى مصر بتهمة لم نعرفها بالضبط؟ ما نوع العلاقة بين مصر والولايات المتحدة فى ذلك الوقت؟ وما السبب الحقيقى للأزمة؟ وما الذى انتهت إليه؟ لذلك، ما مدى صحة القول إن نجاح الرئيس السابق محمد مرسى فى انتخابات سنة 2012، كان بسبب تدخل خارجي؟ فإذا كان الأمر كذلك فما الذى حدث ليجعل خلعه ممكنا؟
نحن نعرف جيدا كيف كانت مصر قبل 25 يناير دولة تابعة للأمريكيين، وضعيفة للغاية إزاء الإرادة الإسرائيلية؟ فهل سمعنا من أحد من ذلك الوقت، ما يؤكد لنا أن هذه الحالة قد انتهت؟ وهل نتوقع أن تزول هذه التبعية وهذا الضعف بهذه السهولة، بمجرد أن تقوم ثورة شعبية؟
إننا رغم هيامنا الشديد بوطننا، كثيرا ما نبدو وكأننا لا ندرك مدى أهمية مصر للعالم،سواء للقوى العظمى أو الدول الأصغر، التى تحاول أحيانا أن تتحدى هذه القوى العظمى وتبحث لنفسها عن حلفاء من بين الدول الأخري، فلنقرأ مبررات نابليون لغزو مصر، أو مبررات بالمرستون «وزير الخارجية البريطانية» لضرب محمد علي، أو مبررات الاحتلال الانجليزى فى 1882، أو لضرب الانجليز والفرنسيين لمصر فى 1956، أو ضرب إسرائيل لمصر بدعم أمريكى فى 1967، أو الدور الأمريكى فى وقف استرداد الجيش المصرى لسيناء بعد حرب أكتوبر 1973، أو فلنقرأ عن نظرة نهرو أو تيتو أو شوين لاى لأهمية انضمام مصر لحركة عدم الانحياز فى منتصف الخمسينيات.. إلخ، يتأكد لدينا أن قيام ثورة فى مصر فى 25 يناير 2011 لا يمكن إلا أن يكون حدثا مهما فى نظر الجميع، وعلى الأخص فى نظر الولايات المتحدة وإسرائيل، فلماذا نتجاهل ونحن نحاول تفسير الأحداث الجارية، أو عندما نحاول وضع برنامج للعمل فى المستقبل، موقف هذه القوى الخارجية معنا، وكأن هذه القوى لا تهتم بنا ولا تبالي، بما يمكن أن نفعله أو لا نفعله؟ لماذا لا نبذل الجهد الواجب فى محاولة تخمين ما الذى يدور فى أذهان صانعى السياسة فى هاتين الدولتين وفى الاتحاد الأوروبي، حول أحداث الثورة المصرية؟ لماذا لم نقرأ أو نسمع أى تحليل مرضٍ عن الموقف الأمريكى من قيام حكومة الإخوان ثم سقوطها؟ هل كان هناك تغيير حقيقى أم ظاهري؟ أم هل كان كل شيئ مخططا من قبل لما حدث بالضبط؟ هل الأوروبيون سائرون وراء الولايات المتحدة فى سياستها إزاء جماعة الإخوان؟ أم مستقلون عنه ومدفوعون بمصالحهم الخاصة؟ هل هناك اتفاق تام فى هذا الصدد وغيره بين السياسة الإسرائيلية والأمريكية، أم بدأ يوجد تعارض؟ لماذا يبدو علينا وكأننا لا نبالى بشيء من هذا؟ إنى اعترف بأنه ليس أمامنا إلا محاولة «التخمين» للوصول إلى إجابات عن مثل هذه الأسئلة، فى ظل الحجب المستمر للمعلومات الضرورية، بل وفى ظل التضليل المتعمد الذى نتعرض له باستمرار لمنع وصولنا إلى الحقيقة، قد يبدو الجهد الذى يُبذل فى هذه التخمينات قليل العائد، مما قد يضطر بعض الكتاب إلى تفضيل كتابة الروايات الخيالية على كتابة التحليلات السياسية للأحداث الجارية، ولكن أليس هذا أفضل من الانشغال بتحليل أحداث أو التعليق على تصريحات معظمها غير صحيح؟ هل نحن نتصرف مثل جحا الذى ذهب ليبحث عن قرشه الضائع فى مكان جيد الإضاءة، مع أن القرش وقع منه فى مكان بعيد مظلم؟ نحن الآن نعيش فى عالم لا يمكن أن نقترب من فهمه إلا بـ «التخمين» المستمر، فنخطئ كثيرا ولكننا قد نصيب أحيانا، ولكن أيا كانت النتيجة فهى أفضل من حالة الغيبوبة أو الدروشة التى نعيش فيها الآن.