المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مستقبل العلاقات الأوربية- الروسية في ضوء أزمة القرم

الأحد 11/مايو/2014 - 10:33 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم منشاوي*

   لقد ألقت الأزمة الراهنة في شبه جزيرة القرم بظلالها على العلاقات الأوربية الروسية، حيث كشفت تلك الأزمة عن ضعف الاتحاد الأوربي على الصعيد السياسي، في الوقت الذي أعلنت فيه عن الوزن الجيوسياسي لروسيا. ويمكننا القول إن روسيا قد اتخذت تلك الخطوة المتمثلة في ضم القرم من أجل عدة اعتبارات منها؛ سعيها لاستعادة مكانتها العالمية، كما أن أوكرانيا تمثل أهمية سياسية بالغة لروسيا، فعبرها تمر أنابيب الغاز إلى أوربا، كما أنها تعزز من حضور أسطولها في البحرين الأسود والمتوسط.

   ولكن نتيجة لتلك الخطوة من الجانب الروسي، قام الاتحاد الأوربي بفرض مجموعة من العقوبات على روسيا خوفًا من تعاظم الوجود الروسي في البحر الأسود مما يهدد الأمن الأوربي بصفة مباشرة، ويعرضه للخطر، فعلى الرغم من وجود علاقات بين الجانبين، فإن التوجس بينهما مازال قائمًا، فأوكرانيا لم تعد مجرد ساحة للتجاذب بين روسيا وأوربا فقط، بل تحولت لساحة مواجهة فيما بينهما، يحاول كل طرف فيه كسب أوكرانيا أو أجزاء منها إلى صفّه، وحماية نفوذه ودعم اقتصاده وتعزيز حضوره وضمان أمنه من أي تهديد.

قام الاتحاد الأوربي بفرض مجموعة من العقوبات على روسيا خوفًا من تعاظم الوجود الروسي في البحر الأسود مما يهدد الأمن الأوربي بصفة مباشرة، ويعرضه للخطر

أولا- جذور الأزمة:

   ترجع تلك الأزمة (أزمة القرم)، إلى التظاهرات التي اندلعت في العاصمة الأوكرانية كييف للمطالبة برحيل الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش عن الحكم لاتهامه بالفساد، وبالفعل نجحت تلك التظاهرات الواسعة في ازاحة يانكوفيتش عن الحكم، وقد كان هذا الرئيس مواليًا للحكومة الروسية، وبعد رحيله حقق الغرب إنجازًا كبيرًا بوصول سلطات موالية له لسدة الحكم في أوكرانيا، وهي سلطات أكثر عزمًا على التقارب معه من سلطات الثورة البرتقالية، مما يعني للمتابعين أن أوكرانيا قد تحولت أخيرًا للمعسكر الغربي بعد أن ظلت لعقود في المعسكر الشرقي. ولذلك سارع الاتحاد الأوربي بتقديم مساعدات عبر صندوق النقد الدولي تقارب 15 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا على الخروج من أزمتها.

   ونظرًا لشعور روسيا بخسارتها لأوكرانيا في الوقت نفسه الذي تعاني فيه في سوريا، سارعت إلى بسط هيمنتها على شبه جزيرة القرم، نتيجة للأهمية الجغرافية الكبيرة لها، حيث إنها تقع على الضفة الغربية لبحر أزوف وتشرف على مضيق كيرتش الذي يفصل بينها وبين البحر الأسود، ويتحكم بمرور السفن التجارية والعسكرية إلى عدة موانئ روسية وأوكرانية وغيرها. كما أنها على المستوى السياحي، تشكل وجهة رئيسية للكثير من السياح الروس والأوكرانيين والبولنديين والألمان وسياح دول البلطيق، إذ يزور القرم ما بين 3: 5 مليون سائح سنويًا. وعلى الجانب الأمني والعسكري، هناك تواجد عسكري روسي يتمركز في ثلاث قواعد أهمها قاعدة سيفاستوبل التي تشتمل على أربعة خلجان مائية، كما يصل إجمالي عدد القوات الروسية الثابتة فيها إلى 14000 جندي.

   ونتيجة لهذه الاعتبارات السابقة بالإضافة إلي خوف روسيا من التهديد الأوربي لها، جاء التدخل الروسي بهدف معلن وهو حماية الأغلبية الروسية في شبه الجزيرة، مستغلة انشغال كييف بملء الفراغات السياسية والأمنية والعسكرية في الوزارات وغيرها من المؤسسات بعد عزل يانكوفيتش.

   وبعد اجتياح روسيا للقرم، أعلنت عن إجراء استفتاء على ضم شبه الجزيرة لروسيا، وبالفعل ضمت روسيا الجزيرة إليها، مما منحها سيطرة شبه كاملة على سواحل وأراضي الإقليم، وهذا قد مكنها من نشر دفاعاتها في جميع أرجائها، ويمكننا القول إن النجاح الروسي في القرم قد يدفعها إلى ضم مناطق أخرى من أوكرانيا موالية لها من أجل حماية حدودها ونفوذها. 

ثانيا- تداعيات الأزمة على العلاقات الأوربية- الروسية

  إن العلاقات بين الاتحاد الأوربي وروسيا خلال العقدين الأخيرين، قد مرت بفترات صعود وهبوط وأزمات حادة، أثرت في الشراكة فيما بينهما مما طرح في كل الأحيان الولايات المتحدة الأمريكية كشريك استراتيجي قوي للاتحاد الأوربي. فقد أعلن الاتحاد الأوربي مرارًا عن تقييمات حادة ونقدية لجوانب كثيرة في السياسة الداخلية والخارجية الروسية. ونتيجة للارتباط الأوربي بالسياسات الأمريكية في المنطقة، فقد أدى ذلك من ناحية إلى توتر العلاقات الأوربية الروسية، ومن ناحية أخرى ارتباط دوائر صنع القرار في الدول الأوربية بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الوضع كان شديد الوضوح في ظل الأزمة الأوكرانية. ويلاحظ أيضًا أن روسيا في علاقتها بدول الاتحاد الأوربي تتبع إستراتيجية تقوم على مجموعة من الاعتبارات والركائز منها:

1-        الواقعية: تتجسد هذه السمة في سعي القيادة السياسية الروسية إلى بناء سياسة براجماتية، عن طريق الابتعاد عن الحجج الأيديولوجية، التي كانت تميز التحرك الدبلوماسي والسياسي السوفيتي في الماضي القريب، وإحلال محلها مبررات سياسية واقتصادية أكثر وضوحًا وتعبيرًا عن تطلعات روسيا المستقبلية، ومن هنا سعت روسيا إلى إقامة علاقات سياسية واقتصادية وتجارية واسعة مع الاتحاد الأوربي.

2-     الديناميكية: وتظهر ديناميكية أو فاعلية الإستراتيجية الروسية من خلال ما يضمن بصورة جدية عدم العودة إلى الوراء منذ تواري عصر الأيديولوجيات المتصارعة على الساحة الدولية أو غياب الأيديولوجيا الشيوعية، حيث ظهر فلاديمير بوتين في نظر الغرب كحام للخط الاستراتيجي الجديد الذي انتهجته روسيا في عصر العولمة وحرية الأسواق، مع الإصرار على وحدة تراب الاتحاد الروسي وعدم التفريط بها، واتباع مختلف الوسائل، بما فيها القوة العسكرية، لتأكيد هذه الوحدة، كما في الموقف من تمرد الشيشان.

3-     المنافسة: وهي هدف جديد على السياسة الروسية، ولأجله أجاز الدستور الروسي الجديد هدف المنافسة على الأسواق العالمية محل المواجهة الأيديولوجية. لكن تحقيق هذا الهدف لا يخلو من الصعوبات، التي سرعان ما انعكست على الإستراتيجية الروسية، من خلال إعادة ترتيب الأولويات، الذي انعكس في خطط الإصلاحات.

4-  حرية الحركة: وتتجسد في أن تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور نظام دولي جديد لم يصاحبهما فرض شروط على روسيا أو على مصالحها أو على حرية حركتها أو عناصر قوتها، فوضعها الجديد لم يجعلها، على الأقل، مجبرة على الانصياع لموقف الدول الكبرى، سواء داخل مجلس الأمن ضمن منظمة الأمم المتحدة، أو خارجه ضمن توجهات التطام الدولي الجديد، الأمر الذي مكنها من القدرة على التحرك والتحدي والمعارضة لأي نمط جديد في العلاقات الدولية، وبما يتفق مع مصالحها.

تسعى القيادة السياسية الروسية إلى بناء سياسة براجماتية، عن طريق الابتعاد عن الحجج الأيديولوجية، وإحلال محلها مبررات سياسية واقتصادية أكثر وضوحًا وتعبيرًا عن تطلعات روسيا المستقبلية

ويمكننا القول: إن أهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها، وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية. لذلك تعتبر روسيا أن قضية انضمام جورجيا وأوكرانيا، وحتى أذربيجان، إلى حلف شمال الأطلسي، تشكل خطرًا كبيرًا على أمنها القومي واستقرارها وإمكانية حركتها وتوجهاتها، سواء على المحيط القريب منها، دول الاتحاد السوفيتي السابق، أو على المحيط الأبعد، مثل الصين أو إيران أو غيرهما من الدول. ويضاف إليها مسألة نشر الدرع الصاروخية الأمريكية في بعض دول الاتحاد السوفيتي (سابقًا)، وتجاهل كل الدعوات الروسية لحل هذه المسألة بطريقة تزيلشكوكها من أنها هي المستهدفة من هذا المشروع.

   ولذلك إبان الأزمة الأوكرانية، تعرضت العلاقات الأوربية الروسية لمزيد من التوتر نتيجة للتوجس الموجود بين الطرفين، وقد توحدت ردود الفعل الدولية مع الاتحاد الأوربي بالإدانة والرفض لما حدث من قبل روسيا، ووصفت عملية ضم القرم بأنها غير شرعية ولا تتفق مع القانون الدولي، وقد سارع كل من الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية بفرض مجموعة من العقوبات على روسيا بهدف الضغط السياسي عليها واستبعاد الخيار العسكري، ويمكننا رصد مؤشرات التوتر في العلاقات الأوربية- الروسية على النحو التالي:

الأول:    طرد روسيا من مجموعة دول الثماني وذلك ردًا على قيامها بضم شبه جزيرة القرم. ويشار إلى أن مجموعة دول الثماني تضم الدول الصناعية الكبرى في العالم، فهي تتكون من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا وروسيا الاتحادية وإيطاليا والمملكة المتحدة وفرنسا وكندا.

الثانى:       تهديد الاتحاد الأوربي بتعليق مفاوضاته مع روسيا لتحرير تأشيرات الدخول للمواطنين الروس.

الثالث:        إعلان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن ضم القرم يتعارض مع القانون الدولي، وبالتالي رفضها الاعتراف بوضع القرم الجديد.

الرابع:      تعليق بريطانيا تعاونها العسكري مع روسيا، حيث ألغت تدريبات بحرية بمشاركة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك مشاريع لزيارة سفن حربية بريطانية إلى روسيا.

الخامس:   فرض الاتحاد الأوربي عقوبات على 33 مسئولاً روسيًا من بينهم رجال أعمال، إلى جانب التلويح بإعادة النظر في بعض الصفقات بين روسيا وبعض الدول الأوربية، كما هددت دول الاتحاد الأوربي بفرض عقوبات اقتصادية ضد روسيا.

السادس:      إعلان حلف شمال الأطلنطي تعزيز دفاعاته في شرق أوربا، كما قامت كل من فرنسا وبريطانيا بنشر مقاتلات لتعزيز الدوريات الجوية لحلف شمال الأطلنطي فوق منطقة البلطيق. كما نشرت بريطانيا وفرنسا كذلك طائرات الاستطلاع "أواكس" للقيام بدوريات في أجواء بولندا ورمانيا في الأسابيع الأخيرة.

السابع:     كما يسعى الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية إلى توسيع العقوبات ضد روسيا في حالة عدم خروجها من شبه جزيرة القرم.

إن أهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها، وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية

ثالثا: مستقبل العلاقات الأوربية الروسية في ضوء الأزمة

   بداية لا يمكننا الحديث عن مستقبل العلاقات الأوربية الروسية في ضوء أزمة القرم بعيدًا عن مفهوم أمن الطاقة والذي يشكل عنصرًا جوهريًا في العلاقات الأوربية الروسية حيث تعتمد أوربا بشكل رئيسي على الغاز الروسي.

في هذا الإطار يمكننا القول إن؛ العلاقات الاقتصادية الأوربية الروسية قد تعززت بشكل كبير في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد شملت مجالات التعاون مناحي عدة، ولكن كان أهمها ولا يزال مجال الطاقة والمتمثلة بصفة أساسية في إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوربا. حيث تستورد دول الاتحاد الأوربي ما يعادل 70% من إمدادات الغاز من روسيا و31% من النفط و30% من الفحم.

  وفي أعقاب الأزمة الحالية ونتيجة لفرض مجموعة من العقوبات على روسيا، فإنها تلوح بين الحينة والأخرى باستخدام الغاز كورقة ضاغطة على أوربا، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجه رسالة يخطر فيها القادة الأوربيين بأن موسكو يمكن أن تلجأ إلى طريقة جديدة في حسابات الغاز مع أوكرانيا، وهي قاعدة الدفع المسبق، محذرًا من أخطار تهدد عبور الغاز الطبيعي المتوجه إلى أوروبا عبر أوكرانيا. كما أنه على الوجه الآخر فإن هناك محاولات جادة من قبل الاتحاد الأوربي للاستغناء عن الغاز الروسي، حيث أعلنت شركة إيني الإيطالية منذ أيام أنها تستطيع الاستغناء عن الغاز الطبيعي من روسيا العام المقبل، ما يهدد مصير مشروعالسيل الجنوب لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر البحر الأسود وجنوب أوروبا، وهو مشروع دفعت روسيا بثقل دبلوماسيتها لتمريره للقضاء على حظوظ خط نابوكو المدعوم أميركيا لنقل الغاز من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر تركيا. ومع أن أوربا تستطيع الحصول على الغاز من مصادر أخرى، لكن هذا الأمر ليس سهلاً، وسيتطلب الكثير من الوقت. والمشكلة هي أن الغاز الذي يتم تصديره، يتم توفيره عبر عقود طويلة الأجل، كما أنه وفقًا للإحصائيات، فإن استهلاك أوروبا سينمو إلى 700 بليون متر مكعب عام 2020، مقارنة بـ 650 بليون متر مكعب حاليًا، ومن هنا نجد الصعوبة البالغة في تخفيض الاعتماد على الغاز الروسي في الفترة المقبلة من جانب دول الاتحاد الأوربي.

   ومن هنا يمكننا القول إن مستقبل تلك العلاقات في ضوء أزمة القرم مرهون بمستقبل أمن الطاقة في أوربا، الأمر الذي يمكن معه طرح تصورين لمستقبل تلك العلاقات بعيداً عن حالة استخدام القوة وهما:

لا يمكننا الحديث عن مستقبل العلاقات الأوربية الروسية في ضوء أزمة القرم بعيدًا عن مفهوم أمن الطاقة والذي يشكل عنصرًا جوهريًا في العلاقات بينهما

·        الأول: استمرار تلك العلاقات على نهجها الحالي في ضوء التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة الراهنة والاتفاق على شكل العملية السياسية في أوكرانيا، وستكون الولايات المتحدة الأمريكية هي الخاسر الأكبر من هذا السيناريو، وذلك نظرًا لأن هذا السيناريو سيؤدي إلى مزيد من التقارب الروسي الأوربي وهو ما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لمنعه حتى لا يؤثر على مصالحها في المنطقة. ولا يخفى على أحد احتمالية حدوث هذا التصور خاصة في ظل اتجاه هيكلية النظام الدولي إلى التعدد بعد الأحادية، أي أننا مقبلون على عالم متعدد الأقطاب، وبالتالي لن تعد الولايات المتحدة الأمريكية هي المهيمنة على تشكيل السياسات العالمية.

·        الثاني: قطع العلاقات نتيجة للتشدد من جانب الطرفين في إدارة الوضع الراهن في أوكرانيا وهو ما ستسعى الولايات المتحدة الأمريكية غلى تغذيته لأنه سيصب في مصلحتها بالدرجة الأولى. وهذا التصور سوف يؤدي إلى معضلات تواجه الطرفين، فروسيا سوف تواجه معضلة خسرانها للشريك التجاري الأكبر لها مما سوف يؤثر على اقتصادها بشدة والذي يعتمد على المنتجات البترولية، وعلى الجانب الآخر، فسوف تتمثل المعضلة الأوربية في كيفية تحقيق أمن الطاقة في دول الاتحاد الأوربي بعد خسران الإمدادات الروسية.

مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟