في سياق التنافس الانتخابي الذى تشهده مصر حالياً، يتحدث كثير من السياسيين والأكاديميين والإعلاميين وغيرهم عن القوة الناعمة التي تمتلكها مصر، وعن أهمية توظيفها من أجل تعزيز دور ومكانة الدولة المصرية على الصعيدين العربي والإسلامي.
لكن في ظل التطورات السياسية والأمنية المتلاحقة والمتسارعة ينسى هؤلاء أو أغلبهم حقيقة مؤلمة مفادها أنه مصر شهدت خلال العقود الثلاثة الماضية تراجعاً مخيفاً في عناصر قوتها الناعمة، وبالتالي فإن أي حديث عن توظيف هذه القوة لا قيمة له دون أن يقترن بعملية جادة لإعادة بناء عناصرها ومقوماتها على أرض الواقع.
والقوة الناعمة تتمثل فيما تمتلكه الدولة من عناصر تميز تمكنها من التأثير في الآخرين، وجذبهم إليها، بل واتخاذها كنموذج دون الحاجة إلى استخدام القوة، ومن أهم هذه العناصر: الرسالة الحضارية والثقافية التي تتبناها الدولة، التي تتمثل في منظومة القيم والمبادئ والأفكار الكبرى التي تؤمن بها، والتي تسعى إلى تكريسها على الصعيد الداخلي ونشرها خارج حدودها، وطبيعة نظامها السياسي، وإلى أي مدى يجسد أسس الحكم الرشيد الذى يتسم بالفاعلية والكفاءة، ويستند إلى أسس ومبادئ الديمقراطية والشفافية والمساءلة واحترام حقوق الإنسان، فضلاً عن النموذج التنموي الناجح الذى تتبناه الدولة، والذى يعزز الاعتماد على الذات، ويلبى الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ويحقق العدالة الاجتماعية. ومن بين عناصر القوة الناعمة أيضاً النظام التعليمي الجيد الذى يشكل ركيزة أساسية للتنمية في الداخل، ويستقطب الطلاب من الخارج، ووسائل الإعلام القادرة على التأثير داخلياً وخارجياً، والأعمال الفكرية والسينمائية والمسرحية والدرامية التي يكون لها صدى خارج حدود الوطن. فرغم الدور الطليعي والريادي الذى قامت به مصر في مجال الإشعاع الفكري والثقافي التنويري خلال فترات تاريخية سابقة، فإن هذا الدور تراجع، حيث أصبح تميز بعض المصريين في مجالات الفكر والثقافة والإعلام والبحث العلمي وغيرها تميزاً فردياً وليس جماعياً أو مؤسسياً، فهناك كثر متميزون وبارزون كأفراد في تخصصاتهم، ولكن هذا التميز للأسف ليس جزءاً من مشروع وطني للنهضة والتقدم، وبالتالي فإن أحد أكبر التحديات التي تواجه مصر حالياً ومستقبلاً يتمثل في قدرة النخبة الحاكمة على وضع السياسات والخطط التي من شأنها حشد وتوظيف مختلف الطاقات الخلاقة والمبدعة ضمن منظومة متكاملة للتقدم.
وإذا كان الأزهر قد شكل تاريخياً أحد العناصر الرئيسية للقوة الناعمة للدولة المصرية بحكم مكانته الدينية، ودوره الريادي، وتجسيده للإسلام الوسطى المعتدل، فإن هذا الدور تراجع خلال العقود الأخيرة لأسباب عديدة تتعلق بتراجع استقلاليته، وتدخلات السلطة في شئونه، وكثرة الخلافات داخله، ومن هنا فإن إحياء دور الأزهر على الصعيدين الداخلي والخارجي، وبخاصة فيما يتعلق بتجديد الخطاب الإسلامي ونشره، سوف يضيف الكثير إلى رصيد القوة الناعمة لمصر. كما أن التعليم، والذى كانت مصر سباقة ورائدة فيه، لم يعد يمثل عنصراً من عناصر القوة الناعمة للدولة، وذلك بسبب تدهور أوضاعه، وتدنى مستوى مخرجاته، وذلك نتيجة للخلل الكبير في السياسات التعليمية، والتركيز على الكم دون الكيف، وتخلف المناهج الدراسية وأساليب التدريس، واستشراء الدروس الخصوصية، وتعدد أشكال الفساد والإفساد داخل المؤسسات التعليمية.
وبخصوص الإعلام، ومع التسليم بالدور الريادي الذى قام به الإعلام المصري في فترات تاريخية سابقة، إلا أن أداء معظم الإعلام المصري حالياً يضر الدولة أكثر مما يفيدها ودون إصلاح حقيقي وجاد لمنظومة الإعلام في مصر استناداً إلى ميثاق شرف إعلامي حقيقي يلتزم به الجميع سوف يكون من العبث الحديث عن استعادة ريادة إعلامية، أو توظيف الإعلام كقوة ناعمة.
ورغم أن الفن المصري بمختلف أشكاله كان له تأثيره في العالم العربي لعقود، فإنه تدهور مثل أشياء أخرى كثيرة أصابها التدهور خلال السنوات الماضية، وبالتالي لم يعد له دور مؤثر كما كان في السابق، وبدلاً من أن تكون ثورة 25 يناير مناسبة لإطلاق أعمال فنية متميزة تعكس الروح الجديدة في مصر، فقد سارت الأمور في الغالب في عكس هذا الاتجاه.
إن توظيف القوة الناعمة في تعزيز دور مصر على الصعيدين العربي والإسلامي يتطلب أولاً إعادة بناء عناصر هذه القوة في مجالات التعليم والإعلام والثقافة والبحث العلمي، الأمر الذى يحتم ضرورة الإصلاح الحقيقي والجاد لهذه القطاعات، لاسيما أنها هي المنوط بها إعادة بناء الإنسان المصري قيمياً وثقافياً وفكرياً ومهنياً. نقلا عن الأهرام