إشكالية كل شيء في مفهومه، والحديث عن المفاهيم إشكالية وإشكال، فهو إشكالية في استمراره وراهنيته، وهو مشكلة في إحداثيات الفعل والسلوك. وبالطبع فإن الحديث عن المفهوم ليس حديثاً عن شيء مقدس ومعصوم، ولكنه حديث عن إنتاج بشري وممارسة إنسانية تتأثر بكل معطيات التحول وعناصر التغير النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئي. وإذا كان الأمر كذلك فإن أي قراءة نقدية للمفهوم الديني تراثية أو عصرية ستكون أجمل إضافة إليه، لما ستتركه من فرص التطوير للفكر والخطاب والممارسة؛ لأن أي مشروع لا يتعرض للنقد يبقى حبيس نفسه، ومعلوم أن «حبس الأفكار مقتلها»، والوقائع تشهد أن رفض النقد للمفاهيم الدينية يحصل بدوافع مذهبية وحزبية «مُظهرة أو مُضمرة»، ومن وراء ذلك مصالح سياسية «صائبة أو خاطئة»، وفي بعض الأحيان يكمن وراء الرفض والممانعة من النقد عجز فكري وكسل ذهني، أو وهم مسيطر بامتلاك الصواب والقبض على الحقيقة، كما يكون السبب في بعض الأحوال عدم العلم بما يوجب التحول الفهمي، مع أن «عدم العلم ليس علماً بالعدم». كل هذا في سياق التفسير وليس تبريراً، إذ التبرير حقل لا ينبت إلا المواجهة.
نحن نجد في التأريخ أن ممارسة النقد للمفهوم الديني كانت تقع بحرية في الرأي، مضمونة سياسياً واجتماعياً. وكان ذلك يحدث في حالات الازدهار العلمي والوفرة المعرفية، فيما نجد أن الممانعة والتصدي والحراسة تكون في حالات التراجع الحضاري والانكماش العلمي والفقر المعرفي، وليس غريباً أن هذه الحالات تنتج من يحميها ويحرسها؛ لأنها عدمية في إنتاج ما يطورها ويحركها نحو الأمام.
كل ترحيبي هو بالنقد البناء الذي يشكل إضافة للفعل وسداداً للقول، والذي يمتلك رؤية متجددة تعي متغيرات «الزمان والمكان والأحوال والأشخاص» والتي لم يفتأ تقعيد الفقه الإسلامي وبناة أصوله ومذاهبه يركزون الاهتمام عليها ويحدثون مخرجاتهم الفهمية وفق مقاصدها.
هذا النوع من النقد يجب الترحيب به والاحتفاء بمجالسه ورواده. أما ممارسة مسمى النقد بقصور فهمي وضمور علمي وسطحية معرفية وضبابية في الطرح وشخصنة للرأي وبذاءة في الكلم وعجز في الحجاج واستعداء لمن إذا قال فعل وإذا ضرب أوجع. فكل ذلك دناءة في الخُلق وإساءة للعلم واستخفاف بالمعرفة وتقويض للتنمية.
هذا طليعة الكلام حول المفهوم الديني، وأما التعبير بالضيق والسعة فهو كالتعبير بالتيسير والتعسير، كلها مصطلحات دينية منصوصة في القرآن والسنة، لكنني اخترت التعبير بالضيق والسعة لأن التيسير والتعسير ومثلها الحرج أقرب إلى وصف الدين منها إلى وصف التدين (المفهوم) ومن ذلك قول الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [البقرة:185]، وقوله: (وما جعل عليكم في الدين من حرج» [الحج:78]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه». فيما نجد أن التعبير بالتضييق جاء نقداً لممارسة فهمية حين قال الأعرابي: «اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا». فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد ضيقت أو حجّرت واسعاً».
وهكذا بدا لي التعبير بالضيق والسعة أقرب إلى وصف «الفهم والسلوك»، ولما يحمله اللفظ من نفرة نفسية من الضيق وترحيب واستبشار بالسعة، وكما رأينا تلك العوامل النفسية قد أثرت في منتجات الفقه ومخرجات الفقهاء حيث كان الفقيه الذي يتمتع بنفسية طيبة مستقرة يرى في الشريعة وأحكامها سعة في فهمها وتطبيقها كحال الإمام أبي حنيفة، الذي يصلح شخصية للقراءة العصرية وإبرازه بصفته علَماً إعلامياً من خلال فيلم وثائقي، ولاسيما وأتباعه لهم في الوجود الانتشار الأكثر لما في مذهبه من السعة التي تستوعب الناس، كما كان إلى مذهبه المفزع عند نوازل الفقه وأزمات التطبيق وفي الأحكام الفهمية للحج شاهد القول. نقلا عن الحياة
* عضو مجلس الشورى.