مرت مصر خلال القرنين الماضيين بفترات متتابعة من الصعود والهبوط، من الازدهار والانكسار، سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا، مما أميل إلى تفسيره بملاءمة أو عدم ملاءمة الظروف الدولية المحيطة بمصر، وعلى الأخص بمدى توفر درجة من توازن القوة بين الدول العظمي، تسمح أو لا تسمح لمصر بحرية الحركة.
هناك أيضا عامل داخلي، وهو مهم، يتعلق بما إذا كان فى مصر، أو لم يكن، دولة قوية، ولكن حتى هذا العامل الداخلى ليس منبت الصلة بما يجرى فى العالم، إذ يبدو أن المناخ الدولى الذى تسوده درجة من التوازن بين قوى العالم الكبرى «بحيث لا تنفرد إحداها بالتحكم فى تسيير أمور العالم، دون خشية تدخل القوى الأخري»، يسمح عادة بوجود دولة قوية فى مصر، ثم تضعف وتنزوى هذه الدولة إذا انفردت قوة كبيرة بالتحكم والتسلط.
لا أعتقد أن كل بلاد العالم «ولا حتى كل البلاد الأفقر والأقل نقودا»، تتأثر بهذه الدرجة التى تتأثر بها مصر بحالة توازن القوة فى العالم. لا أظن مثلا أن دولة كلبنان أو اليمن «من بين الدول العربية»، ولا الدول الصغرى فى أمريكا اللاتينية، تتأثر بالمناخ الدولى مثلما تتأثر به مصر. إن القول الذى كثيرا ما يتكرر بأن «مصر مستهدفة» قول صحيح فى رأيي، وبدرجة تفوق درجة صحته فيما يتعلق ببلاد كثيرة أخري. نعم، بلاد العالم كلها مستهدفة، بدرجة أو بأخري، كما أن كل حيوانات الغابة مستهدفة، الصغير منها والكبير، من جانب الحيوانات الأكبر منها، ولكن بعض حيوانات الغابة مستهدفة أكثر من غيرها، وكذلك بعض الدول، وأظن أن مصر، عبر تاريخها الطويل، كانت دائما مستهدفة أكثر من غيرها، إن القول الذى ينسب إلى نابليون «قل لى من يحكم مصر أقل لك من يحكم العالم»، يبدو لى إذن قريبا جدا من الصحة، إذ إنه قد يكون النتيجة الطبيعية للحقيقة التى ذكرتها حالا، وهى أن مصر دولة مستهدفة أكثر بكثير من غيرها، مما يثير السؤال عن السبب.
إن مصر لا يعرف عنها «حتى الآن على الأقل» الغنى الشديد بالموارد الاقتصادية التى يشتد عليها التنافس بين الدول العظمي. وإنما نرجع أهمية مصر الاقتصادية والسياسية «فيما عدا قناة السويس التى مازالت تحتل أهمية كبيرة فى شبكة المواصلات فى العالم، اقتصاديا وعسكريا، إلى سبب غير مباشر هو ثقلها فى العالم العربي، سكانيا وثقافيا. والعالم العربى مستهدف لأسباب تتعلق بالبترول وإسرائيل، مما يعطى حافزا للدول الكبرى لكسب نفوذ فى مصر أكثر منه فى حالة بلاد كثيرة أخرى عربية وغير عربية.
لقد لاحظت أن كثيرا من المصريين وغير المصريين لا يحبون تأكيد هذا العامل الخارجى فى تفسير ما يحدث فى مصر، واستطيع أن أخمن أسبابا لهذا النفور «لا تجعله مع ذلك أقرب إلى الصواب من موقفي»، فكثير من غير المصريين ينفرون من هذا التفسير لأنه يلقى على دولهم مسئولية أخلاقية لا يحبون الاعتراف بها، وكثير من المصريين ينفرون منه لأنه قد يفسَّر بأنه من قبيل إلقاء المسئولية على الغير هربا من تحملها، وتبريرا للنفوس والامتناع عن أى عمل، ومع هذا وذاك فإنى أجد صعوبة فى التخلى عن هذا التفسير لكثرة ما يقدمه التاريخ من أدلة على صحته.
إنى لا أقلل من أهمية ثورات المصريين وجهودهم للتحرر من السيطرة الأجنبية، ولكن مع ذلك أميل إلى الاعتقاد على سبيل المثال، فإن العامل الأهم من ثورتى القاهرة الأولى والثانية فى عهد الحملة الفرنسية، فى تحرير مصر من الاحتلال الفرنسي، كان وقوف الانجليز ضد الفرنسيين، والذى أضاع استقلال مصر ووضع نهاية مأساوية لتجربة محمد على فى مصر ـ هو أن فرنسا أصبحت أضعف من الوقوف ضد الانجليز فى 1840 والذى ثبت أقدام الاحتلال الانجليزى فى مصر كان الاتفاق الودى بين انجلترا وفرنسا فى 1904، والذى ساعد على نجاح الثورة المصرية فى 1952، رغم وجود الجيش الانجليزى على طول قناة السويس، كان التأييد الأمريكى لهذه الثورة، وكان هذا أيضا (بالإضافة إلى التأييد السوفيتي) هو ما أرغم الانجليز والفرنسيين والإسرائيليين على الانسحاب من مصر بعد اعتداء 1956 والذى أضاع استقلال مصر النسبى فى 1976، هو حلول عصر الوفاق Detente بين الأمريكيين والسوفيت، والذى سمح للأمريكيين بالانفراد بالسيطرة على مصر منذ ذلك الوقت، هو اتفاق بين الروس والأمريكيين (منذ 1972) بسبب حاجات ومصالح سوفيتية وتكنولوجية فى ذلك الوقت، ومنذ ذلك الحين لم يحدث فى العالم، للأسف، ما يغير توازن القوى فى العالم، اللهم إلا البوادر الحديثة على التدهور النسبى فى مركز أمريكا فى العالم.
إذا افترضنا أنى على صواب فى تعليق كل هذه الأهمية على العامل الخارجي، فلا أظن أنه يفرض علينا التخلى عن أى مسئولية فيما يتعلق بمحاولة التحرر. إن فيلسوفا حكيما قال مرة منذ نحو قرنين من الزمان إن »الحرية هى فهم الضرورة«، وهو قول أفهمه بالمعنى الآتي: إنك لا يمكن أن تكون حرا فى الحقيقة، إلا إذا أدركت أولا طبيعة القيود المفروضة على حريتك أو بعبارة أخري، أنت حر فقط فى حدود فهمك لما يقيد حريتك، إن البحار الناجح ليس هو من ينطلق فى البحر الواسع جاهلا بأى شيء يتعلق باتجاهات الرياح ومدى قوتها واحتمالات تغير مسارها، مهما كانت درجة جرأته وشجاعته، بل إن نجاحه يتوقف على درجة معرفته بكل هذه القيود على حركته، ثم على ما يتخذه من قرارات فى حدود هذه القيود. هكذا فى رأيى يبدو الاعتراف بأثر العوامل الخارجية فى مسار الوطن. لا جدوى من تقليل أهمية العوامل لمجرد أن تسبغ على أعمالك وقراراتك أهمية أكبر، بل علينا الاعتراف بهذه العوامل ثم نحاول التفكير فى أفضل الطرق للتصدى لها أو التعامل معها.
نأتى الآن للعامل الداخلى الذى يؤثر تأثيرا كبيرا فى دورات الصعود والهبوط فى التاريخ المصري، وهو مدى تمتع مصر بدولة قوية، إن التاريخ المصرى يؤكد أن مصر لا تزدهر سياسيا واقتصاديا إلا فى ظل دولة قوية، وعصور الانحطاط فى مصر هى عصور الدولة الرخوة. وقد كتب فى مذكراته أثناء منفاه فى سانت هيلانه انه »لا يعرف بلدا فى العالم يحتاج إلى دولة قوية بالدرجة التى تحتاجها مصر«، والفترتان الذهبيتان فى التاريخ المصرى طوال القرنين الماضيين، هما فترة دولة محمد على القوية (1810 ـ 1840) ودولة عبدالناصر القوية (1955 ـ 1957)، كما أن معظم مظاهر التدهور الذى أصاب مصر فى الأربعين سنة الأخيرة يمكن بسهولة ردها إلى رخاوة الدولة.
كل هذا صحيح فى رأيي: ظروف العالم المحيطة بمصر، لها تأثير قوى جدا فى تقدم مصر أو تأخرها، وكذلك ما إذا كانت مصر تحظى بدولة قوية أو ضعيفة، ولكن العالم لم يتغير، وهناك دلائل قوية على أن العالم مقبل على عصر جديد (أو بدأ فيه بالفعل عصر جديد)، لابد أن يؤثر فى أهمية الدور الذى يلعبه كل من هذين العاملين، الخارجى والداخلي، فى تطور الأحوال فى مصر فى المستقبل، فما هى يا ترى سمات هذا العالم الجديد؟ وكيف يمكن أن تغيّر من مسار التاريخ المصري؟ أرجو أن أتناول هذا فى مقال مقبل. نقلا عن الأهرام