المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

عبقرية البطل والمكان: تجربة محمد عليّ مؤسس الدولة الحديثة (2-2)

السبت 14/يونيو/2014 - 11:52 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمد عفيفي

في إطار حديث الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسى عن ضرورة التعلم من الخبرة الماضية طرحنا تجربة محمد على مؤسس مصر الحديثة من خلال حلقتين مهمتين لعله يجد فيها ما ينفع هذا البلد في هذه المرحلة المهمة من عمر مصر. فقد تناولنا في الحلقة الأولى منها نشأة وصعود نجم محمد علي، وكيف استطاع مواجهة التحديات الخارجية والداخلية من ناحية، وما هي الأفكار التي جعلته يؤمن بأهمية تنمية وتصنيع مصر من خلال إقامة الصناعات المدنية ومشاريع الرى الكبرى والقناطر الخيرية. وفي الحلقة الثانية نستعرض مشاريعه الخاصة بنهضة التعليم والثقافة وإتباعه سياسة خارجية حققت له مكانة ليس فقط لدى المصريين ولكن على مستوى العالم أجمع.

 أولا: النهضة التعليمية والثقافية

يعتبر الاهتمام بنشر التعليم هو الوجهة المضيئة لعصر محمد على فقد عنى محمد على بالتعليم على اختلاف درجاته، وكان تكوين الجيش هو العامل الرئيسى وراء النهضة التعليمية التى عرفتها البلاد فى النصف الأول من القرن التاسع عشر فلم يكن التعليم يهدف فقط إلى تنوير الشعب وخلق جيل واعٍ من الناس وإنما كان يهدف إلى الاستجابة العادلة لمطالب الجيش فقد استلزم تكوين الجيش أشياء عديدة مثل وجود الرجال العسكريين المدربين على النظم الحديثة ووجود الأطباء البشريين والبيطريين والمهندسين الذين يقومون على رعاية الجيش ومده بالأسلحة الحديثة، وهكذا نجد أن محمد على ربط سياسة التعليم بنظامه العسكرى وخطته الكبرى لبناء دولة حديثة. والرأى السائد أنه اقتبس النظام الفرنسى فى التعليم واتخذه نموذجا له إلا أن هناك من الدلائل ما يشير إلى أنه التمس الخبرة الأجنبية الناجحة أيًا كانت جنسيتها فكانت أول بعثة فى عام ١٨٠٩ موجهة إلى إيطاليا ثم سافرت البعثة الثانية عام ١٨١٨ إلى فرنسا، كما سافرت بعثات إلى النمسا وإنجلترا. وفى مجال الاستعانة بالأجانب نجد أنه اعتمد فى بداية الأمر على خليط من الجنسيات من فرنسا وإنجلترا.

وهكذا التمس محمد على الخبرة الأجنبية من كل مكان وحرص دائمًا على أن يكون الأجانب منفذين لسياسته وليسوا صناعًا لهذه السياسة أو واضعين لها ولذا يمكن تحديد أسس النظام التعليمى الحديث فى الأبعاد التالية:

أولًا: التعليم وسيلة لتكوين جيش قوى وبناء دولة حديثة وليس غاية فى حد ذاته.

ثانيًا: التعليم المدنى وليس التعليم الدينى هو دعامة النظام التعليمى الحديث.

ثالثا: الهدف من التعليم أساسًا هو تخريج الموظفين وإمداد الحاكم بالقوة البشرية اللازمة لجيشه ومشروعاته.

رابعًا: يقوم البناء التعليمى على أساس الاستجابة المباشرة لمطالب النظام الجديد فيخرج المهندس والطبيب والضابط والإدارى والمترجم فى المدارس الخصوصية العالية قبل أن يوفر التعليم الابتدائى الشعبى فى المرحلة الأولى من التعليم ولذا بدأ النظام من القمة ثم انتهى بالقاعدة على عكس ما يقتضيه المنطق التقليدى للتعليم.

خامسًا: وسائل إنشاء النظام التعليمى الحديث اتخذت مسارات ثلاثة:

أ- الاستعانة بالأجانب واستقدام أعداد مناسبة منهم للقيام بوظيفة مزدوجة. العمل فى مواقع الإنتاج التى أحضروا من أجلها وفى نفس الوقت تعليم فنونهم للمصريين الذين يعملون معهم وقد عرفت هذه الوسيلة بالتعليم عن طريق المقاولة.

ب-إرسال البعثات إلى الخارج لتعلم علوم الغرب وفنونه وإتقان اللغات الأجنبية حتى يمكن الاعتماد على أعضاء البعثات العائدين فى تولى المهام التى يقوم بها الأجانب وفى ترجمة الكتب الأجنبية للاستفادة منها فى إنشاء دعم النظام الجديد.

ج- إنشاء المدارس المدنية الحديثة فى مصر لأول مرة يتعلم فيها عدد كبير من أهل البلاد علوم الغرب وفنونه فى صورة منظمة وافية بالغرض وكان إنشاء المدارس يتمشى وحاجة الحكومة فإذا احتاجت إلى ضباط أُنشئت المدارس الحربية وإذا احتاجت إلى أطباء أنشئت المدارس الطبية وإذا احتاجت إلى مهندسين أنشئت مدارس الهندسة، وهكذا كان افتتاح المدارس وإغلاقها رهنًا لإشارة الحاكم وحده ومرتبطًا بعجلة الجيش إلى حد بعيد ولذا كانت الصبغة العسكرية غالبة على التعليم.

كانت تلك هى المعالم الرئيسية للسياسة التعليمية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر وقد أراد بها محمد على أن يعد الأفراد إعدادًا جيدًا ويختلف كليًا عن التعليم القديم الذى كان سائدًا فى الكتاتيب والمساجد، ولذا لم يفكر محمد على فى تجديد هذا التعليم التقليدى وتطويره، لأن ذلك كان أمرًا بعيدًا كل البعد عن إطار خطته وفلسفته السياسية والعسكرية والتعليمية فضلًا عما قد يثيره ضده من متاعب نتيجة الثورة الأزهرية ضده، وبالتالى ثورة الشعب كله ومع ذلك ترسبت فى أذهانه قدسية التعليم الدينى ومنزلته السامية. ومهما يكن الأمر فإن عهدًا جديدًا فى تاريخ التعليم فى مصر قد بدأ مع نشأة النظام التعليمى الحديث على يد محمد على وكان هذا البناء الجديد من أعظم الإصلاحات التى شهدتها مصر فى النصف الأول من القرن التاسع عشر وفيما يلى عرض لأهم المدارس التى أنشأت والبعثات التى سافرت فى عهد محمد علي:

كان تكوين الجيش هو العامل الرئيسى وراء النهضة التعليمية التى عرفتها البلاد فى النصف الأول من القرن التاسع عشر

ثانيا: المدارس العليا

1-مدرسة الهندسة:  أنشئت أول مدرسة للهندسة سنة ١٨١٩ بالقلعة، وهى بذلك أول مدرسة عالية أنشئت فى عصر محمد علي. وكان التعليم فيها بالمجان، كما كانت الحكومة تؤدى رواتب شهرية لتلاميذها.

وفى بادئ الأمر كان الأستاذة من الأجانب، ولكن مع الوقت بدأ الأستاذة المصريون العائدون من الخارج فى المساهمة فى التدريس.

وفى سنة ١٨٣٤ أنشأ محمد على مدرسة أخرى للهندسة فى بولاق، وكانت هذه المدرسة العالية من أجل وأنفع المدارس التى أنشأها والى مصر العظيم.

2-مدرسة الطب: أنشأ محمد على أول مدرسة عالية للطب فى مصر سنة ١٨٢٧ فى أبى زعبل على مقربة من المستشفى العسكرى هناك، حتى يمكن تدريب الطلاب بهذا المستشفى. واختارت الدولة فى بادئ الأمر مائة من طلاب الأزهر للتعليم بهذه المدرسة، وتولى إدارة المدرسة والمستشفى الدكتور كلوت بك، فاختار لها نخبة من الأطباء الأوروبيين ومعظمهم من الفرنسيين. فقد عين مترجمين لترجمة المحاضرات من الفرنسية إلى العربية ثم ألحق بالمدرسة قسم لتعليم اللغة الفرنسية للطلاب. وتخرجت (الدفعة) الأولى منها. وبعد خمس سنوات تم توزيع الخريجين على المستشفيات وكتائب الجيش. كما أرسل اثنى عشر خريجا إلى الخارج لأكمال دراستهم العليا وعين أيضا ثمانية معيدين بهذه المدرسة العليا.

وأخذ عدد طلاب المدرسة فى زيادة عامة عاما بعد عاما لتلبية حاجات المجتمع المصرى وحاجات جيش مصر العظيم. وفى سنة ١٨٣٧ تم نقل مدرسة الطب إلى القصر العينى لتكون فى داخل العاصمة وحتى تؤدى هى والمستشفى الملحق بها الخدمات للمواطنين كما ألحقت بمدرسة الطب مدرسة خاصة بالصيدلة حتى تتعاون المدرستان فى تحقيق الخدمات الطبية للمجتمع المصري.

3-مدرسة الألسن: وافق محمد على على اقتراح رفاعة رافع الطهطاوى بإنشاء مدرسة الألسن وتم إنشائها بالفعل فى سنة ١٨٣٦ واختير لها سراى الألفى بالأزبكية، وعرفت فى أول الأمر بمدرسة الترجمة التى أطلق عليها مدرسة الألسن وفى سنة ١٨٣٧ أصبح رفاعة هو ناظر هذه المدرسة وكان عدد التلاميذ فى العام الأول خمسين تلميذا ثم ازدادت الأعداد فى السنوات التالية، ويعتبر بعض المؤرخين أن هذه المدرسة هى بمثابة أكاديمية لنشر الثقافة فى مصر فقد كانت تدرس فيها اللغات الأجنبية وخاصة الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والفارسية والتركية، هذا بالإضافة للآداب العربية والتاريخ والجغرافيا كما أنشأ الباشا العديد من المدارس التجهيزية (الثانوية) كما أكثر من إنشاء المكاتب الابتدائية فى الأقاليم حتى بلغ عدد هذه المكاتب فى عام ١٨٣٦ سبعة وستون مكتبًا هذا عدا الكتاتيب القديمة.

ثالثا: البعثات التعليمية

الحقيقة أن الأصل فى تلك البعثات وأسبابها ترجع إلى أن محمد على أخذ عن أوربا علومها ونظامها التعليمية والاقتصادية وفنونها الحربية والبحرية واستدعى محمد على من أوربا المدرسين والنظار لمدارسه والضباط والمدرسين لجيشه وأسطوله والصناع والمهندسين لمصانعه ومن ثم اضطر محمد على إلى الاعتماد على الأوربيين الذين أصابوا فى ذلك الوقت قصب السبق فى التطور الصناعى إلا أن محمد على كان يرى أنه من الحكمة عدم استمرار الاعتماد على الأجانب وإبقاء أهل البلاد من المصريين والأتراك بمعزل عن الاشتراك فى إنهاض بلادهم، فبدأ يرسل إلى أوربا نفرًا من التلاميذ الأتراك والمصريين ليأخذوا من علوم الغرب وفنونه ويحذقوا لغاته وتجاربه حتى إذا عادوا إلى مصر كانوا له أعوانًا ومساعدين يقلدهم إدارة المصانع والمدارس والدواوين ويجلسهم مجالس التعليم ويطلب منهم ترجمة الكتب النافعة، وبعبارة أخرى يطلب منهم أن يكونوا كما أصبح كثيرًا منهم فع ً لا قادة النهضة الحديثة فى البلاد.

ولا شك أنه هذه البعثات كانت لها انطباعاتها العميقة على المجتمع المصرى فقد صحبها نشاط كبير فى نواح ثقافية مختلفة كبدء ظهور الصحافة المطبوعة، لقد نبغ كثيرون من أعضاء هذه البعثات فمنهم على مبارك الذى نستطيع أن نلقبه بأبى التعليم كذلك رفاعة رافع الطهطاوى الذى يمكننا أن نلقبه بأبى الترجمة وغيرهم كثيرون ولقد قدم أعضاء البعثات هؤلاء خدمات جليلة للدولة، ولا شك أن الثمرة الحقيقية التى جناها المجتمع المصرى من هذه البعثات هى الاستغناء عن الأجانب وإحلال أعضاء البعثات فى أماكنهم، لأن محمد على لم يكن تعنيه كثيرا ثقافة المبعوثين وجنسياتهم وأعمارهم بقدر ما كانت تشغله فكرة الاستغناء عن الأجانب، ولكن سرعان ما خبأ ضياء هذه البعثات على يد عباس الذى استدعى الطلبه المبعوثين فى بعثات خارجية فور توليه السلطة مباشرة، وأتى سعيد ليطفئ الشعلة التى أضاءت المجتمع المصرى فى مطلع القرن التاسع عشر فأبدى عدم اهتمامه بشئون التعليم وألغى ديوان المدارس (وزارة المعارف) وزاد الطين بلة واعتمد بصفة أساسية على الأجانب فى كل المجالات.

على أن التعليم فى مصر نال نصيبًا كبيرا من العناية والاهتمام على يد إسماعيل فقد أعاد تأليف نظام المدارس كما اهتم بإنشاء المدارس وخصوصًا المدارس العليا كمدرسة المهندسخانة ومدرسة الحقوق وغيرها، ولم يكتف إسماعيل بذلك بل وأرسل عددا ضخمًا من البعثات التعليمية إلى أوربا وخصوصا إلى فرنسا فضلا عن السماح لعدد كبير من المدارس الأجنبية بممارسة نشاطها التعليمى فى مصر.

رابعا: المطابع والصحافة

كانت (مطبعة صاحب السعادة) أو المطبعة الأميرية فى بولاق أول مطبعة أنشأت فى عهد الوالى العظيم، وقد تأسست سنة ١٨٢٠ ولكنها بدأت عملها سنة ١٨٢٢ وكان الغرض من إنشائها هو طبع الكتب المدرسية والعسكرية، ومع مضى الوقت ازداد عدد المطابع فى مصر، وصارت تنشر بالإضافة إلى الكتب المدرسية كتبًا فى الآداب والفنون وبالنسبة للصحافة فقد أصدر الباشا أمره بإنشاء الصحيفة الرسمية (الوقائع المصرية) باللغتين العربية والتركية فى ٣ ديسمبر سنة ١٨٢٨ وكان الغرض من إنشائها كما جاء فى العدد الأول هو، نشر أوامر وتعليمات ديوان الخديوى وكذلك أخبار الإمبراطورية المصرية اعتبارًا ومنذ عام ١٨٤٢ تقرر أن يعهد إلى رفاعة رافع الطهطاوى بترجمة بعض ما يرد فى الصحف الأجنبية علاوة على الأوامر الحكومية.

نبغ كثيرون من أعضاء البعثات التعليمية فمنهم على مبارك الذى نستطيع أن نلقبه بأبى التعليم كذلك رفاعة رافع الطهطاوى الذى يمكننا أن نلقبه بأبى الترجمة وغيرهم كثيرون

خامسا: سياسة محمد على الخارجية

أدرك محمد على حقيقة وضع مصر السياسى بعد الحملة الفرنسية من حيث تأثرها بتيارات السياسة الأوربية. وكان يدرك من تلك السياسة حينئذ اتجاهها إلى الضغط على العالم الإسلامى فى أطرافه المختلفة، بحيث كان خطر ابتلاعها لذلك العالم حقيقة ماثلة. كذلك اتضح له ضغف الدولة العثمانية وعجزها عن مواجهة ذلك الضغط بحيث وضعت عدة مشروعات لاقتسام أملاكها وأصبحت ولاياتها معرضة لأن تلقى نفس المصير الذى كان يبدو أن تلك الدولة الضعيفة تسير إليه.

كان محمد على يدرك أيضا غنى مصر فى الموارد وأهمية مركزها الجغرافى على طريق التجارة القديم الذى أدرك إمكان إحيائه. لذلك كله تأثرت سياسة محمد على الخارجية بعلاقته بتركيا وعلاقته بدول أوربا ومحاولاته تجنب الوقوع تحت سيطرتها وبرغبته فى إحياء طريق التجارة القديم.

كان ارتباط مصر بتركيا يحمل فى طياته بعض المضار كما كان يحمل بعض المزايا اضطر محمد على إلى تلبية أوامر السلطان لنجدته فى الولايات الثائرة عليه كما حدث فى بلاد العرب وكريت واليونان. وهذا مكنه من زيادة قوته العسكرية كما أتاح له التوسع داخل الدولة العثمانية بالحصول على ولاية بلاد العرب وكريت.

هذا الوضع جعل محمد على يطمع فى تقوية نفسه داخل الإمبراطورية العثمانية مستغلا موارد مصر بحيث يسيطر فى النهاية على الإمبراطورية ويعمل على تقويتها لتتمكن من الوقوف فى وجه الضغط الاستعمار الأوربي. ولم يكن هذا يستدعى بالضرورة أن يقضى على ملك آل عثمان ويتولى هو السلطنة، إذ كان يمكن أن يبقى على الأسرة الحاكمة العثمانية ويوجه سياسة الدولة على الطريق إلى تجديد شبابها. كما أن ذلك لم يكن يتعارض مع أمل محمد على فى الحصول على نوع من الاستقلال داخل نطاق الإمبراطورية يشبه ذلك الذى تتمتع به الولايات فى شمال إفريقيا.

إلى جانب ذلك كان يسير مشروع إعادة فتح طريق التجارة القديم، مكنته الحملة على بلاد العرب من بسط سلطانه على الشواطئ الشرقية للبحر الأحمر حتى قرب عدن نفسها. وجاءت حملة فتح السودان كخطوة للسيطرة على السواحل الغربية لذلك البحر. وقد اتجه محمد على نحو الفرع الآخر من الطريق القديم عبر الخليج العربى ونهر الفرات وشمال الشام، إذ وصلت قواته فى بلاد العرب حتى الحسا والقطيف. كما وصلت قواته فى سوريا بعد قيام الحرب بينه وبين السلطان حتى نهر الفرات. ولتكملة المشروع فى مصر عمل محمد على على استتباب الأمن فى الطريق بين السويس والقاهرة وشق ترعة المحمودية لتوصيل الإسكندرية بالنيل.

وقد مرت هذه المشروعات جميعا فى دورين متميزين. الدور الأول: هو دور الوفاق مع السلطان. أما الدور الثانى فهو دور النزاع مع السلطان ومواجهة الدول الأوربية.

فى الدور الأول فتح محمد على بلاد العرب والسودان، وقضى على الثورات فى كريت وبلاد اليونان.

ذلك أن دعوة محمد بن عبد الوهاب، وتبنى آل سعود من حكام نجد لها وعملهم على نشرها بحد السيف قد أوجد وضعا جديدا فى المنطقة. فقد سيطرت قواتهم على معظم شبه الجزيرة العربية وهددوا العراق والشام، وعجزت قوات الولاة العثمانيين فى تلك البلاد عن مواجهتهم. ويضاف إلى ذلك أنهم عطلوا مراسم الحج، وبذلك وضعوا السلطان فى مركز حرج باعتباره حامى الحرمين الشريفين. وهنا عهد السلطان إلى محمد على بالقضاء على تلك الثورة منذ سنة ١٨٠٧، لكن الباشا لم يتمكن من إكمال استعداداته لهذا الأمر إلا فى عام ١٨١١ بعد أن تمكن من القضاء على المماليك فى مذبحة القلعة كما رأينا.

يضاف إلى ذلك أن محمد على لم يكن حينئذ يستطيع أن يرفض أوامر السلطان وإلا قد يجد السلطان فى الرفض مبررا لعزله، وهناك عوامل أخرى كانت تجعل محمد على يرحب بخوض غمار تلك الحرب. ذلك أن نجاحه فى القضاء على الثورة الوهابية كان يؤدى إلى توطيد مركزه فى مصر وتجاه تركيا فلا يعود السلطان يفكر فى عزله أو تغييره، ولا يستطيع أن يعامله معاملة سائر الولاة. بل أن نجاحه سيكون عاملا يساعده على تحقيق أطماعه سوءا أكانت تلك الأطماع هى الانفصال عن تركيا والاستقلال بمصر خارج الإمبراطورية، أو التوسع داخل نطاق تلك الإمبراطورية، أو مجرد الحصول على الحكم الوراثى وتحقيق مركز متميز فى نطاقها.

يضاف إلى ذلك أنه بسط سلطانه على الساحل الشرقى للبحر الأحمر كان عاملا مساعدا على تحقيق هدفه فى أحياء طريق الشرق القديم المار عبر مصر وخلال ذلك البحر. كما أن الحروب الوهابية كان ستقدم إلى محمد على الذريعة التى يتخذها لبناء قوته العسكرية دون معارضة من السلطان، وتلك القوة هى وسيلته لتحقيق أطماعه جميعا. وكانت تلك الحروب وسيلة لتحقيق بعض أغراض محلية، كالتخلص من الجنود الأرناؤوط والدلاة وتمردهم وثوراتهم المتكررة، وبناء قوة عسكرية حديثة، كما أنها كانت مبررا لإطلاق يده فى فرض ما يريد من ضرائب وأتاوات دون اعتراض من الشعب أو السلطان.

أما الحرب نفسها فقد غطت فترتها زهاء سبع سنوات بين ١٨١١- ١٨١٨ حين سقطت الدرعية عاصمة الوهابين وسلم عبد اللـه بن سعود نفسه وأرسل إلى إستانبول حيث أعدمه السلطان. وقد كلفت تلك الحرب الطويلة المنهكة مصر الكثير من الأموال والأرواح. وتوالى على قيادتها كل من محمد على وأبنائه طوسون وإبراهيم، لكنها أدت فى النهاية إلى سيطرة محمد على على الحجاز ونجد، وانفتاح الطريق أمامه للسيطرة على أطراف شبه الجزيرة الشرقية والجنوبية.

كانت حملات محمد على ضد الوهابيين بطلب وإلحاح من السلطان. أما فتح السودان فكان نابعا من إرادة محمد على نفسه. قيلت أسباب عدة دفعته لفتح السودان. منها سعيه إلى اكتشاف مناجم الذهب والماس التى سمع بوجودها فى السودان، ورغبته فى القضاء على بقايا المماليك المخالفين الذين فروا من مصر واستقروا فى إقليم دنقلة، وأصبحوا بذلك مصدر تهديد لمصر ولسلطان محمد على فيها. يضاف إلى ذلك حاجة محمد على إلى الجند لجيشه الجديد، (النظام الجديد)، وقد اشتهر السودانيون بالشجاعة والطاعة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن فتح السودان بما فى ذلك السودان الشرقى والسواحل الطويلة التى يطل بها على البحر الأحمر، كان سيكفل لمحمد على السيطرة على السواحل الغربية لذلك البحر، وبذلك يصبح باشا مصر مسيطرا على البحر الأحمر من شاطئيه الشرقى والغربى، ولهذا أهميته فى خطط محمد على لإحياء طريق تجارة الشرق القديم لكن لا شك أن من أهم أغراض محمد على استكمال وحدة وادى النيل بضم السودان والوصول إلى منابع النيل، وبذلك يعمل على تأمين سلامة مصر، وضمان مواردها من المياه، وتوثيق الروابط الاقتصادية مع السودان لصالح البلدين.

هناك أمران يوضحان الأهمية الكبيرة التى كان يوليها محمد على لهذين الهدفين الأخيرين، أحدهما أن محمد على، بعد أن وصلت الفتوح الأولى إلى مناطق سنار وفازوغلى وكردفان والنيل الأبيض عند موقع الخرطوم الحالية، واصل بسط سيطرته جنوبا فى اتجاه منابع النيل عن طريق بعثات الاستكشاف والحملات التى قام بها سليم قبطان على النيل الأبيض وبحر الجبل والتى وصلت جنوبا إلى غندكرو عند خط عرض ٤ درجات شمال خط الاستواء. كما أستأجر من السلطان مناطق مصوع وسواكن، وهى منافذ السودان على البحر الأحمر وبذلك دخل سلطانه سواحل السودان الطويلة المطلة على ذلك البحر.

ذلك هو المدى الذى بلغه محمد على فى تحقيق هدفه لتوحيد وادى النيل ولبسط السيطرة المصرية على سواحل البحر الأحمر الغربية. وقد ترك لإسماعيل أن يستكمل تحقيق تلك الأهداف سواء على سواحل البحر الأحمر، باستكمال السيطرة عليها والحصول على موافقة السلطان على ضمها إلى مصر، ثم مد السيطرة المصرية على سواحل الصومال الشمالية أو باستكمال توحيد الوادى حتى وصلت حدود مصر جنوبا إلى منابع النيل فى منطقة البحيرات الاستوائية، كما ضمت مديرية دارفور فى الغرب.

استغرقت فتوح السودان الأولى نحو سنتين ( ١٨٢٠-١٨٢٢)، وفى أواخرها طلب السلطان إلى محمد على مساعدته فى إخماد الثورة التى قامت فى بلاد اليونان، وذلك بعد أن عجزت قواته عن إخمادها.

قبل محمد على هذه الدعوة إلى الحرب، فلم يكن باستطاعته كتابع للسلطان أن يرفضها دون قيام نزاع بينه وبين السلطان لم يكن حينئذ على استعداد لمواجهته كما أن الحصول على حكم بلاد المورة، وقد أصدر السلطان فرمانا بذلك ليشجعه على دخول الحرب، كان إغراء لا يمكن مقاومته من جانب والٍ كانت سياسته حينئذ التوسع داخل الإمبراطورية العثمانية والسيطرة عليها من الداخل. يضاف إلى ذلك أن قبول هذه الحرب فى الميدان الأوربى والحصول على ولاية المورة، كان مما يرفع من مكانة محمد على ويوطد مركزه ومركز الدولة التى يقيمها فى مصر، وقد يساعد فى النهاية على حصوله على ما يهدف إليه من حكم وراثى فى مصر.

استمرت الحرب فى كريت والمورة نحو سبع سنوات ( ١٨٢٢- ١٨٢٨) خسرت مصر خلالها الكثير: أسطولها الحربى فى البحر المتوسط، ونحو ثلاثين ألفا من جنودها وما يقرب من مليون جنيه قيمة مصاريف الحملة، وهو حينئذ مبلغ كبير يضاف إلى إنها خرجت من الحرب بنزاع مرير مع السلطان. لكنها كسبت مقابل ذلك مكانة دولية أفضل.

انتهت الحرب بانسحاب مصر من المورة، ووقوع خلاف بين محمد على والسلطان وباستقلال اليونان فى النهاية. ذلك أنه فى أواخر أيام الحرب، حدث تطور فى موقف دول أوروبا من الثورة اليونانية فى عام ١٨٢٢ كان مركز الثوار قد ساء إلى حد كبير وأخذ السلطان ومحمد على يستعدان لتوجيه ضربة أخيرة وقاضية للثورة. حينئذ تحركت روسيا لإنقاذ الثوار واضطرت كل من بريطانيا وفرنسا إلى الاشتراك معها، وأرسلت الدول المتحالفة أسطولا إلى مياه اليونان تحرش بالأسطولين التركى والمصري، فدارت موقعة نفارين البحرية التى دمر فيها الأسطولان فى ٢٠ أكتوبر ١٨٢٧. يضاف إلى ذلك أنهم أرسلوا حملة إلى المورة لمساعدة الثورة اليونانية، هنا حدث تطور مهم فى علاقات محمد على الخارجية فقد صمم السلطان على استمرار الحرب رغم ذلك ضد ثوار اليونان ورفض مطالب الدول بمنحهم للاستقلال الذاتى تحت السيادة التركية، بل وطالب الدول بتعويض عن أسطوله الذى دمرته وفى نفس الوقت اتصلت الدول المتحالفة بمحمد على رأسا وضغطت عليه لسحب قواه من المورة. وقد رأى محمد على بعد ما تكبد من خسائر فى بلاد اليونان وما اتضح من تصميم الدول، أنه لا جدوى من السير وراء تركيا فى عنادها وأنه من الحكمة ألا يتقيد بسياسة تركيا، وأن يتفق مع الحلفاء على وقف القتال وجلاء الجيش المصرى عن المورة. وفى أول أغسطس ١٨٢٨ وقع محمد على اتفاقا منفردا مع الحلفاء يقضى بجلاء الجيش المصرى عن المورة ويحدد كيفية هذا الجلاء.

بتوقيع هذا الاتفاق المنفرد مع الدول المتحالفة فإن محمد على لم يخالف سياسة السلطان فقط. وهذا فى حد ذاته يستدعى غضب السلطان. بأنه أتى عملا من أعمال السيادة ما كان السلطان وهو صاحب السيادة على مصر، ليغفره له ذلك أن العلاقات مع الدول الأخرى وتوقيع الاتفاقيات معها وإعلان الحرب وعقد الصلح كان من اختصاص السلطان وحده، ومحمد على ما هو إلا تابع له، لكن ما أبداه الجيش المصرى من قدرة وكفاءة فى ميدان القتال بحيث فاق فى ذلك الجيش التركي، جعل الدول المتحالفة تفاوض محمد على رأسا دون وساطة تركيا وتعامله معاملة الند للند. وبذلك توطد مركز باشوية مصر، ولم تعد مجرد ولاية عادية، فقد كسبت مركزا دوليا وعلا شأنها حيال تركيا. ولم يعد السلطان يستطيع أن يعامل محمد على كوال عادى من ولاة الدولة، بعزله أو ينقله كما يشاء.

توقيع هذا الاتفاق على أية حال يمثل تحول فى سياسة محمد على الخارجية بدأ بها الدور الثانى من أدوار نشاطه فى هذا المجال. تميز هذا الدور باتخاذ محمد على موقفا استقلاليا تجاه السلطان، ونزاعه معه وتوسعه على حساب تركيا ورغما عنها، كما تميز بتعارض سياسته التوسعية مع مصالح الدول الأوربية وحدوث المواجهة بينهما بما أدى إلى انهيار سياسة محمد على الخارجية فى النهاية.

فى الدور الأول كان محمد على يعمل فى نطاق الإمبراطورية العثمانية مبقيا على الرابطة بينها وبين مصر، فقد كانت تلك الرابطة تحمل ميزتين، ميزة التمتع بما تتمتع به الدولة من ضمانه الدول لسلامة أملاكها طالما بقيت الدول متمسكة بتلك السياسة، وميزة التوسع السلمى داخل الإمبراطورية. أما فى الدور الثانى فقد أخذ محمد على يعمل على التخلص من تلك الرابطة والانفصال بمصر وبما يحكمه من ولايات أخرى عن تركيا. يتضح هذا الاتجاه بعد موقعة نوارين مباشرة، فقد رفض إرسال إمدادات إلى تركيا لمساعدتها فى حربها ضد روسيا، هذا الاتجاه الجديد كان يحل مشكلة لم يكن الباشا قد توصل إلى حل لها بعد. رأينا أنه منذ السنوات الأولى من ولايته وهو يفكر فى مصير الإصلاحات التى سيجريها فى مصر وفى مصير أسرته من بعده، كان يدرك أن هذا كله معلق بإرادة السلطان ولا سبيل إلى ضمانه إلا فى ولايات الغرب، مما يتيح لها فرصة التقدم واطراد النمو، ويثبت الحكم وراثيا فى أسرته. أما الآن، مع الاتجاه نحو الانفصال عن الدولة العثمانية، فإن هذه المشكلة تختفى.

هذا الاتجاه يحمل معه أيضا اتجاها نحو اقتطاع ولايات الدولة العربية وتكوين وحدة اقتصادية متكاملة منها تضم المنافذ والمواقع المؤدية إلى الطرق التجارية القديمة لذلك لم يكتف محمد على بما منحه السلطان إياه من حكم جزيرة كريت، تعويضا عما فقد فى الحروب اليونانية، بل طالب بضم سوريا إليه، وهو أمل كان يساوره من أيام الحروب الوهابية، بل وفى فترة الإعداد لها وحين رفض السلطان طلبه لم يعد لمحمد على أعذارا وبدأ يسير جيوشه شمالا فى عام ١٨٣١ فيما عرف بحرب الشام الأولى ضد السلطان، تلك الحروب التى انتهت باستيلاء محمد على على الشام وإقليم أطنة، وبذلك تعدت حدود مصر جبال طوروس ولاصقت نهر الفرات أى أنها ضمت أحد طرفى طريق تجارة الشرق القديم المار فى العالم العربي.

لم يكتف محمد على بهذا، بل إنه فى هذا الدور الثانى اتجه إلى بقية الجزء العربى من الإمبراطورية، فاتجهت قواته فى شبه الجزيرة العربية شرقا ودخلت الحسا والقطيف والعسير، وبدأ قائدها يتصل بأمير البحرين لاستكمال بسط سيطرة محمد على على السواحل الغربية للخليج العربي. وبعد حرب الشام الأولى اتجه محمد على إلى التوسع فى شبه الجزيرة جنوبا، فوصلت القوات المصرية إلى تعز فى عام ١٨٣٧ واقتربت طلائعها بعد ذلك من عدن نفسها، هذا فى الوقت الذى كان محمد على يعمل فيه على بسط سيطرته على السواحل الجنوبية للبحر الأحمر عن طريق الاستيلاء على مصوع وسواكن بعد فتح السودان كما رأينا، وكان محمد على يستند فى ذلك إلى أن أقاليم مصوع وسواكن كانت تابعة لباشوية جده التى اسندها السلطان إلى إبراهيم باشا فى عام ١٨٢٠.

فى هذا الدور أيضا حاول محمد على تحقيق هدفه بفصل مصر عن الإمبراطورية العثمانية وإعلان استقلاله التام بها. ففى عام ١٨٣٤ عقب حرب الشام الأولى مباشرة فاتح وكلاء الدول فى هذا الأمر لكن الدول رفضت إقراره ذلك وحذرته من العواقب، وعاد محمد على إلى تجديد مسعاه فى عام ١٨٣٨ فعادت الدول إلى الاعتراض وتحذيره من عواقب هذا العمل.

الواقع أن محمد على بدأ يصطدم بالسياسة الأوروبية عامة وبالسياسة البريطانية بوجه خاص، فى هذه الناحية ذلك أن بريطانيا وبعض الدول الكبرى كانت حينئذ تتبع سياسة المحافظة على تكامل الإمبراطورية العثمانية، أى ضمان سلامة أملاك تلك الدولة. لم يكن ذلك حبا فى تركيا.

فقد كان الكل طامعا فى أملاكها، لكن كان السبب هو ظروفها والخوف من أن يثير التسابق على اقتسام أملاكها حرب طاحنة بين دول القارة. يضاف إلى ذلك أن تركيا بضعفها لم تكن مصدر تهديد لأى من تلك الدول، بعكس محمد على لو أفلح فى إقامة دولة قوية على انقاض الإمبراطورية العثمانية تسيطر على ذلك الركن الشرقى من البحر المتوسط، الغنى بموارده وبموقعه الممتاز.

وبذلك تتحطم المصالح الأوربية فى هذه المناطق. لذلك كان طبيعيا أن تصطدم الدول بمحمد على حين حارب السلطان واستولى على الشام بالقوة وحاول الاستقلال بمصر، خاصة وأن تلك الدول لم تكن فقدت الأمل بعد فى قدرة تركيا على الانتعاش، يضاف إلى ذلك أن حروبه مع السلطان اضطرت الأخير إلى أن ينشد مساعدة روسيا وأطماعها فى تركيا معروفه، مما افزع الدول الأخرى وبخاصة بريطانيا وفرنسا وكانتا تخشيان أن تريا روسيا وقد وطدت أقدامها على ضفاف البوسفور.

ولم تكن تلك هى نقطة الخلاف الوحيدة التى أثارت عداء بريطانيا لمحمد على فإنه بتوسعه شرق للسيطرة على الخليج العربى وتوسعه فى اتجاه عدن، وعلى سواحل البحر الأحمر الجنوبية الغربية أخذ يطأ مناطق حساسة بالنسبة للسياسة البريطانية وهى طريق التجارة القديمة والمسالك المؤدية إلى الهند. وكانت تعمل على إبقاء تلك المسالك مفتوحة لها وبمنأى عن سيطرة دولة قوية وبخاصة منذ أن لفتت الحملة الفرنسية على مر مصر نظرها إلى خطورة ذلك على مصالحها، وما كان محمد على يريد الاصطدام بالسياسة الآوربية ،كما كان حريصا على التقرب من إنجلترا ومحاولة اجتذاب صداقتها، بدأ ذلك فى معاملتة أسرى حملة فريزر عام ١٨٠٧، وفى اتفاقه مع شركة الهند الشرقية عام ١٨١٠ على حماية القوافل التى تجتاز مصر وعدم جباية رسوم على المسافرين الإنجليز. كما أنه انسحب من المورة إرضاء لإنجلترا وأبدى استعداده للتعاون معها فى وقف توغل النفوذ الروسى فى الشرق.

لكن أوربا لم تنظر إلى ثورة محمد على ضد السلطان باعتبارها ثورة تحرر قومى وتساعدها كما فعلت مع ثورة اليونان وغيرها، ولم تقنع بقيمة إصلاحات محمد على فى مصر. كما أن إنجلتر كانت ترى أنها قامت على غير أساس، إذ قامت على استبعاد الشعب وأنها مرتبطة بشخص محمد على وستزول بزواله ولم تغتفر له أنه بحروبه مع السلطان قد أتى بالروس إلى إستانبول وأنه يهدد مناطق نفوذها على الطريق المؤدى إلى الهند.

لكل ذلك تمسكت إنجلترا بسياستها فى المحافظة على سلامة الدولة العثمانية، ورد القوة المصرية إلى داخل مصر نفسها وسعت إلى تأليب الدول الأوربية الكبرى على مصر فأصبح الخلاف بين محمد على والسلطان العثمانى مسألة أوربية تحالف فيها تلك الدول ضد مصر وخاصة حين قامت حرب الشام الثانية وهزم الجيش التركى فى واقعة نصيين وتراجع الأسطول التركى إلى مصر. حاولت فرنسا مساعدة محمد على بالعمل على أن يسوى الخلاف بينه وبين السلطان مباشرة دون تدخل من دول أوربا، وأوشكت تلك المساعى أن تنجح، لكن روسيا لم تلبث أن انضمت إلى الدول التى البتها بريطانية ضد محمد، وأرسلت تلك الدول مجتمعة مذكرة إلى الباب العالى (مذكرة مشتركة) إليه إلا يعقد أية اتفاق مع محمد على دون مشاركة الدول، وهكذا حالت تلك الدول دون الوصول إلى اتفاق مباشر بين الطرفين، ثم ما لبثت أن وقعت معاهدة لندن فى يوليو ١٨٤٠ وكانت تلك المعاهدة هى الخطوة الأولى فى التسوية الدولية للمسألة المصرية. 

تأثرت سياسة محمد على الخارجية بعلاقته بتركيا وعلاقته بدول أوربا ومحاولاته تجنب الوقوع تحت سيطرتها وبرغبته فى إحياء طريق التجارة القديم

سادسا: التسوية الدولية للمسألة المصرية

معاهدة أو وفاق لندن، الذى ابرم فى ١٥ يوليو ١٨٤٠ بين تركيا من جهة وكل من بريطانية وروسيا والنمسا وبروسيا من جهة أخرى، نص فى مقدمته على أن الغرض من عقده المحافظة على استفلال تركيا وسلامة أراضيها، فقد نص على إعطاء محمد على حكم مصر والسودان وراثيا وجنوب الشام مدة حياته، فإذا لم يقبل ذلك فى مدة عشرة أيام نزعت منه جنوب الشام، وإذا لم يقبل ذلك فى مدة عشرة أيام أخرى نزعت منه مصر أيضا وتساعد الدول الباب العالى على إخضاعه، وقد الحق بالمعاهدة ( عقد مفرد) نص على وجب سريان المعاهدات والقوانين الجارى العمل بها فى الدولة العثمانية فى باشوية مصر، كما وعد الباب العالى فيه أن يعرض الشروط التى نصت عليها معاهدة لندن على محمد على من أجل الصلح، أى أن جوهر المعاهدة كان إعطاء محمد على الحكم الوراثى بشرط أن تبقى مصر ولاية عثمانية، وقد رفض محمد على قبول أحكام تلك المعاهدة على أمل أن ينحل التحالف الأوربي، اعتمادا على مساعدة فرنسا. ولكن تلك الدولة لم تنجيه حين حاصرت الدول الأوربية سواحل الشام وضربت أساطيلها موانيه وأنزلت جنودها فيها، وحين حاصرت تلك الأساطيل السواحل المصرية كذلك لم تفلح محاولة محمد على التفاوض مع الباب العالى على مبدأ أساس الحكم الوارثى فى مصر وحكم الشام كله مدى حياته أدى تخلى فرنسا على محمد على وانهيار مركز الجيش المصرى فى الشام نتيجة تدخل أساطيل الحلفاء وقواتهم إلى ثورات الأهالى، وما تبع ذلك من حضور أسطول إنجليزى لحصار الشواطئ المصرية وتهديد محمد على أدى كل ذلك إلى أن أصبح الباشا أميل إلى الصلح فدخل فى مفاوضات مع قائد ذلك الأسطول تشارلز نابسير انتهت بقبول محمد على حكم مصر الوارثى فقط. وكان السلطان قد أصدار فرمانا فى ١٤ سبتمبر ١٨٤٠ بعزل محمد على لعدم إذعانه بقبول شروط الصلح خلال المدة المحددة له، لذلك تدخلت الدول الأربع الموقعة على المعاهدة لدى الباب العالى، وأرسلت إليه مذكرة فى ١٠ يناير ١٨٤١ لإعطاء محمد على الحكم الوراثي.

ومما يلاحظ فى هذه المذكرة، أن الحكم الوراثى الذى نصت عليه كان على أساس الوراثة الصلبية المباشرة، أى من الوالى إلى أكبر أبنائه، يضاف إلى ذلك أن الدول اعتبرت إعطاء محمد على الحكم الوراثى فى مصر منحة من الباب العالى، وأن هذه الحكم الوراثى لا يتعارض مع تحقيق السيادة التى للباب العالى، ولا ينتقص منها شيئا، ولا يتعارض مع الواجبات المفروضة على باشا مصر كأحد رعايا السلطان وكحاكم لإحدى مقاطعات الدولة.

على أن الباب العالى لم يتقيد بنظام الوراثة هذا، وأمر فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١ وبمقتضاه أعطى محمد على حكومة مصر وراثية فى أسرته على أن يختار الباب العالى نفسه من يتقلد منصب الولاية من أبناء محمد على الذكور خلفا له، ثم من يخلف هذا من بعده، ولا يتمتع أبناء البنات بهذا الحق، وإذا انقرضت ذرية محمد على الذكور يختار الباب العالى للولاية من يشاء، نص الفرمان على أن جعل الولاية وراثية هو منحة تخضع للشروط الموضوعية فى الفرمان، وبحيث ُتبطل إذا أخل الولاة بهذه الشروط وكان من شروط الفرمان سك النقود باسم السلطان، الاتفاق على الحرمين الشريفين ودفع ربع إيراد مصر جزية لتركيا، وتحديد عدد الجيش بـ١٨ ألفًا وعدم بناء سفن حربية دون تصريح من السلطان، وسريان العهود المعمول بها فى تركيا فى مصر. وكان الإخلال بأحد هذه الشروط يعتبر موجبا لإبطال تلك المنحة.

وقد أبلغ الباب العالى فرمان فبراير ١٨٤١ إلى الدول، فردت عليه الدول بمذكرة اكدت فيها تبعية مصر للسيادة التركية. وقد ترتب على تبليغ الباب العالى هذا الفرمان إلى الدول، وردها عليه، أن أصبح فرمان فبراير اتفاقا ودليا، ولا يمكن تعديله أو نقضه دون موافقة جماعية من الموقعين على المعاهدة.

اعترض محمد على على القيود التى فرضها فرمان ١٣ فبراير، وهى الخاصة بترتيب الوارثة وتقدير الجزية، فتدخلت الدول لدى الباب العالى بما أدى إلى الوصول إلى حل نهائى تمثل فى صدور فرمانين أحدهما فى ٢٣ مايو ١٨٤١ والآخر فى أول يونيو، وقد نظما وراثة العرش، بحيث أصبحت تنحصر فى الأكبر فالأكبر من ذريته، أى أنه لم يعد للسلطان حق اختيار الوالى، وأن يكن قد اشترط صدور فرمان التفليد من السلطان. وقد استبقى الفرمان. شرط سريان القوانين والعهود فى مصر كما تسرى فى بقية ولايات الدولة، وحدد الجزية بمبلغ ٤٠٠ ألف جنيه. وكان قد صدر فى ١٣ فبراير ١٨٤١ فرمان بتقليد محمد على مقاطعات السودان وملحقاته مدى الحياة، على أن تسرى فيها أيضا القوانين التركية.

يتضح مما تقدم أن الدول تدخلت ونجحت فى تقرير مبدأ رأت فيه خدمة مصالحها قبل أى اعتبار، وهو أن تبقى مصر جزءا من الإمبراطورية العثمانية، مع إعطاء محمد على الحكم الوراثى بالضمانات والفرمانات التى صدرت ولا تتعارض فى نظرها مع مبدأ المحافظة على سلامة الإمبراطورية العثمانية، بذلك لا يختل التوازن ولا يعكر التسابق على تقسيم الإمبراطورية سلام أوربا، ولا تقوم فى الشرق دولة قوية تقف فى وجه أطماع أوروبا. يضاف إلى ذلك أن الدول قد اشتركت فعليا فى تحديد الوضع النهائى لمصر، ذلك الوضع الذى كفلته تسوية ١٨٤٠-١٨٤١، وقد اكتسبت تلك التسوية صفة دولية ظاهرة، فالدول هى التى فرضت معاهدة لندن والعقد المفرد ثم تدخلت فى تحديد شروط الفرمانات التىأصدرها الباب العالى لتنفيذ تلك المعاهدة وتحديد تفاصيل وضع مصر، وكانت تلك الفرمانات تبلغ إليها بذلك أصبحت للتسوية التى تمت صفة دولية، بحيث لا يمكن تعديلها أو إلغاؤها إلا بموافقة الدول الموقعة على معاهدة لندن، وفعلا بقيت تلك المعاهدة الاساس الذى يقوم عليه مركز مصر الدولى حتى انتهى ذلك فعلا بإعلان الحماية البريطانية على مصر عام ١٩١٤ وانتهى قانونا بتنازل تركيا عن سيادتها على مصر فى مؤتمر لوزان عام ١٩٢٣.

 خلاصة الأمر، أن تسوية ١٨٤٠- ١٨٤١ أعادت مصر إلى التبعية لتركيا ووضعتها تحت وصاية دولية.

 ليست النهاية

يرى بعض المؤرخين أن معاهدة لندن ١٨٤٠ تعتبر النهاية الحقيقية لعصر محمد على، رغم استمراره فى الحكم حتى عام ١٨٤٨، على أساس أن هذه المعاهدة أدت إلى انهيار أحلام محمد على ومشروعه الكبير.

ويستشهد هؤلاء على ذلك بإغلاق محمد على للعديد من المصانع التى أنشاها قبل ذلك، وضعف الاهتمام بالنظام التعليمى الذى كان حريصا عليه.

ولكن هناك آراء أخرى ترى أن محمد على لم ينته مع معاهدة لندن، ولكنه استمر فى مقاومة التدخل الأجنبى فى شئون مصر، ورسم سياسة واقعية جديدة لاسيما بعد تقلص دولته الكبرى إلى مصر والسودان فقط.

إذ يرى هؤلاء أن إغلاق محمد على للعديد من المصانع كان محاولة لتقليص النفقات، لا سيما بعد إجباره من جانب الدولة العثمانية والدول الأوربية على تخفيض أعداد جيشه إلى نحو ١٨ ألف جندى فقط، وبالتالى لم تعد هناك حاجة إلى الكثير من المصانع التى كانت تخدم احتياجات الجيش سواء فى الملابس أو الأسلحة. كما أدرك محمد على سريعًا أنه لا يستطيع الإبقاء على هذه المصانع لتصدير منتجاتها إلى الخارج، لأنه سوف يدخل فى علميات تنافسية مع أوربا لا يستطيع مواجهتها، وحتى الأسواق العربية لم تعد مفتوحة له الآن.

وبالنسبة للتعليم كانت الأعداد الكبيرة من المتعلمين تذهب إلى الجيش أو الإدارة، لاسيما فى دولة واسعة كدولة محمد على التى كانت تضم الشام والحجاز ومصر والسودان، ولكن مع تقلص حجم الدولة كان من الطبيعى أن يتم تقليص النظام التعليمى بها، لكنه لم يقم بإلغائه.

كما عمل الأسد العجوز، وكان قد تخطى السبعين، على مقاومة شروط المعاهدة الدولية، ومقاومة مسألة فتح الأسواق المصرية أمام الأجانب، فقام بتوزيع العديد من الأراضى الزراعية على أقربائه حتى يتمكن هو بعد ذلك من جمع المنتجات الزراعية وإعادة بيعها للخارج، لتدر عائدًا إلى الخزانة، حتى يستطيع استكمال مشاريعه. وكان ذلك وسيلة تحايل من جانبه بعد ما أجبرته القوى الأوربية على إلغاء نظام الاحتكار الذى من خلاله أنعش الخزانة المصرية.

استمر محمد على فى سنوات الأربعينيات (١٨٤٠-١٨٤٨ ) فى مقاومة التدخل الأجنبى فى الاقتصاد، وسياسيًا بتوطيد علاقاته بالدولة العثمانية، حتى لا يسمح بحدوث تقارب من جديد بين إنجلترا والدولة العثمانية، لأنه كان يخشى وقوع مصر بعد ذلك فى يد إنجلترا، وهى النبوءة التى تحققت بعد ذلك.

لكن العديد من الصعاب تجمعت على رأس الأسد العجوز، فإنجلترا تقف له بالمرصاد، وتقلبات فيضان النيل أدت إلى خسائر جديدة للخزانة المصرية، وتقدم العمر به أدى إلى مرضه ولم تعد له الحيوية السابقة لإدارة ولاية كبرى كولاية مصر، وابنه الأكبر إبراهيم باشا خليفته يصاب بالسل الرئوى ويموت فى حياة أبيه. هكذا أصيب محمد على بالاكتئاب فى أواخر أيامه، وتجمعت عليه أمراض الشيخوخة ليسقط الأسد العجوز فى أغسطس 1849 تاركًا وراءه دولة كبرى تضم مصر والسودان، لكن خلفاءه لم يتمتعوا بالحزم والشجاعة والمهارات الذهنية، ربما فيما عدا الخديو إسماعيل، لذلك ستسقط مصر سريعًا فى أيدى العدو الأول لمحمد على إنجلترا.

لكن تجربة محمد على لم تنته لقد أوضحت مدى أهمية موقع مصر ودورها فى المنطقة، كما أنها وضعت مصر وبشكل حتمى فى دائرة التحديث، وحق لمحمد على أن نصفه بمؤسس مصر الحديثة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟