كان من المثير للسخرية لدى كثير من
الخبراء والباحثين ما
أعلنه زعيم دولة داعش أبوبكر البغدادي في التاسع من نيسان (أبريل) 2013
عن تأسيسه «الدولة الإسلامية في العراق
والشام»، ولم يكن في تصور الكثيرين حينها
أن إعلان ميلاد الدولة الجديدة يمكن أن يتعدى ويتجاوز العالم الافتراضي ويدخل في حيز العالم الواقعي،
ولاسيما أن تنظيم القاعدة في العراق
قد تلقى في عام 2010 أكبر الضربات وتراجع دورها، وحصل لها انكماش
على أيدي الصحوات السنية، ولم يكد يمضي
عام على ذلك الإعلان إلا وقد أصبحت «داعش»
المعروفة بدمويتها وإرهابها تمسك بمقاليد مساحات شاسعة وأراضٍ
مترامية الأطراف وموارد مالية من غرب
العراق إلى شرق سورية.
في الأسبوع الماضي وفي غضون أيام معدودة
رأينا في وسائل الإعلام كيف استطاعت «داعش»
وجماعات مسلحة إحكام قبضتهم على الموصل ثاني أكبر مدن العراق التي
يقطنها مليونا نسمة، وسيطرت على مدينة
تكريت مركز محافظة صلاح الدين وعلى محافظة
ديالى على الحدود الإيرانية، واشتبكت في مدينة سامراء مسقط رأس زعيم
«داعش» أبو بكر البغدادي، مواصلة عزمها
على التقدم باتجاه بغداد، بحيث أصبحت
وحدة البلاد أمام أكبر تحدياتها منذ الاحتلال الأميركي عام 2003
ميلادية.
هذه الأحداث المتسارعة في العراق وبما
تتضمنه من
ضبابية وغموض في معرفة تفاصيلها وحقائقها لا تزال حتى اللحظة تثير
الكثير من التساؤلات والاستفهامات: هل
«داعش» هي اللاعب والمؤثر الرئيس في كل
ما يجري على الساحة العراقية أم هناك قوى عشائرية ومسلحون وثوار يلعبون
دوراً رئيساً؟
كيف تمكنت «داعش» والجماعات المسلحة
الأخرى من بسط نفوذها وسيطرتها على
محافظات ومدن بأكملها، ولو لأيام معدودة،
هكذا وبشكل مفاجئ؟ هل بإمكانها أن تفرض سيطرتها على مزيد من المدن
والمحافظات، وأن تسترد ما خرج عن
سيطرتها؟ كيف استطاع مئات من الداعشيين والمسلحين
من السيطرة على تلك المدن، في مقابل عشرات الآلاف من الجيش والشرطة العراقية؟
أسئلة وتساؤلات ميدانية واستراتيجية
عدة تكتنفها الاحتمالات. ربما قد لا
نستطيع في الوقت الراهن الفصل فيها بوضوح
ومعرفة وإدراك حقيقتها، ونحن بعيدون عن أرض الواقع، ولكن الحقيقة
الواضحة التي يدركها العقلاء ولا لبس
فيها، سواء أكانت عناصر تنظيم الدولة الإسلامية
«داعش» هي من يسيطر على تلك المحافظات والمدن العراقية أم غيرهم
من المسلحين أن ما يجري في العراق ما هو
إلا ثمرة ونتيجة مباشرة لسياسات وجرائم
المالكي الطائفية التي عمقت الانقسام الطائفي والإثني، وجعلت العراق
يُحكم بنظام يحتل المكون الشيعي فيه
موقع القيادة والهيمنة المطلقة، وإذا كان
إرهاب «القاعدة» قد تمت محاصرته على أيدي مجالس الصحوات العشائرية
السنية بداية من عام 2007 في محافظة
الأنبار، فإن «القاعدة» وتجسدها في الدولة
الإسلامية في العراق والشام لم تصعد من جديد في العراق إلا نتيجة
قمع وتهميش وإقصاء المالكي المتواصل
لمعارضيه ومخالفيه سنةً أو أكرادا، وهَوَسُه
الهائل بالحكم والسلطة والسيطرة والهيمنة المباشرة على وحدات الأمن والجيش الخاصة، وجعلها أداة في
يده، واعتقال آلاف السنة من الرجال والنساء
وتلاعبه بالقضاء من أجل إصدار أحكام بالإعدام في حق معارضيه، وقمعه
الاحتجاجات الشعبية السلمية الرافضة
لسياسات التمييز والاضطهاد الطائفي في ساحات
ست مدن عراقية عام 2013 تحت مسمى محاربة الإرهاب والتطرف واعتبارهم
مجرد «قاعديين وإرهابيين»، ورفضه الدائم
الوصول إلى تسويات سياسية، ومطاردة وملاحقة
السياسيين السنة البارزين الذين كانوا ضمن العملية السياسية من
نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، الذي
يعيش اليوم لاجئاً في تركيا منذ أن أدانته
محكمة عراقية وحكمت عليه بالإعدام غيابياً، إلى إصدار مذكرة إلقاء
قبض وتحرٍّ بحق وزير المالية المستقيل
رافع العيساوي، واعتقال النائب أحمد العلواني
الذي يمثل رمزية كبيرة في منطقة الأنبار، ومن قبلُ الانقلاب وتهميش وتصفية قيادات الصحوات واتهامها
وملاحقتها بنظام الإرهاب، والتراجع عن
كل التعهدات بضم أفرادها إلى الجيش والشرطة، بعد أن كان لهذه القوات
اليد الطولى في إسقاط سيطرة تنظيم
القاعدة والجماعات المسلحة الأخرى في أرجاء
البلاد وتحقيق تحسن أمني بنسبة 80 في المئة في المناطق المضطربة،
إضافة إلى سياسات المالكي الطائفية
الهوجاء ضد الثورة السورية، كل تلك الظروف
مع تفاقم الغضب السني على المالكي أسهمت مجدداً في خلق ملاذ وبيئة
اجتماعية حاضنة لتنظيم دولة داعش، وهو
ما استثمرته دولة البغدادي بتوسيع دائرة
التجنيد وتطوير أساليبها القتالية، ولا حل ولا مخرج من هذه الأزمة
إلا بتشكيل حكومة ائتلاف وطنية تحت
قيادة عراقية غير طائفية، وتحقيق مصالحات
وتسويات سياسية تقنع وتعيد الثقة للمجتمع السني بأنهم جزء رئيس من
العملية السياسية، وهذا يتطلب قيادة
وشخصية أخرى غير المالكي، فاستمرار بقائه
يهدد العراق بحرب جديدة تفوق ضراوتها ما حدث بعد سقوط نظام صدام، وما
يتعلق بداعش فإن هذه التنظيمات تستثمر
وتقوى في حال الفوضى، والحاضنة الاجتماعية
لها حال استثنائي وفي حال تغير ظروف تلك الحاضنة فإنها تبدأ بالانحسار والضعف.
نقلا عن الحياة