لا
بد من التنويه بداءة أن كلمة سفارى الواردة فى عنوان هذا المقال من أصل عربى مبين
وتعنى «سفرة». وقد نقلت إلى اللغة السواحيلية السائدة فى شرق أفريقيا ومنها إلى
الانجليزية فى القرن التاسع عشر لتحمل نفس المعنى والدلالة العربية
ولعل
هذا المثال اللغوى يؤكد على عمق الجذور والروابط الثقافية التى تجمع بين العرب
والأفارقة، و قد أحسن الرئيس عبدالفتاح السيسى صنعا عندما أكد أن عودة مصر لمكانها
الطبيعى فى أفريقيا انما هو اعتراف بالجذور واعتزاز بالانتماء.
وعليه
يتعين على مصر الجديدة بزعامة السيسى مواجهة هذه التحديات الاقليمية والدولية
المتصاعدة من خلال مراجعة شاملة للثوابت المصرية فى أفريقيا، ونقترح أن تتضمن هذه
المراجعة إضافة ثلاثة مبادىء كبرى هي: (1) التحالفات والشراكات الكبرى مع السودان
والقوى الاقليمية فى أفريقيا، (2) التكيف وتحقيق التوازن بين الاعتبارات الأمنية
والسياسية فى التعامل ،(3) امتلاك زمام المبادرة والفعل بدلا من سياسة السكونو
الاكتفاء برد الفعل.
ولا
يخفى أن السودان تمثل ركيزة استراتيجية للحركة المصرية ، ومن ثم فان الشراكة
المصرية السودانية بما فى ذلك دولة جنوب السودان تعد أمرا مفروغا منه فى أدبيات
الفكر الاستراتيجى السائد فى البلدين، وعليه فان عمق أواصر الجغرافيا والتاريخ
والمكونات الحضارية لشعب وادى النيل يتجاوز أى خلاف عابر بين من يحكم فى كل من
القاهرة والخرطوم، وينبغى على مصر طبقا لهذا المبدأ السعى لبناء قاعدة شراكات
اقليمية وتحالفات مبنية على مصالح متبادلة حقيقية وذلك على مختلف الأصعدة الرسمية
وغير الرسمية . ويمكن الاشارة هنا إلى ثلاثة دوائر فرعية على المستوى الاقليمى هي:
دائرة حوض النيل ولاسيما اثيوبيا وكينيا وتنزانيا. أما الدائرة الثانية فانها تشمل
الكتلة الاسلامية الكبرى فى غرب أفريقيا ولاسيما دول مثل نيجيريا والسنغال. وتشمل
الدائرة الثالثة القوى الأفريقية الصاعدة مثل جنوب أفريقيا وغانا.
ويطرح
المبدأ الثانى وهو التكيف ضرورة التعامل الواقعى الرشيد من جانب صانع القرار
المصرى مع التحولات الكبرى التى شهدتها أفريقيا فى نفس الوقت الذى شهدت فيه الدولة
المصرية تراجعا استراتيجيا بعد ثورة يناير 2011. واذا أخذنا مسألة سد النهضة
الاثيوبى كمثال لمبدأ التكيف فان التمسك بحرفية الحجج القانونية التى تؤكد الحقوق
التاريخية المكتسبة لمصر فى مياه النيل قد يعنى انكار حق اثيوبيا فى الاستخدام
العادل لمياه النهر، وفى المقابل يعد القول بالحق المطلق لدول المنبع فى استغلال
مياه النيل نوع من التفريط فى الحقوق المشروعة لمصر، أى أن مبدأ التكيف يعنى
ببساطة قاعدة لاضرر ولاضرار.
لقد
توقفت مليا عند أحد العبارات الواردة فى تقرير لجنة الخبراء الدولية الخاصة بسد
النهضة (وثيقة مؤلفة من 48 صفحة ولم يعلن عنها بشكل رسمي). يقول التقرير إن «
تأثير بناء السد على مصر يحتاج الى دراسة اضافية باستخدام بيانات واقعية ونماذج
معقدة ، وليس مجرد تقارير مكتبية»، وأحسب أن هذا النص يمثل قاعدة تفاوضية مهمة
لمصر بما يجعلها شريكا فى بناء وتشغيل السد وبما يحقق مصالح الطرفين.
أما
المبدأ الثالث الذى ندعو إليه فهو يشير إلى ضرورة استخدام مصر لسياسة المبادرة
والاستباق فى ظل تزايد حالات الضعف الاستراتيجى العام لأقاليم الجوار الأفريقية.
كما أن تدويل جماعات التطرف الاسلامى مثل بوكوحرام النيجيرية والشباب الصومالية
وتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الاسلامى سوف يعنى وجود قوى دولية واقليمية كبرى ،
بما فيها اسرائيل، فى الجوار المصرى ، ولاشك أن ذلك يعنى أيضا عدم الوقوف مكتوفى
الأيدى والاكتفاء بالمشاهدة ورد الفعل فى أحسن الأحوال.
إن
عملية المراجعة السابقة للفكر الاستراتيجى المصرى تعنى الاعتراف بوجود تحولات
وتحديات كبرى شهدتها المنطقة الأفريقية. اضافة إلى تنافس القوى الدولية الاقليمية
على اكتساب النفوذ فى أفريقيا. وعليه فإن نقطة الانطلاق الفعلية والواقعية لصانع
القرار المصرى تفترض دائماً العمل فى ظل بيئة دولية تنافسية قد تكون معادية للوجود
المصري، وقد دأبت بعض الكتابات المصرية فى هذا الخصوص إلى الاشارة إلى الاختراق
الاسرائيلى لأفريقيا بحسبانه مؤامرة على مصر، ربما يكون ذلك صحيحاً ولكنه يقتضى
ضرورة التخطيط العلمى والمراجعة المستمرة لأدوات الحركة المصرية فى أفريقيا. وعلى
سبيل المثال فإن اسرائيل قد طورت من مناهج وأدوات حركتها فى أفريقيا منذ ثورات
الربيع العربى عام 2011 لتشمل الأشكال الأربعة الآتية:
أولا:
الترويج للخيار الاسرائيلى فى مواجهة حركات الارهاب والتطرف الاسلامى فى كل من شرق
وغرب أفريقيا، فاسرائيل ترى نفسها صاحبة خبرة طويلة فى تبنى استراتيجيات أمنية
وعسكرية لمكافحة الارهاب . وعليه نجد التغلغل الاسرائيلى واضحا فى دول حوض النيل
ولاسيما كينيا وجنوب السودان واثيوبيا.ومن المعروف أن اسرائيل تقدم التدريب والدعم
لكينيا فى مواجهة حركة الشباب الصومالية.
ثانيا:تدشين
أول لوبى اسرائيلى فى الكنيست لتعزيز العلاقات بين اسرائيل والدول الأفريقية وذلك
برئاسة العضو شمعون سليمان.
ثالثاُ:
استخدام اسرائيل لقوتها الناعمة لتقديم العون للدول الأفريقية فى مجالات الزراعة
والمياه والطب ومكافحة الارهاب وغير ذلك.
رابعاً:
قيام وزير الخارجية ليبرمان بجولة أفريقية يوم 10 يونيو 2014 ولمدة عشرة أيام تشمل
أثيوبيا ورواندا وساحل العاج وغانا وكينيا. وقد صحب معه وفداً كبيراً يمثل معهد
التصدير الاسرائيلى وخمسين شركة اسرائيلية. كل ذلك يدفعنا إلى دعم النهج الجديد
للرئيس السيسى وانتهاز الفرصة التاريخية بعودة مصر لمكانتها الطبيعية فى قيادة
الاتحاد الافريقي. فهل يعيد السيسى اكتشاف أفريقيا من خلال رحلات سفارى سياسية
مكثفة تعيد وصل ما انقطع وتصحح ما ساد من معتقدات خاطئة حول مصر ودورها الأفريقي؟!
نقلا عن الأهرام