المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
حازم الامين
حازم الامين

إذاً... هنا الموصل، هنا «داعش»

الأحد 22/يونيو/2014 - 10:16 ص

في تفسيرنا لـ «داعش»، بعد زلزال الموصل، نميل دائماً إلى تفادي الإشارة إلى أن هذا التنظيم الإرهابي خاطب بـ «إنجازه» الجديد ضائقة وجدانية تشتغل في كثير من النفوس. فهو إلى جانب ما يبثه من رعب في البيئة التي نشأ فيها، تمكن حيث لم يتمكن غيره، وهو أمر ليس بسيطاً في ظل تفشي الخيبة والإحباط.

هو تنظيم «المتوحشين» في السلفية الجهادية، وهذه ليست نقيصة بحسبه، لا بل وجد لـ «التوحش» فقهاً صرف عبره مشاهد القتل التي التقطتها كاميراته الحديثة وبثتها بصفتها علامة تفوق التنظيم. أراد أن يقول للعراقيين وللسوريين إن التنظيم لن يرأف بهم، وإن الخوف منه هو ما يجب أن يحكم علاقتهم به. صوّر لهم شباناً يحفرون قبر أبيهم قبل أن يُنفّذ بهم حكم الموت. وصور أيضاً أطفالاً يشهدون على إعدامات. ولهذه الصور وظيفة واحدة هي الدرس الذي يجب أن يتعلمه الجميع، وهو أن العيش في ظل «داعش» مجاورة للموت وتآلف معه.

ولكن، ليس هذا وحده ما خلفه «داعش» في نفوس أهل البادية من الأنبار العراقية وصولاً إلى الرقة السورية. فـ «داعش» بشع في البؤر التي يحكمها مباشرة، ولكن ما أن تبتعد خطوة عنها حتى يبدأ الكلام عن «الفعالية». العشائر العراقية المناوئة للمالكي معجبة بـ «داعش» بالمقدار ذاته الذي تخاف منه، وشبان كثيرون في هلالنا المشرقي غير الخصيب أذهلهم تمكن التنظيم من المالكي، والذهول هنا لا يخلو من إعجاب. وإذا كانت عراقية «داعش» حرمته مناصرين سوريين فتحول خلال سيطرته على الرقة إلى قوة احتلال، فإن «النصر» في الموصل وفي الأنبار جعل يُغذي في «المهزوم السوري» حاجة لـ «نصر» مشابه.

«داعش» ليس تنظيماً شعبياً اليوم، لكنه من دون شك حجز مكانه في الخريطة الشعورية المشرقية. قد لا يدوم ذلك كثيراً، ذاك أن الأفق لا يتسع لهذا «التوحش»، ثم إنه تنظيم عديم القدرة على التحول من الفعل الإجرامي والإرهابي إلى الفعل السياسي والأهلي. لكن البادية العراقية وامتدادها السوري والحواضر المدينية التي تتخللها بعيدة من السياسة هذه الأيام، ولا أفق لعلاقات أهلية غير نزاعية في المدى المنظور. هذا ما كشفه أصلاً الصعود الصاروخي للتنظيم. فقد كان الأخير نائماً في البادية ويُعد العدة لحملته مستعيناً بطائفية نوري المالكي وبفساد إدارته، ومستعيناً أيضاً بالقابلية العشائرية، وموظفاً «البعث» والجيش العراقي السابق، وكل هذا بعيداً من أعين الجميع.

وإذا كان «داعش» هو الولادة الثالثة لـ «القاعدة» (الأولى في أفغانستان على يد بن لادن والثانية في العراق على يد الزرقاوي)، فإنه هذه المرة، وخلافاً لسابقتيها، يستمد قوة مستجدة من عصبية محلية وأهلية شديدة الالتباس لكنها واضحة في تركيبته. هي شيء من «العراقية» المتداعية. «البعث» والعشائر والجيش العراقي السابق، وهؤلاء ليسوا أناساً أو قيماً إنما مشاعر وغضب جاء فقه «التوحش» ليصوغ لها أفقاً ومجرى ووظيفة.

لكن عراقية «داعش» تُضيق عليه في سورية. هذا تماماً ما جعل «جبهة النصرة» تتقدم عليه هناك. ليس تأجيل «النصرة» تنفيذ «الحدود» إلى ما بعد سقوط النظام هو ما جعلها أكثر قبولاً لدى السوريين، انما سوريتها (الملتبسة أيضاً): الأمير السوري والعلاقة بالبيئة المحلية وبالكتائب المقاتلة، بينما لم تُشرك «داعش» في إدارة مدينة الرقة التي تحكمها سورياً واحداً. القيادة هناك عراقية أيضاً، وضباط الجيش العراقي المنحل هم قادة الصف الأول فيها.

لكن «النصر» في الموصل أحدث صدمة في بيئة التنظيمين الشقيقين. مشايخ السلفية الجهادية الذين كانوا أعلنوا انحيازهم الى «النصرة» ودانوا غلواء «داعش» بدأوا يعيدون حساباتهم. أعجبتهم «فاعلية» التنظيم، وبدأت الحكايات عن «فطنة» أبو بكر البغدادي ودهائه وحنكته تظهر على مواقعهم الإلكترونية. وتحولت فجأة «عراقية» الرجل إلى جوهر جاذب للسلفية الجهادية العالمية بعدما كانت إقليمية طاردة لها. وبما أن الجميع يتحرك اليوم في البادية، وعلى تخوم صحراء الأنبار، فإن مد عراقية أبي بكر إلى بر الشام وإلى صحراء شرق الأردن ليس أمراً عسيراً، لا سيما أن الدول لم تُنتج فروقاً كبيرة بين أفخاذ العشائر على طرفي الحدود.

ثمة فراغ هائل في هذه الصحراء، فراغ أتاح للبغدادي أن ينام سنوات هناك. حصل هذا بينما كان الأميركيون يُفككون احتلالهم، وبينما كانت الحكومة العراقية تُدير ظهرها لهذه الصحراء المترامية، والعشائر تُكابد هزائمها المتتالية. وحصل ما يُشبه تلك الحروب القديمة التي تتفاجأ فيها الجيوش بعديد بعضها بعضاً. كتلة بشرية تخرج فجأة من خلف الكُثبان الصحراوية وتتوجه إلى الموصل. لا أحد يعرف عنها شيئاً سوى أنها «داعش»، ذلك التنظيم الإرهابي المتوحش الذي كان نائماً في الصحراء. هل تذكرون كيف ظهرت «طالبان»؟ ثمة شيء يشبه تلك المفاجأة. في الشكل على الأقل، وفي بعض المضمون. الهوية العرقية البشتونية وقد ركبت «الخلافة» رأسها، تشبه الى حد بعيد الخليط العشائري والبعثي الذي امتزج بـ «جهادية» ضباط سابقين في الجيش العراقي.

أبو عمر البغدادي، الرجل الغامض الذي لم تُعرف له صورة ولا صوت، قاتل جيشاً غير مرحب به في الأبنار وفي الموصل، وبينما كان جل جنود ذلك الجيش «غرباء»، ضم جيش البغدادي ضباطاً من الدليم ليسوا غرباء. هذه المعادلة الفجة والواقعية يجب ألا تغيب عن تفسير ما جرى في شمال العراق وفي غربه. «داعش» ليس تنظيماً غريباً على ما نزعم. لم يخرج فجأة من الصحراء، كما أنه ليس وليد مؤامرة فقط. عناصر الوهن التي أنتجته صارت واضحة اليوم، و «السلفية الجهادية» ليست سوى مظهره الخارجي. لقد أنضجت هذه السلفية عناصر «توحش» سابقة على وجودها. عُقم عميق وجوهري، وشَبَه مخيف عابر للحدود. في الموصل عشائر تُبايع «داعش»، وفي الرقة أيضاً، ولـ «البعث» يد على ضفتي الحدود، وفي العاصمتين البعيدتين حكومتان طائفيتان وفاسدتان ودول كبيرة في الجوار تدير حروباً خارج حدودها. إذاً هنا الموصل، هنا «داعش». نقلا عن الحياة

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟