ظاهرياً،
تثبت الأحداث المتلاحقة في العراق فشل السياسة الأميركية، ففي حين كان جورج بوش
الابن ومستشاروه يتحدثون عن ديكتاتورية صدام حسين ومكافحة الإرهاب كعنوان عريض،
تتحتم بناءً عليه كتابة فصول جديدة لمشهد ينبغي له أن يتغير نحو عالم أفضل، فإننا
لا نجد في عراق اليوم سوى ديكتاتورية جديدة، بصبغة مذهبية مقيتة هذه المرة، كرست
وجود الإرهاب بصورة تهدد المنطقة برمتها، بحسب تصريحات المسؤولين الأميركيين
اليوم.
لكن
وكما أثبت التاريخ، فإنه لا يقرأ السياسة في شكلها المعلن إلا ضحاياها، والحقيقة
أننا أمام هذه المشاهد المتسارعة لا نملك في جعبتنا سوى مزيد من الأسئلة، فلا أحد
يستطيع أن يؤكد أن ما يقوله الحقيقة، كما أنه لا يوجد من باستطاعته أن ينكر حقائق
موجودة على الأرض، تضغط باتجاه التمزيق الممنهج لفريسة سقطت بين مخالب الأقوياء،
وطرائد تترقب بهلع مصيرها الذي ستسوقها إليه تراتبية الأقدار، ونهم الكبار في لعبة
التوازنات والقوى لا مكان للضعفاء فيها.
مما
لا شك فيه أننا في هذه الأثناء نشهد مخاض عالم جديد، تداعياته العسيرة على منطقتنا
تشي بولادة دول ستسحب من أميركا «أل التعريف» التي جعلت منها لأعوام مضت «العظمى»
الوحيدة، مؤذنة بقيام دولة الصين العظمى بما تمتلكه من تقدم تكنولوجي واقتصادي
وتعداد سكاني كبير، يؤهلها للسير جنباً إلى جنب مع أميركا، وروسيا التي أحياها من
جديد تولي بوتين زمام الأمور فيها، بجهوده سواء في الاتجاه الاقتصادي وعمله الدؤوب
على تنحية رموز الفساد السابقين سياسيين كانوا أم رجال أعمال، أم على الصعيد
العسكري والسياسي الذي استغل فيه ولوغ الولايات المتحدة في وحل حروب مباشرة، فقدت
معها كثيراً من حكمتها التي كانت تميزها عن غيرها في السابق، حين ارتأت المقامرة
بغزو العراق وقبلها أفغانستان، والمخاطرة بما تبقى لها من تفوق نسبي طمعاً في
مصادرة التحولات الدولية المقبلة، الأمر الذي أدى بها إلى إعلان تغييرات جوهرية
كان أبرز شواهدها تنصيب رئيس تختلف «ملامحه» كثيراً عن سابقيه.
بالنظر
إلى الخريطة العربية، فإنه يجب عدم الفصل بين ما يحدث في العراق ويحصل في المنطقة
كلها. ولعله من غير المنصف قراءة المشهد العراقي وتحليله بمعزل عن الوضع السوري في
أزمته الطاحنة منذ ثلاثة أعوام، ولا حتى عن الوضع في اليمن وليبيا.
فالتداعيات
العراقية كانت بدأت إرهاصاتها من هناك، إذ لم يكن بدا لزلزال المنطقة العظيم الذي
يهزها لأكثر من 4 أعوام، من أن تصل ارتداداته قوية إلى العراق الهش، الذي ضربت
الطائفية أطنابها فيه بلا هوادة، بقيادة ليست حكيمة أبداً تولّى كبَرها رئيس
الوزراء نوري المالكي، وهو يضغط متكئاً على «مظلوميات» الشيعة، حتى انفجرت في وجهه
مظلومية أهل السنة هذه المرة، جراء حكم تعسفي واستئثار جشع للسلطة استمر زهاء 10
أعوام، جعل الجمهور السني يستجير بنار «داعش» هرباً من رمضاء المالكي. على رغم أن
هذا الجمهور السني هو ذاته الذي كان هزمها يوماً ما، قبل أن يقوم المالكي بتفتيت
الصحوات، فأصبح ينضم إلى «داعش» كل من أراد الانتقام من الشيعة نكاية بالمالكي،
نظراً إلى ممارساتها التي لا تبعد أبدا عن ممارساته.
في
الساحة العراقية هناك لاعبان رئيسان يتحكمان في خيوط اللعبة كلها، لكن كليهما
يحاول الخروج من أزمة العراق الراهنة بأقل الخسائر. فاللاعب الأميركي لم يعد
باستطاعته الخوض أكثر في هذا الوحل المزمن، خصوصاً أن الشعب الأميركي يحمّل هذه
الحرب كل تكاليف الخسائر التي عصفت بأميركا، بدءاً من الخسائر الكبيرة في الأرواح،
وليس انتهاءاً بما نجم عنها من خسائر اقتصادية مرهقة، من دون أن يروا لذلك مردوداً
ملموساً أو حتى منظوراً في المستقبل. حتى أصبح صانع القرار في السياسة الأميركية
بعد «الانتصار» المكلف في العراق يردد ما قاله الملك اليوناني بيروس بعد انتصار
جيشه على الرومان: «نصر آخر كهذا وسنؤول إلى الهاوية».
لذلك
فإن الحلول بيد الإدارة الأميركية اليوم تقتصر على السياسية منها فقط، فلا مجال حتى
للتفكير في إرسال جنود تدعم تقهقر قوات المالكي المذل، مع إدراكهم التام بعدم جدوى
الضربات الجوية على الأرض، وأنها لن تؤثر في ثائري العراق مثلما أنها لم تؤثر فيهم
سابقاً.
أما
اللاعب الآخر الإيراني، الذي تسلم بطمع التركة الأميركية الثقيلة بعد انسحابها من
العراق عن طريق أعوانه فيها، فإنه وجراء ما تكبده من خسائر جسيمة إثر تدخله السافر
في سورية، كلفته اقتصادياً ما يربو على 40 بليون دولار، لم يعد باستطاعته
الاستمرار أكثر في هذا المأزق الحقيقي، الذي لم تصل إليه حكومة الملالي الإيرانية
في مراحل صعودها حتى خلال حربها مع العراق في ثمانينات القرن الماضي، بالنظر إلى
حال التململ الواضحة في الشارع الإيراني والتي بلغت ذروتها عام 2009 بتظاهرات
مليونية، جراء نسب البطالة والتضخم التي تضرب بقوة خاصرة طموحات تصدير الثورة، حتى
بات ما يحصل في سورية والعراق بمثابة المقص الذي قطع تطلعات النفوذ والتمدد
بالنسبة لها.
من
ناحية أخرى، فإنه وبالتسليم بعدم خلو التاريخ من المؤامرات، إلا أنه ليس كله
مؤامرات، بالقدر الذي توجد فيه تداعيات وتسلسل مهم للأحداث نظير أسباب معينة، وليس
هذا ما ينفي وجود مخططات لتقسيم العراق، وجدت الطريق إليها اليوم أقرب من أي وقت
آخر، فالعراق الحديث «بمعناه السياسي» ليس بمنأى عن حدوث ذلك أبداً، بالأخص عند
النظر بتعمق إلى الترتيب التاريخي لمكوناته الأساسية التي يفكر كل واحد منها بمعزل
عن الآخر، فالجنوب بغالبيته الشيعية يجد نفسه مرتمياً «بالضرورة» بين أحضان
الإيرانيين - العمق التاريخي لهم - هرباً من المكون الآخر السني وسط العراق، ليأتي
الأكراد في الشمال بما تحويه أرضهم من خيرات وكذلك ما يحملونه من طموحات في تشكيل
دولتهم «الحلم» والمستقلة، بالأخص إذا ما نظرنا إلى تصريحات المسؤولين الكرد حين
أكدوا - فيما يشبه الفرصة المواتية بضم المتنازع عليه تاريخياً - على أنهم لن
يتنازلوا عن أي أرض يتم تحريرها من «داعش» الذي هلل النظام السوري فرحاً بانتصاره
عليه وطرده من سورية، الأمر الذي تقول المعطيات بخلافه، فالواقع يوحي بأن مهمته في
سورية انتهت أو تأجلت، فانسحب «بتكليف» آخر إلى العراق لكي يحجب - مثلما فعل في
سورية - بممارساته الإرهابية انتصارات الثوار الأصليين، الذين هم في حقيقتهم
ينقسمون بين أبناء عشائر وضباط بعثيين سابقين، يتزعمهم نائب الرئيس العراقي الأسبق
عزت إبراهيم الدوري المنتمي عقائدياً إلى الطريقة الصوفية القادرية، الذي استطاع بما
له من شعبية أن يُخرج من بين جماهير الطريقة الصوفية الأكثر في العراق وهي
النقشبندية جموعاً كان لها أثرها في مآلات الأحداث الجارية هناك، إضافة إلى «داعش»
بالطبع الذي لو كانت الغلبة له على هذه المجاميع لقام بتعيين «أمراء» يتبعون له
على المناطق التي تم تخليصها، بالنظر إلى عدم تساهلهم في مثل هذه الأمور جراء
حرصهم الشديد على الزعامة والسيطرة، الأمر الذي لم يحصل اليوم. وما يؤكد حقيقة
أنها هبّة شعبية على الظلم والتسلط تسلسلت أحداثها منذ قرابة العام عبر احتجاجات
بدأت في مدن الأنبار، هو تعداد الجنود العراقيين الفارين من الموصل والذي بلغ 67
ألفاً، بحسب إحصاءات الذين صوتوا للمالكي في الانتخابات الأخيرة من المجندين هناك،
إذ يبعد عقلاً أن يتقهقر كل أولئك بعدهم وعتادهم أمام بضعة آلاف من مقاتلي «داعش»،
لا يتجاوزون في أكثر التقديرات 3 آلاف.
كل
هذا وخلافه يضغط بشدة على الظرف التاريخي الحاصل اليوم باتجاه التقسيم، طبعاً مع
عدم غض الطرف عن الجار التركي للعراق، الذي يبدو أن اجتماعاته مع الجانب الإيراني
التي صرح أردوغان خلالها بأن إيران بيته الثاني، تم فيها مباركة التقسيم الحقيقي
للعراق، خصوصاً أن أربيل أخذت تصدر النفط عبر تركيا وإليها، في مشهد تعلن من خلاله
سياسياً أنها اتخذت شكل الدولة المستقلة عن بغداد، الأمر الذي يدلل على قبول تركيا
لمشروع دولة كردية، تسهم أولاً في حفظ جنوبها من وجود جماعات عملت طوال أعوام على
خلخلة أمنها الداخلي، ثم تعمل على تنشيط الاقتصاد التركي من خلال نقل وتصدير النفط
القادم من بلاد كردستنان عبر ميناء جيهان.
بقي
أن نقول إن ما يجري في العراق ينبغي الترتيب لما بعده، من خلال العمل على احتواء
المجاميع المسلحة التي وحدها هدف الإطاحة بالمالكي، وهو الهدف الذي تشير كل
المقدمات إلى بلوغ مراحله النهائية، والمنطق كما التاريخ يحتم على العقلاء النظر
إلى النتائج بغض النظر عن المسببات، حتى لا تكون العراق أفغانستان أخرى تهدد أمن
الجميع، وبالأخص جيرانها. نقلا عن الحياة