كتبت
فى الأسبوعين الماضيين مقالين عن ذلك الكتاب المهم، والذى أثار ضجة كبيرة بمجرد
صدوره وهو كتاب »الرأسمالية فى القرن الحادى والعشرين« للاقتصادى الفرنسى توماس
بيكيتى (Thomas Piketty)
شرحت
فى المقال الأول فكرة الكتاب الأساسية، وفى الثانى أسباب الغضب الشديد الذى أثاره
الكتاب لدى اليمينيين من أنصار الرأسمالية وحرية السوق، وهو غضب مفهوم إذ يكشف
الكتاب بوضوح مسئولية الرأسمالية عن تفاقم الظلم الاجتماعى، ولكن لماذا غضب بعض
اليساريين أيضا من الكتاب، رغم تعاطفه الواضح مع الفقراء وضحايا الرأسمالية،
وتقديمه بعض الحلول لمشاكلهم؟ هذا هو السؤال الذى أحاول الاجابة عليه فى هذا
المقال الثالث والأخير عن كتاب بيكيتى.
الكتاب
يتعرض لمشكلة أساسية من المشاكل التى تعرض لها كارل ماركس ، بل إن عنوان كتاب
بيكيتى : (رأس المال) هو نفسه عنوان أشهر كتاب لماركس وإضافة عبارة (فى القرن
الحادى والعشرين) فى العنوان، توحى بلا شك بأن المؤلف (أو على الأقل الناشر) يريد
من القارئ أن يعقد مقارنة بين الكتابين اللذين يفصل بينهما قرن ونصف قرن فما هو
بالضبط الذى يثير حفيظة الماركسيين على الكتاب؟
هناك
أولا اعتبار نفسى محض، يرجع إلى ندرة الاشارة إلى ماركس فى الكتاب لدرجة لم
يتصورها ولا يحبها الماركسيون، وقد تعودنا من كثير من الماركسيين أن يظهروا من
الولاء لكارل ماركس ما لا يقل عن ولائهم لقضية الفقراء، إن بيكيتى يقول فى مقدمة
الكتاب إنه ينتمى إلى جيل كان فى الثامنة عشرة من عمره عندما سقط حائط برلين، وكان
قد بلغ رشده عندما جاءته الأنباء بانهيار الديكتاتوريات الشيوعية، ولم يشعر بأى
نوع من الحنين لهذا النوع من النظم أو بالتعاطف مع الاتحاد السوفيتى كان قد تم
تطعيمى إلى الأبد ضد الخطاب التقليدى فى نقد الرأسمالية ( الذى هو أيضا خطاب كسول)
والذى يتجاهل أوجه الفشل التاريخى للشيوعية ولا يحاول بذل أى جهد فكرى لتجاوز هذا
»الفشل« ولكن المؤلف ذهب إلى أبعد من هذا فى إغضاب الماركسيين ففى حوار أجرى معه
واتهمه فيه محاوره بأنه ماركسى الهوى، قال بيكتى إنه حتى لم يقرأ ماركس. كان صدور
هذا التصريح مدهشا من مؤلف يكتب فى هذه الموضوعات، والذى أرجحه أن بيكيتى لم ير من
اللازم أن يقرأ كل أو معظم كتابات ماركس، بل ولا حتى أن يقرأ كل كتاب (رأس المال)
أو معظمه ففى حديث آخر له قال إنه وإن كان (البيان الشيوعى) الذى كتبه ماركس وانجلز
قد ترك أثر قويا فيه فقد وجد كتاب (رأس المال) مكتوبا بأسلوب شديد التعقيد ووجد
قراءته عملا ثقيلا للغاية (وأنا أتفق معه فى كلتا الملاحظتين).
فإذا
أنتقلنا إلى صميم الموضوع نجد أن المتعصبين لماركس لابد أن يشعروا بالضيق من هذا
الكتاب لأكثر من سبب، نعم إن بيكيتى مثل ماركس، ينتصر للفقراء ولقضية العدل
الاجتماعى، ولكنه يتخذ مسلكا مخالفا تماما لمسلك ماركس، سواء فى نقطة البداية أو
فيما انتهى اليه من نتائج عملية.
إن
نقطة البداية الأساسية لدى ماركس هى إثبات ظاهرة الاستغلال باستخدام مفهوم، »فائض
القيمة« أى حصول الرأسمالى على جزء من قيمة السلعة (وهو الربح) دون أى تضحية من
جانبه، بينما يحصل العامل على أجر تافه مع أنه هو المنتج الحقيقى للسلعة. ماركس
يحاول إثبات الاستغلال ليس فقط اعتمادا على تحليل لما يجرى من توزيع للدخل داخل
المصنع بل وعلى إثارة الشعور الأخلاقى لدى القارئ بأن هذا التوزيع ينطوى على ظلم
بسبب محاباته لحجم التضحية من الجانبين. ذلك أن كلمة »استغلال« لا تنطوى فقط على
وصف لواقع معين بل تعبر أيضا عن كراهية أو نبذ لهذا الواقع، هذا هو أحد الجوانب
المهمة التى تفرق بين كتاب بيكيتى وكتاب ماركس، فبيكيتى استفاد فى رأيى مما دعا
اليه الفكر الوضعى خلال القرن ونصف القرن اللذين أتيا بعد كتاب ماركس، من ضرورة
التمييز الصارم بين وصف وتحليل الواقع وبين اصدار حكم أخلاقى عليه، ليس معنى هذا
بالطبع أن بيكيتى لا يتخذ أى موقف أخلاقى، ولكنه فقط كان أكثر صرامة من ماركس فى
التمييز بين هذا وذاك.
ذكرنى
هذا بما كتبته الأستاذة »جون روبنسون« (Joon Robinson) أستاذة الاقتصاد الشهيرة فى جامعة كامبردج وكانت تتعاطف تعاطفا
قويا مع كثير من الأفكار الماركسية دون أن تسلم بأن كل ما قاله حق، إذ كتبت منذ
نحو نصف قرن إن ماركس نجح فى (دس السم للرأسمالية، ليس عن طريق التحليل العلمى، بل
عن طريق إثارة الشعور الأخلاقى ضدها وأظن ان بيكيتى حاول ونجح فى الفصل بين
الأمرين.
لجأ
بيكيتى فى إثبات مقولته الأساسية (وهى ميل توزيع الدخل والثروة إلى المزيد من اللا
مساواة عبر فترة طويلة من الزمن بسبب ميل العائد على رأس المال إلى الزيادة بمعدل
أكبر من معدل الزيادة فى الناتج القومى إلى استخدام مدفعية ثقيلة من الاحصاءات
تغطى أكثر من قرنين من الزمان، بينما لم يعتمد ماركس على الاحصاءات إلا بدرجة
بسيطة للغاية لإثبات نظرية الاستغلال ومن السهل أن نجد عذرا لماركس فى هذا الصدد
نظرا إلى ندرة الاحصاءات فى عصره، وهو عذر لم يعد مقبولا ممن يكتب فى هذا الموضوع
فى القرن الحادى والعشرين.
ولكن
الاختلاف الأكبر بين بيكيتى وبين الماركسيين هو فى النتيجة العملية التى انتهى
اليها كلا الطرفين للتعامل مع هذا الدافع، إنى أقصد بالطبع مايدعو اليه الماركسيون
من وضع حد لمساوئ الرأسمالية بالثورة. المدهش حقا ليس فقط تمسك الماركسيون،
بالثورة باعتبارها الحل الوحيد المقبول لعيوب الرأسمالية، بل ميل كثيرين منهم إلى
اعتبار الثورة قرب قوسين أو أدنى رغم مرور الزمن عقدا بعد عقد (بل قرنا بعد قرن)
دون أن تحدث هذه الثورة المأمولة بيكيتى لا يقع فى هذا الخطأ، بل يدعو الدولة إلى
علاج اللا مساواة بتطبيق نظام صارم للضرائب إن معظم الماركسيين لابد أن يستسخفوا
هذا الرأى بسبب تأكيدهم على أن الدولة فى ظل الرأسمالية ليست إلا أداة طيعة فى
أيدى الرأسماليين أنفسهم ومن ثم لا يمكن أن تفعل ما يتعارض مع مصالحهم، ولكن لابد
أن بيكيتى يستلهم فى توصياته فى نهاية الكتاب، ما فعلته الدولة بالفعل فى بلاد
أوروبا الغربية فى الربع قرن التالى لنهاية الحرب العالمية الثانية، من تطبيق نظام
صارم للضرائب، وتعميم نظام »دولة الرفاهية« التى حسنت بشدة من أحوال محدودى الدخل
وخفضت من درجة اللا مساواة.
نعم
قد تكون الدولة فى نهاية الأمر »أداة طيعة« فى يد الرأسماليين ولكن لماذا لا نعترف
بأن الرأسماليين أنفسهم قد يقبلون أن تقوم الدولة بعمل طيب، ولو أحدث بعض الضرر
بمصالحهم إذا كان هذا ضروريا لتجنب »الثورة«، هكذا تعرض كتاب بيكيتى من جانب
اليمين واليسار على السواء ألا يمكن أن يكون فى هذا ما يرجح أن الرجل قد يكون
قريبا جدا من الحقيقة؟ نقلا عن الأهرام