المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د.يوسف زيدان
د.يوسف زيدان

منظومة القيم المصرية (الحب)

الأربعاء 02/يوليو/2014 - 11:09 ص

بعد تداعيات التمرُّد على حُكم الإخوان، ثم إزاحتهم، شاعت بأنحاء مصر حالةً مريعةٌ تنوَّعت أيامها فواجعها، فكان من بينها: إلقاءُ الصبيان من فوق الأسطح، السبابُ الرقيع على شبكة التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) وتويتر والمواقع الإلكترونية الموجهة، القتلُ العشوائى فى الشوارع، الشتاaئمُ المقذعة على الجدران والحوائط، انفلاتُ أَلْسنة الإعلاميين (على الهواء).. وغير ذلك من الظواهر التى دعتنى أيامها لكتابة عبارة «إشارة» على صفحتى الفيسبوكية المحتشدة بالمتفاعلين، كان نصُّها: مصر صارت وطناً للكراهية والمقت.

ولأننى أعتقد، بل أؤمن، بأن أعراض الأمراض تُعالج بأضدادها. فقد فتحتُ فى تلك الفترة نافذةً جديدةً على صفحتى المشار إليها، للتعامل مع الحالة التى كانت سائدة والتفاعل مع المتابعين على قاعدة العلاج بالضدّ، وأسميتُ هذه النافذة «فقه الحب» ورحتُ من خلالها، أصوغ بلاغياً تلك المعانى والمشاعر الغائبة عن الوجدان العام، لتوجيه الأنظار إلى هذا الأفق المفقود الذى لا يمكن إذا اندثر، أن يظلّ الإنسانُ إنساناً.

وقبل أيام، راسلنى أحد أصدقاء صفحتى متسائلاً عن نقطةٍ دقيقةٍ، وقائلاً ما مفاده أنه سمعنى فى إحدى ندواتى بصالون القاهرة، أقول إن الحب اختراعٌ مصريٌّ قديم. فكيف أتوغَّل فى مفاوزه عبر نافذة «فقه الحب» وأُحلِّق بالقرَّاء فى سماواته العُلي! ولما هممتُ بالرد عليه، هناك ، بدأتُ كلامى من دون قصدٍ بهذه العبارة : الحب قيمة كبرى .. لكن الكلام استطال، فتوقّفتُ، ورأيتُ الأنسب أن يكون الكلام مُفصّلا فى مقالةٍ خاصةٍ من مقالات هذه «السباعية» التى نستعرض فيها حال ومآل (منظومة القيم المصرية).. وذلك لأهمية هذه النقطة الحيوية، وارتباطها بالأمر المطروح فى مقالاتنا هذه.

هل الحبُّ قيمةٌ؟.. هذا سؤالُنا الأول، الذى يعود بنا بالضرورة إلى «الأصول» الأولى للحضارة (يعنى إلى مصر القديمة). وصحيحٌ أن مصر القديمة لم تضع أصول الحضارة جميعها، وحدها، وإنما تزامن ذلك مع البدايات السومرية بجنوب العراق، ومع البواكير الصينية والهندية بأقصى الشرق الآسيوي. ولكن البصمة المصرية فى وجدان الحضارة الإنسانية، كانت أوضح وأشد ظهوراً بسبب التواصل الحضاري، وانتقال مشعل الحضارة على التوالى من الزمن المصرى القديم، إلى اليونانى القديم، إلى العربى الإسلامي، إلى الأوروبى الحديث والمعاصر.. وفى خضم التأسيس المصرى المبكر للمجتمع الإنسانى (قبل عصر الأسرات) ظهرت تصوُّرات مصرية مُبتكرة،لم نجد مثيلاً لها فى ذاك الزمان عند غير المصريين.

فمن ذلك «التأسيس» سماتٌ إنسانية جوهرية، صارت اليوم معلومة لكل البشر، وكانت مصر القديمة أول مَن اخترعها وآمن بها، مثل: الضمير،كما أوضح هنرى برستيد فى كتابه الشهير: فجر الضمير.. والحب، حسبما ظهر فى كتاب العلامة سليم حسن: الأدب المصرى القديم.. والاعتقاد بوجود عالم آخر يُحاسب فيه الإنسان بعد موته (لم يستعمل المصرى القديم لفظ «الموت» وإنما عبر عنه بقوله: الخروج إلى النهار).. وغير ذلك من التصورات المحورية كالثالوث المؤلّه، والتاسوع المقدس، وطاقة الشكل الهرمي، وقداسة الأنثي، وضرورة تطهير الذَكَر بقطع جزءٍ من ذَكَره ليتأهَّل للاقتران بالمرأة التى هى صورة الربة المعبودة «إيست» التى صرنا اليوم نُسميها: إيزيس.. وهو النطق اليونانى لاسمها.

وعلى ما سبق، فقد قدّمت مصر (اخترعت) للإنسانية الحب، وجعلته أصلاً من أصول التحضُّر الإنسانى والرقى البشري، عبر ما لاحصر له من عمليات الدعم الاجتماعى للفكرة، والتعبير عنها بصورة أدبية تثير الخيال (ولا حب، إلا بحضور الخيال) ولذلك كانت أول نصوص عن «الحب» هى ما جاءت فى الأدب المصرى القديم.. وهو ما تطور بعد ذلك فى الأزمنة التالية، وتفنّن فيه الفنّانون وأبدع الشعراءُ، واستهوى الراقية مشاعرهم من بنى البشر فى كل مكانٍ وزمان .

ولأن مصر هى التى قدمت للإنسانية هذا المفهوم لأول مرة، فقد صار على المصريين أن يتوغّلوا فى «فقه الحب» ليتواصلوا مع ذاتهم الغائبة عن وعيهم، وليعصموا أنفسهم من متاهات الكراهية والمقت الذى تعود بالناس إلى الحالة البدائية الأولى، العنيفة، التى سادت طويلاً قبل وضع أصول وأسس الحضارة.. وبالمناسبة، لا تزيد فترة الحضارة الإنسانية على هذه الأرض، عن عشرة آلاف سنة (أو سبعة، فى قولٍ آخر) بينما يعيش النوع البشرى على هذا الكوكب المسمّى الأرض، منذ قُرابة مليون سنة. فتأمّلوا!

هل للحبِّ قيمةٌ؟.. لا نريد التطويل فى إجابة هذا السؤال الآخر، الأخير، إذ يكفى أن نورد إشارات سريعة إلى اعتقاد فلاسفة اليونان القدماء، وقولهم بأن المبدأ الذى يتحكّم فى العدم والوجود أو يفرِّق بين المعدوم والموجود، هو: الحب والكراهية.. فبالحب تجتمع الأشياء (الذرات) وتتشكّل الموجودات فتخرج من العدم، وبالكراهية تفترق عناصر الأشياء وينتفى وجودها فتعود إلى العدم.

ولتأكيد قيمة الحب، قد تكفى الإشارة إلى المفهوم المسيحى (الله محبة) وإلى أولى مواعظ السيد «المسيح» المسماة موعظة الجبل، وهى التى كان موضوعها «المحبة».. وقد تكفى الإشارة إلى ما ورد فى القرآن الكريم من تأكيد «الحب» بين العبد وربه (الله يحب أولاً، بنص الآية : يحبهم ويحبونه) وهو ما تبحَّر فيه الصوفية ابتداءً من رابعة العدوية، وانتهاء بكبار الأولياء الذين قالوا بوضوح تام: المحبةُ آخرُ درجةٍ من درجات العلم، وأولُ طورٍ من أطوار المعرفة.. (وقد تحدثنا عن العلم والمعرفة، فى مقالة الأربعاء الماضي).

إن التراث الإنسانى كله، يدعم بنسب متفاوتة مفهوم «الحب» ويؤكِّده، بما لا يدع مجالاً للشكّ فى قيمة الحب بأطواره المختلفة، التصاعدية: الإعجاب، الشغف، الحب، العشق، الصبابة، الوجد.. وتجلياته المختلفة، المتماسّة أحيانا مع الرغبات البشرية الفطرية: الأمومة، روح الأبوة، شغف النوع بالنوع الآخر، الارتواء الحسّي.

وهكذا صار الاختراعُ المصريُّ القديم (وقد نُخفّف وقع الكلمات، فنقول: الابتكار المصرى القديم) قيمةً إنسانيةً لا غنى عنها فى أى مجتمع.. ومن لديه اليوم شكٌّ فى قيمة الحب، فهو على أحسن تقدير: لا يعرف معنى الإنسانية. وعلى أسوأ تقدير، هو لا يستحق وصف «إنسان» . نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟