فيما يبدو أن هناك اتفاقاً بين غالبية المراقبين للشأن
العراقي على أن تخلي السيد نوري المالكي عن مساعيه للحصول على دورة ثالثة كرئيس للوزراء
سيفتح المجال أمام تخفيف الاحتقان السياسي ويعطي فرصة لقيام حكومة ذات مقبولية أوسع،
علينا أن ندرك أن تنحي المالكي لن يكون وحده كافياً لحل مشاكل البلاد الكبرى ما لم
تتبعه خطوات جدية لإصلاح بنية النظام السياسي العراقي.
يتحمل المالكي الكثير من المسؤولية عما آلت اليه الأمور،
وعن تعميق الانقسامات الطائفية، والإخفاق في الوصول الى حلول لأبرز مشاكل البلاد على
رغم شغله منصب رئيس الوزراء لثماني سنوات. مع ذلك، فمن الخطأ تحميله وحده المسؤولية
عن كل معضلات العراق، واختزال كل شيء برحيله عن منصبه.
علينا أن نتذكر ان العراق لم يكن مكاناً مثالياً عندما
شغل المالكي منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى في 2006، بل كان يعيش في ظل عنف أهلي مستشر
وانقسامات عميقة. في الحقيقة، جيء بالمالكي الى موقعه بوصفه قيادياً من الصف الثاني
وليست لديه قاعدة شعبية خاصة به وأنه سيخضع لتحكم الأحزاب الكبيرة التي تقاسمت معظم
المواقع التنفيذية الرئيسية في الدولة. لقد قام النظام التوافقي على آلية غير فعالة
للشراكة تقوم على تقاسم المناصب الحكومية بين الأحزاب الممثلة في البرلمان، وبشكل تتحول
معه وزارات ومؤسسات الدولة إقطاعيات لتلك الأحزاب تستخدمها لتوسيع وتدعيم شبكات الزبائنية
الخاصة بها، خصوصاً أن العراق بلد يستند اقتصاده إلى الريع النفطي الذي يوزَع القسم
الأكبر منه على تلك الوزارات والمؤسسات.
نتيجة لذلك، وجد المالكي نفسه يترأس حكومة منقسمة وغير
فعالة وغارقة في الفساد، واعتقد انه سيكون مجرد كبش فداء تتم التضحية به بعد انتهاء
الدورة الانتخابية. كان ذلك أحد الأسباب التي دفعته الى محاولة بناء نفوذ شخصي له في
مؤسسات الدولة مستغلاً الفراغات التي نشأت عن عجز القوى الرئيسة على التوافق حول شغل
بعض المناصب. وتدريجاً وسّع المالكي شبكات الأتباع والمريدين المرتبطين به في المؤسسات
الحكومية والأمنية، وساعدته الأوضاع الأمنية في تبرير تعاظم تأثيره المباشر بعمل الأجهزة
العسكرية، بحيث أجرى تغييرات هيكلية مهمة فيها وزرع فيها أشخاصاً موالين له شخصياً.
وفي النهاية نجح المالكي تدريجاً ببناء دولة في داخل الدولة، وبات نفوذه الشخصي في
المؤسسات الحكومية يفوق نفوذ معظم القوى الأخرى، بما فيها نفوذ حزبه «الدعوة».
كذلك نجح في تبرير هذا التركيز للسلطة بخطاب ناقد بشدة
لمحاولة الأحزاب السياسية عرقلة عمل الدولة وقيامها بتقاسم النفوذ والموارد بينها على
حساب حاجة المجتمع والمواطنين، وحاول مراراً اتهام تلك الأحزاب بإعاقة عمل حكومته وإظهارها
وكأنها جماعات مافيوية لا تهمها أبداً مصلحة البلد. وفي الحقيقة لقي هذا الخطاب صدى
لدى قطاعات واسعة من العراقيين المتعبين من الفوضى وحالة عدم اليقين. وساهم هذا الخطاب
في تنامي شعبيته الشخصية وليس شعبية حزبه، فالمجتمع العراقي ما زالت تطغى عليه ثقافة
سياسية تحمل شكاً عميقاً بنيات وسلوك العمل الحزبي، وتميل إلى البحث عن الرجل القوي،
وهي لم تخرج بعد من النسق الثقافي لفكرة «المستبد العادل».
وأقنع المالكي الكثيرين من الشيعة العراقيين بأنه لا
يتحمل مسؤولية الإخفاقات الحكومية، ووعد في الانتخابات الأخيرة بتشكيل حكومة غالبية
تضع حداً لتقاسم السلطة بين الأحزاب التي تعرقل عمله. والأرجح ان المالكي وبعد التطورات
الأخيرة في العراق لن يكون قادراً على تحقيق وعده، لكن الواضح ان العودة الى التقاليد
السابقة في تقاسم السلطة والموارد، من دون وجود نهج حكومي واضح ومعالجة للمشاكل الجذرية
التي شهدها النظام السياسي، لن تكون سوى مقدمة لارتكاب المزيد من الأخطاء الجديدة.
وهناك شيء آخر يتعلق بميل الكثيرين من المراقبين الى
القول إن المالكي اتّبع سياسة طائفية أدت الى تعميق الشعور بين السنّة بالتهميش، ومهدت
الطريق للجماعات الجهادية السنية كي تستغل السخط الشعبي للسيطرة على معظم المناطق السنية.
وعلى رغم ما في هذه الرؤية من صواب، فإنها أيضا تختزل الأمور في «شخصية المالكي» ولا
تنظر الى ذلك بوصفه نتاج البنية السياسية التي تم استحداثها بعد 2003. فالحقيقة ان
نظام الحكم الحالي استند الى حد كبير على رؤية مفادها بأن العراق يتكون من ثلاث جماعات
رئيسة هي الشيعة والسنة والكرد، وأن النظام يجب ان يقوم على التوافق بين ممثليها. وأدى
هذا الفهم الى أن يعمد السياسيون الى تقديم انفسهم بوصفهم ممثلين مخلصين للجماعة الإثنية
والطائفية التي ينتمون إليها لكسب القاعدة الشعبية. وبالنتيجة كان على كل الأحزاب الرئيسة
التحول الى أحزاب اثنية او طائفية كي تبقى ضمن اللعبة السياسية، في الوقت الذي شهد
تأثير القوى التي تبنت خطاباً علمانياً وغير طائفي انتكاسات كبيرة.
والمعروف ان سياسات الهوية تعمق الشكوك المجتمعية المتبادلة
وتزيد الانقسامات، وتجعل السياسيين يركزون كثيراً على عنصر الولاء على حساب غيره من
العناصر. وبالتالي، تصرف المالكي وفق قواعد اللعبة التي أرسيت، وعلى رغم كونه رئيس
وزراء، ما يرتب عليه ان يتخذ مبادرات ومناهج تسمح بإصلاح النظام والخروج على هذه القواعد،
تصرف بشكل غريزي وسعى لتوطيد قاعدته الشعبية الطائفية كي يقوّي نفوذه. وكان هناك رهان
بعد نجاح المالكي في تطهير محافظة البصرة من الميليشيات الشيعية في 2008 بأنه ربما
بدأ يتصرف كرجل دولة وليس كسياسي حزبي تكتيكي وحسب، لكن نتائج الانتخابات البرلمانية
في 2010، والتي احتل فيها ائتلافه المركز الثاني، عمّقت لديه الشعور بوجود مؤامرة تستهدفه،
ودفعته الى ان ينكص مجدداً الى السياسات الهادفة الى البقاء، بدل سياسات بناء الدولة
التي تتطلب قدرة على الانفتاح وتوسيع مجالات الشرعية.
فمرحلة ما بعد المالكي يجب ان تكون بداية لعملية إصلاحية
حقيقية تعالج المشاكل التي أدت به الى اعتماد سياساته المعروفة وعمّقت ميوله السلطوية
والإقصائية وميله لاحتكار السلطة والاعتماد على السياسات الزبائنية بديلاً من العمل
المؤسسي. وتقع المسؤولية الآن على الطبقة السياسية العراقية كلها لتعمل على تحقيق إصلاحات
عميقة في بنية النظام، وأن لا تعتبر تنحّيه، إن حصل، مجرد فرصة للعودة الى ما كانت
عليه الأمور بداية العام 2006 حينما تولّى منصب رئيس الوزراء. نقلا عن الحياة
* باحث وجامعي عراقي