المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

الحداثة الجريحة... الحداثة المبتورة

الخميس 27/نوفمبر/2014 - 10:53 ص

لماذا تقدموا، ولماذا تخلفنا تاريخياً؟ السؤال الذى بدى ولايزال وجودياً وكينونياً للنخب السياسية، وللصفوة المتميزة للمثقفين منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى الآن؟ أجيال وراء أخرى والسؤال مستمر،

 ويحمل فى أعطافه بعضا من الانكسارات النفسية، والهموم الكثيفة. اختلفت صياغات السؤال من مرحلة لأخرى بحسب التغير فى نظريات التخلف والبحث فى أسبابه وعوامله ومساراته، وتحليلها ومعها نظريات ومقاربات التنمية عموماً والسياسية خصوصاً، والسؤال التاريخى ينتقل من مفهوم التقدم إلى مفاهيم أخرى - التطور والتحديث والحداثة وما بعدها، والعولمة وصيروراتها -، ولايزال غائراً، وعديد الإجابات تقدم كأحد التمرينات النظرية والتطبيقية على مسارات وأعطاب تعامل النخب المصرية منذ نهاية القرن التاسع عشر مع هذا السؤال المركزى؟

بدأت الإجابة عن السؤال من خلال إدراك سلطوى بضرورة إحداث تغييرات فى الدولة ذاتها، لإمكانية تحقيق الطموحات «الإمبراطورية» لمحمد على خارج حدود البلاد ونزعته «الاستقلالية» إزاء الإمبراطورية العثمانية المريضة. من هنا ارتكز التغير على نمط من الذرائعية السلطوية التى ربطت بين أهداف محمد على، وبين عمليات بناء الدولة وتنظيمها إدارياً، وقانونياً، وإعداد جيش جديد يعتمد على التنظيم والتسليح الحديث والتدريب الذى تأخذ به الجيوش الأوروبية الحديثة. بدأ التحول انطلاقاً من الجيش والقانون والإدارة والبعثات إلى فرنسا، لاسيما فى عهد إسماعيل باشا. كان التحديث السلطوى للمؤسسات والقيم هو أحد مداخل بناء الدولة الحديثة، ثم استمر مع بدء الحركة القومية الدستورية الكفاحية للتحرر من الاستعمار البريطانى، والربط بين الاستقلال وبين الدستور كرمز له، ونظام للحقوق والحريات، وعلامة على الدولة الحديثة.

أنها الحداثة المبتورة والمرتبكة على مستوى القناعة بها، وبمكوناتها ومعالمها، وآلامها العميقة، والتحديث المرتبك والآداتى المادى، والسؤال كيف؟

يعود ذلك - فى تقديرى وأرجو ألا أكون مخطئاً - إلى أن الحداثة المبتسرة أو المضطربة والمعطوبة من خلال التحديث المادى، كان مدخلها الرئيسى هو التحديث القانونى السلطوى للانتقال من نظام المكانة إلى الهندسات القانونية المدنية الحديثة، من خلال تعريب الأنساق القانونية الأساسية من المرجعية القانونية اللاتينية- القانونان الإيطالى والفرنسى - ودستور 1923 من المصدر البلجيكى. وكان الاستثناء يتمثل فى نظم الأحوال الشخصية - قانون الأسرة - الذى ترك للشرائع الدينية الإسلامية، والمسيحية واليهودية.

 

الجوانب الإيجابية للتحديث القانونى السلطوى تمثل فيما يلى: 1ـ تم إنتاج نخب شبه حديثة عبر الجماعة القانونية من القضاة والفقه والمحامين الذين شكلوا أحد أبرز مكونات النخب السياسية والثقافية، وقادة أجهزة الدولة البيروقراطية.

2ـ بناء مؤسسات سياسية وإدارية وقضائية حديثة.

3ـ تشكيل بعض منظومات الأفكار السياسية والاجتماعية والثقافية الحديثة المهجنة والمبتسرة، وذلك من خلال الاستعارات القانونية وفى بناء الدولة وأجهزتها، وفى نمط المعمار الحديث الذى تبلور فى القاهرة والإسكندرية وبعض المدن المصرية الأخرى، ومع وجود جاليات أجنبية ومتمصرين، ومن ثم تم تشكيل أفق وفضاء حداثى مصرى مفتوح على أوروبا أساساً، وعلى نحو أدى من خلال الاستعارات الثقافية الأخرى إلى تبلور نظم أفكار تنتمى إلى عائلات فكرية وفلسفية عديدة، من خلال المجتمع شبه المفتوح، والأفكار شبه الليبرالية، والقومية، والماركسية، ومعهم تشكلت الأحزاب السياسية العلنية والسرية، والبرلمانات، وانتلجنسيا مصرية.

العطب الرئيسى فى هذه الحداثة المبتسرة أو الجريحة تمثل فى أن بنى الأفكار الوافدة فى السياسة والاجتماع بل والقانون، تم تقديمها إلى الحياة المصرية فى ظل حضانات الفكر التقليدى. كانت نشأة الأفكار فى الغرب أساساً وكانت عملية استعارتها مدخلاً للتحديث أو النهضة أو التقدم أو التطور أياً كان المصطلح السائد وتبريراته وسياقاته آنذاك. اعتمد بناة الحداثة المصرية على تقديم هذه الأفكار بعد إضفاء مجموعة من التحويرات والتبديلات إن لم نقل إعادة الصياغة والحذف، وفى إطار نسق لغوى تقليدى فى بعض الأحيان على نحو أدى إلى ابتسارها، ناهيك عن محاولة الدمج بين منظومات الأفكار الحديثة وبين مجموعات الأفكار التقليدية على نحو توفيقى أو تلفيقى على الرغم من التناقضات فى المنطق الداخلى لكل منظومة إفكار.

ساهمت الدولة وأفكار الحداثة القانونية والسياسية فى عمليات أقلمتهم وتوطينهم، وإضفاء المشروعية الدينية والسياسية عليهم اعتماداً على حضانات الفكر التقليدى ومسوغاته الدينية والقيمية على نحو أدى إلى إعاقة ميلاد حداثة مصرية ذات مشروعية لصيقة بها، وتمثل نعتاً وصفة من طبيعتها، لا من طبائع متنافرة معها أو مغايرة لها. هذه الإشكالية، تضافرت معها إشكالية أخرى، مازالت لم تخضع للدرس والفحص النظرى، والتحليلى، والتطبيقى، وهى الآثار السلبية لظاهرة التثاقف بين أنظمة ثقافية مختلفة فى المثال المصرى، هذا التداخل والتفاعل، عبر الترجمة أدى ولا يزال فى الكثير من الأحيان إلى خلخلة وابتسارات عديدة، وهذا الابتسار الذى يتم عبر عمليات التثاقف، والاستعارة الثقافية أدى ولا يزال إلى تساقط وحذف وانتقائية ساهمت فى بث تناقضات داخل الثقافة الأخرى.

من هنا يمكن فهم بعض أسباب عجز النخب السلطوية المصرية منذ بناء الدولة الحديثة وحتى الآن عن تقديم إجابة خلاقة لسؤال لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدموا؟ حتى هؤلاء الذين بدأنا قبلهم فى مشروع التحديث كاليابان، وهؤلاء الذين بدأوا بعدنا فى عقد الستينيات من القرن الماضى ككوريا الجنوبية وماليزيا وأندونيسيا.


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟