الظاهرة الحزبية فى عالمنا تواجه عديدا من التغيرات، منذ ظهور أزمة المحكومية فى عقد السبعينيات من القرن الماضى، وتمدد الفجوات بين المواطنين فى أوروبا الغربية، والأحزاب السياسية اليمنية واليسارية والوسطية، وتراجع اهتمامات قطاعات أساسية عن المشاركة فى الأنشطة الحزبية، وذلك لمصلحة الاهتمامات النوعية للأفراد ونزوعهم إلى التركيز على هذه الأنشطة فى المجالات التى يميلون إليها، ومن ثم التشظى إلى مجموعات صغيرة ونوعية، وساعد على ذلك التحولات فى الحداثة نحو الانتقال إلى الحداثة العليا أو الفائقة بتعبير هابرماس، أو إلى المجتمعات ما بعد الحديثة، وفق ليوتار وأكد أن هذا التوجه تراجع، وانكسار السرديات الكبرى - الإيديولوجيات والأنساق الكبرى - لمصلحة نمط من الإيديولوجيا الناعمة التى تتمثل فى منظومة حقوق الإنسان بأجيالها المتعددة، وأنساقها المتعددة التى تناسلت من الجيل الأول، حول الحريات الدينية والحقوق الثقافية والاجتماعية والمواطنة والأقليات والمجموعات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية والجنوسية/ الجندرية.. الخ. من ناحية أخرى تقارب فى الرؤى والأفكار والبرامج السياسية للأحزاب أياً كانت المرجعيات الفلسفية والإيديولوجية التى تأسست عليها.
ساعد على هذا التحول فى الظاهرة الحزبية، نشأة مجتمع الاستعراض بتعبير ـ جى ديبور - وبروز تمثيلات اجتماعية وسياسية مرتبطة بالاستهلاك المفرط على نحو أدى إلى تراجع ما هو حقيقى لمصلحة ما هو استعراضى، وشكل هذا التغير النوعى فى طبيعة المجتمعات الرأسمالية الغربية، إلى ظواهر التشظى والمحاكاة الساخرة، على نحو ما كرسه انكسار الإمبراطورية الفلسفية الماركسية ومعها تفكك الكتلة السوفيتية ومعها الدول الاشتراكية فى أوروبا الشرقية، وسقوط حائط برلين، وتوحد ألمانيا، وبعدها التحول فى هذه الدول إلى اقتصاديات السوق والليبرالية الغربية، وإعادة صياغة الجغرافيا السياسية لأوروبا الشرقية، وما شهدته بعدئذ من «ثورات» برتقالية ومخملية.
إن المفاهيم والهويات المتخيلة الكبرى التى بنيت عليها وحولها المجتمعات الحديثة، ومفاهيم السيادة والحدود انكسرت بعض معالمها وقوادمها، ومن ثم برزت أزمات وإشكاليات الهوية، والانتقال من السرديات القومية إلى هويات فرعية دينية ومذهبية وعرقية ومناطقية ونمط من القبائل الإيديولوجية على بعض من نثارات ورماد السرديات المؤسسة للاندماجات القومية والاجتماعية حول الدولة القومية. لا شك أن هذه التحولات نحو المابعديات، - ما بعد القومية، والحداثة، والثورة الصناعية الثالثة، وظهور الثورات الاتصالية والمعلوماتية، والرقمية - أدت إلى ثورات ناعمة فى الأنساق الكبرى والهندسات السياسية والاجتماعية والقانونية، ومفاهيم السيادة على نحو نستطيع أن نلحظ معه تغيرات تتم فى تسارع وتلاحق مكثف ونوعى، فى ظل العولمة وعملياتها وصيروراتها، والهدم والبناء الجديد لعالم مختلف.
منذ التحول إلى الشرط ما بعد الحديث والعولمة، تأثرت الظاهرة الحزبية فى المجتمعات الأكثر تطوراً، سواء على صعيد تجميع المصالح أو التعبير عنها، أو التعبئة والحشد السياسى.
يعود هذا التغير إلى بروز المجال العام الافتراضى والثورة الرقمية، ومن ثم تأثير هذه الفضاءات الجديدة التى لا حدود للحريات فيها على الظواهر السياسية عموماً والحزبية خصوصاً. هذا المجال العام الافتراضى تشكلت فى نطاقاته الواسعة، مجموعات جديدة على مواقعة تلعب أدواراً ووظائف سياسية واجتماعية وثقافية ومهنية ودينية عديدة، يمكن لنا رصد بعضها تمثيلاً لا حصراً فيما يلى:
1- انفجار المواقع الافتراضية من المدونات إلى مواقع التواصل الاجتماعى الأخرى تويتر، وفيس بوك وغيرها - حول عديد القضايا والاهتمامات والمصالح المعبر عنها فى هذه المواقع على تعددها وتنوع أفكارها ووظائفها.
2- تعبير مواقع التواصل عن المصالح والدفاع عنها أيا كانت نوعيتها ومجالاتها.
3- أداء وظائف الأحزاب السياسية فى التعبئة والحشد وممارسة الضغوط السياسية، وفى التأثير على بعض قطاعات الرأى العام الافتراضى والواقعى.
4- الجدل والتفاعل السياسى بين المجال العام الافتراضى والواقعى.
5- ظهور مجالات عامة كونية وإقليمية ووطنية وسقوط الحواجز والحدود بين الدول والمجتمعات والأفراد، وبدء تشكل المواطن الكونى، من خلال الثورة الرقمية فائقة التطور الاتصالى والمعلوماتى ووسائطهم المتعددة.
التغيرات الجديدة والنوعية أثرت على الظاهرة الحزبية التى تواجه تحديات نوعية كبرى، وحاولت الأحزاب السياسية الاستجابة لها، ومواكبتها إلا أنها تواجه تغيراً نوعياً، ومن ثم يرتبط تطورها بكيفية مواجهة النخب السياسية الغربية، لطبيعة هذه التطورات الهيكلية التى ستعترى النظم السياسية الغربية، والثقافة السياسية، والأحزاب التى لا تزال هى الوعاء الرسمى لتجميع المصالح السياسية والتعبير عنها وتمثيلها من خلال منظومة التنافس السياسى بين القوى الاجتماعية والسياسية. والمأزق الراهن يتمثل فى تشكل أوعية ومنظومات للتعبير عن المصالح من خلال المجال العام الافتراضى، ومواقع التفاعل داخله، وفى بروز المنظمات الطوعية على المستويات القومية والإقليمية والكونية ومنافسة هذه المنظومات للأحزاب السياسية. أن بشائر التحول فى الهندسات السياسية والقانونية والاجتماعية، تبدو ملامحها فى التشكل بينما هندسات الدولة القومية، والمفاهيم المتخيلة الكبرى حولها كالأمة والقومية تتراجع، وتنكسر، وهنا تتجلى أحد الإشكاليات الكبرى التى تواجه عصرنا ومجتمعاتنا وأنظمتنا والنخب السياسية فى شمال العالم. والسؤال ما أثر ذلك على موروث أزمات الظاهرة السياسية والحزبية فى مصر والعالم العربى؟. وهو ما سوف نتناوله فى المقال التالى.